أن أقرأ قليلا… وأفهم!

حجم الخط
2

بعد تمزيق غلاف النايلون الرقيق، أول ما أفعله هو الانتقال إلى الصفحة الأخيرة من الكتاب لأعرف كم هو عدد صفحاته. ينبغي أن لا تزيد عن الثلاثمئة، والأفضل أن تقل عن المئتين. دأبي هو في تقليل عدد الصفحات، لذلك أجدني راجعا إلى البداية، إلى أول الكتاب لأرى في أي صفحة يبدأ. هذا سيخفض عدد ما سأقرأه سبع صفحات، أو تسعة، أو إحدى عشرة صفحة أحيانا. ثم هناك الفراغات ما بين الفصول، تلك الصفحات البيضاء، أو نصف البيضاء التي يمكن احتسابها بسرعة اعتمادا على عدد الفصول.
هكذا، في نهاية هذا المطاف السريع الذي لا يستغرق أكثر من دقيقتين أستطيع أن أعرف ما هو العدد الفعلي لصفحات الكتاب، أقصد الصفحات الممتلئة، على ما هي منقوشة على الرقم الفخارية، أو الألواح الحجرية مثل حجر رشيد.
أحيانا يأخذني ذلك إلى الظن بأني لا أحبّ القراءة، عندما كنت تلميذا في المدرسة أستهول ما كان يقوله الزملاء عن شبّان يحفظون كلمات القاموس الفرنسي- العربي عن ظهر قلب، بل كان زملائي يتابعون مسير هؤلاء في الحفظ فيقولون عن أحدهم مثلا إنه وصل إلى حرف الـ K. وأنا أتلقى ذلك مشبّها مسيرة الحافظ وهو يحفظ برحلة يحاول فيها مشّاء أن يقطع، سائرا على قدميه، مسافة خطّ الاستواء. ناهيك عن أفكار أخرى كانت تخطر لي بينها، كيف سيستطيع ذلك الحافظ للقاموس أن يفتّت تلك الكتلة الهائلة من الكلمات المتراصّة، كيف سيستطيع تخليص الكلمة الواحدة من ذلك الجلمود.
أجمل الكتب التي قرأتها هي تلك الصغيرة. «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل مثلا، أو «موت في البندقية» لتوماس مان أو «ملك الذباب» لوليم غولدينغ. ولست أنا وحدي في ذلك، إذ من المعلوم أن هذه الكتب هي في قائمة الكلاسيكيات الأدبية الخالدة. هذا لا يعني أنني لم أُقبل على قراءة كتب كبيرة. كتاب «البحث عن الزمن المفقود» بدأت بقراءته لكنني، كما فعل غيري، توقّفت عند الصفحة 100، أو حولها لخوفي من طول طريق القراءة الممتدّة أمامي. وهكذا فعلت مع كتاب جيمس جويس، «عوليس» الذي كان لزاما عليّ أن أقرأه، لكثرة ما قال النقاد أنه أهم رواية كتبت في القرن العشرين. لم أكمله هو أيضا، بل اكتفيت، لسداد النقص، بقراءة ما كتبه الناقد المصري طه محمود طه عنه في كتابه الذي أعطاه عنوان «موسوعة جيمس جويس».
لم أقرأ الكثير من صفحات الكتابين لكنني، مع ذلك، فهمتهما. وقد أدركت ذلك (أنني فهمتهما) وأنا في إبّان القراءة، ذلك لأني عرفت أشياء كثيرة مما قرأته، أقصد من أسلوب الكاتب والطريقة التي بها يتذكّر ما سيكتب عنه، وكيف هي جمله. هذا وكنت، في دعمي لنظريتي تلك أقول، إن الواحد منا ليس بحاجة لأن يبقى محدّقا ساعة أو ساعتين في وجه رجل حتى يعرفه. تكفي النظرة اللماحة، تلك التي يشير لها البحتري لدى تعريفه ما هو الشعر.
مما سبق، ينبغي ألا يُفهم مني أنني لا أحب الكتب الكبيرة، أي كثيرة عدد الصفحات. ألأغلب أنني أحترمها، حتى لو لم أستمرّ في قراءتها. أحترمها لكبرها، ولصبر كتّأبها على كتابتها. أنا نفسي أعاند قلّة صبري على ما أكتب، فتراني أقوم كل خمس دقائق لأني تعبت من الكتابة، لكنني مع ذلك، وكأي شخص يحبّ الكتابة، لا أجد نفسي إلا متأثرا بأولئك الذين يقضون نهاراتهم ولياليهم بين الكتب. هؤلاء، أحبّ أن أكون واحدا منهم، بل أن أزيد على مظهري وأنا هناك في الغرف المختنقة بالكتب، ثيابا مخصّصة للشغل الشاق، كتلك التي يرتديها قصّابو الحجارة وعمال المناجم.
في كل صورة أشاهدها لألبرتو مانغويل، وهو أكثر عابد للكتب والمكتبات في عصرنا، أفكّر أن بشرة وجهه ابيضّت هكذا من كثرة ما حبس نفسه هناك في مكتبته، التي كانت في الأصل ديرا أو كاتدرائية. وهكذا أفكّر أيضا بخورخي بورغيس، ذاك الذي يقرّ مانغويل بأنه أكثر منه تعلّقا بالكتب. في صور هذا الأخير يبدو، وهو في الخارج، كأنه هائم على نفسه لا يعرف في أي اتجاه يذهب.
على أيّ حال أرى أن ميلي نحو الإقلال من عدد الصفحات بات شائعا بين الكثيرين. صارت الكتب تميل إلى الصغر وها إنني، في المكتبة، أرى كتبا كان كتّابها أكثر ضيقا مني بالإطالة. هي ستة كتب أو سبعة كتب، روايات، جرى التخفيف من اسم نوعها فصار «نوفيلا» أي تصغير لكلمة «نوفل» بالإنكليزية. لم يعجبني ذلك، أي أن يذهب آخرون إلى أبعد مما كنت أريده.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Qusay Lubani:

    عندما قرأت الجريمة والعقاب ل دوستويفسكي أول مرة، كنت مفتونا بتفاصيلها وأحداثها، وكنت مع ذلك أشعر بالسأم من الفصول الطويلة، التي كان معظمها سيلا من الكلمات الكثيرة، على لسان شخصيات قليلة، تعبر عن فكرة واحدة أو فكرتين، تعقيبا على أحداث معينة..
    ولكنك مع ذلك، ترى نفسك منجرفا مع التيار، تيار الكاتب العظيم، الذي ما إن تشعر بالسأم عند فقرة ما، حتى يعيد إليك اليقظة والنشاط، و التطلع إلى مابعد وبعد…
    ولكني مازلت عند رأيي الشخصي، بأن رواية كهذه، كان دوستويفسكي قادرا ولاشك، على اختصارها ولو إلى نصف عدد صفحاتها الحالية، مستغنيا فقط عن الجمل المسهبة في حديث الشخصيات، سواء مع بعضها البعض، أو مع نفسها…

  2. يقول Qusay Lubani:

    إلا أني عدت وعذرت الكاتب في عمله، الذي كان ينشر رواياته فصولا دورية في صحيفة ما..، ربما كانت تلك الفصول، مصدر الرزق الوحيد، أو المعيل الأساسي لحياة الكاتب، ولهذا وجب عليه إطالتها وتكثيفها..
    أما روايته الخالدة “مذلون مهانون”،فما زلت عند رأيي، بأن مقدمتها المتمثلة بقصة العجوز وكلبه الهرم، كانت لتكون من أبدع القصص القصيرة العالمية، لو فكر دوستويفسكي بنشرها منفصلة مستقلة بذاتها…
    لكن النفس الطويل، والصبر الأطول، الذي كان يتمتع به الكاتب، وغيره من كتاب تلك المرحلة، لربما كانا عاملا مطلوبا أساسيا ومهما آنذاك، ل حقبة تجد في الأعمال الضخمة المتخمة بالتفاصيل، لذة و انشغالا يغنيها عن ساعات الوحشة الكثيرة، في زمن لم يعرف قط تلفازا ولا سوشال ميديا يضيع المرأ في متاهاتها، فينسى نفسه ومن حوله…!!

اشترك في قائمتنا البريدية