أولويات لبنان: الدستور والإعمار

حجم الخط
1

يشترك الفلسطينيون واللبنانيون في معاناةٍ متماثلة هذه الأيام: «إسرائيل» تشنّ حرب إبادةٍ وتهجيرٍ على الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، وحرب اغتيالات وتدمير على اللبنانيين في شتى مناطق البلاد، وفيما يبدو جهاد الفلسطينيين مرشحاً للاستمرار مزيداً من السنين، قبل تحرير وطنهم المحتل، وإقامة دولتهم المستقلة، يبدو اللبنانيون، مبدئياً، أقل تعاسةً لكونهم يحظون، نظرياً، بدولة مستقلة وإن باتت فعلياً أقرب إلى حال اللادولة، بسبب عدم تطبيق أحكام دستورها، وشيوع جائحة وبالتالي ثقافة الفساد في ربوعها عموماً، وفي الإدارات الرسمية خصوصاً، قبل وبعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، وإدخال الإصلاحات التي نصّت عليها في متن الدستور بتاريخ 21 سبتمبر 1990.
وإذ تتواصل حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة خاصةً، وفي مخيمات الضفة الغربية عامةً، فإن حرب الاغتيالات والتدمير الإسرائيلية، تتواصل أيضاً في شتى أنحاء لبنان رغم توقيع اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين الطرفين الإسرائيلي واللبناني بتاريخ 2024/11/27. غير أن استمرار «إسرائيل» في عدوانها على لبنان، لم يمنع مجلس النواب من انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية في 2025/1/9 وتأليف حكومة برئاسة نواف سلام، وتعهد كليهما بتنفيذ إصلاحات شاملة تتضمن، إلى تلك المنصوص عنها في اتفاق الطائف، جملةَ إصلاحات أخرى أهمها إعمار المناطق المدمّرَة في كلّ أنحاء البلاد.
ينشغل اللبنانيون حاليّاً بعدّة إصلاحات واستحقاقات لعل أهمها أولويتان: الإعمار وتطبيق أحكام الدستور. لئن بدا تطبيق الدستور أولى منطقياً بالاهتمام والتنفيذ، إلاّ أن التدمير والتهجير اللذين لحقا بالسكان والعمران في شتى أنحاء البلاد حمل اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، على إعطاء الإعمار أولويةً قصوى في هذه الظروف الاستثنائية. مع ذلك، ما زال فريق من اللبنانيين ـ خصوصاً أهل السياسة الراغبين في خوض الانتخابات النيابية بمنتصف شهر مايو 2026 ــ يولون الدستور المنزلة الأولى من الاهتمام . وقد ازداد الأمر احتداماً بعدما تقدّمت الكتلة النيابية التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري، باقتراحيّ قانونين يتعلقان بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف، على أن تنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية فقط. معارضو إلغاء الطائفية السياسية هبّوا للحؤول دون انتخاب مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، بدعوى أن ذلك يستوجب تعديل الدستور، في حين أن الظروف العصيبة التي تمرّ بها البلاد لا تتيح لأهل التقرير والتدبير مواجهة التداعيات السلبية الناجمة عن معارضة فريق من اللبنانيين، جلّهم من المسيحيين، تعديل الدستور لكونه، حسب رأيهم، ينتقص من حقوقهم المتعارف عليها في شتى سلطات ومراكز ومصالح وأنظمة الدولة.
سارع مؤيدو إلغاء الطائفية السياسية وضرورة تطبيق الدستور المعدّل إلى التصدّي بالعلم والقانون والحجة لأولئك المعارضين، وكانت لي مداخلة في الموضوع أوجز نقاطها الأساسية على النحو الآتي:

التدمير والتهجير اللذين لحقا بالسكان والعمران في شتى أنحاء البلاد حمل اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، على إعطاء الإعمار أولويةً قصوى في هذه الظروف الاستثنائية

أولاً: أضحى مطلب الوطنيين المزمن بإلغاء الطائفية السياسية، هدفاً مكرّساً بموجب الفقرة «ح» من مقدمة الدستور، ومؤكداً على الآتي: «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية».
ثانياً: نصّت أيضاً الفقرة «ح» المذكورة آنفاً، على أنه «يقتضي العمل على تحقيقه»، أيّ على تحقيق هدف إلغاء الطائفية السياسية، وليس على إرجاء أو تأجيل إلغائها. والحال أن أهل السلطة في البلاد المستفيدين من تكريس الطائفية السياسية، حرصوا دائماً على تعطيل أو إرجاء، أو تأجيل تحقيق ما نصّت مقدمة الدستور على أنه «هدف وطني أساسي» بدليل أن المادة 95 من الدستور جرى إقرارها بموجب قانون دستوري بتاريخ 1990/9/21، في حين أن أهل السلطة في مختلف عهودهم حرصوا دائماً على تعطيل تنفيذ أحكام المادة المذكورة، لأنها قضت بتشكيل هيئة وطنية لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية منذ 35 سنة. فهل يُعقل بعد كل هذه المدة الطويلة أن يتحجج معارضو إلغاء الطائفية السياسية بضرورة تشكيلها الآن (أو ربما بعد 35 سنة أخرى). مهما يكن الأمر، يمكن حسم هذا الجدل باستفتاء، أو استطلاع للرأي العام يدعو اليه رئيس الجمهورية، أو رئيس الحكومة أو الاثنان معاً بحيث يصبح تطبيق أحكام المادة 22 من الدستور الآن ودونما تأخير متوجب التنفيذ فوراً إذا حظي بأكثرية لا تقل عن خمسين في المئة من أصوات المشاركين.
ثالثاً: ليس ثمة رابط في رأيي بين المادة 22 من الدستور، التي تنصّ على انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي والمادة 95 من الدستور التي تنص على تشكيل هيئـة وطنية لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية، نظراً للأسباب الجوهرية الآتية:
إن نصّ المادة 95 المذكورة يتعلّق بخطة مرحلية لإلغاء الطائفية في أمور حدّدتها الفقرة الثانية من المادة ذاتها وهي، «تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة»، وكذلك «بالغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، بحيث تكون مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين، ما يؤكد أن ليس من رابطٍ أو شرط في المادة 95 يتعلق بتنفيذ المادة 22 من الدستور.
كذلك لا يتضمن نصّ المادة 22 من الدستور الداعي إلى انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، أيّ إشارة بربط تطبيق هذه المادة بالمادة 95 من الدستور الداعية إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية.
(ج) لو شاء المشترع أن يكون ثمة رابط بين المادة 22 والمادة 95 من الدستور لكان نصّ صراحة على ذلك في المادة 22.
(د) وردت المادة 22 من ترتيباً قبل المادة 95، من دون أي رابط أو إشارة إلى هذه المادة الأخيرة، الأمر الذي يقضي بتطبيقها، أي المادة 22، حسبما جاء في نصّها بلا تأويل أو تعديل.
مع العلم أن المادة 24 من الدستور تقضي بتأليف مجلس النواب من أعضاء منتخبين «يكون عددهم وكيفية انتخابهم وفقاً لقوانين الانتخاب المرعية الإجراء»، ما يعني أن انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي كما تنص المادة 22 من الدستور، يمكن أن يتمّ بموجب قانون يسنّه مجلس النواب لا أكثر ولا أقل.
الخلاصة.. على الجميع، مواطنين ومسؤولين، لوجه الله والوطن، أن يحرصوا ويعملوا على تنفيذ أحكام الدستورالواضحة، بالسرعة الممكنة كي نتفادى جميعاً انفجار حرب أهلية تتزامن مع حرب الاغتيالات والتدمير والتهجير التي تشنّها علينا «إسرائيل».
كاتب لبناني
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عزالدين مصطفى جلولي:

    هل يعيد لبنان إعمار ما هدمته الحرب ليعاد تهديمه بعد ذلك في حرب قادمة لا محالة؟

اشترك في قائمتنا البريدية