أيديولوجيا «الفومو»: لماذا نخاف أن نكون «خارج العصر»؟

انتشر لفظ «فومو» FOMO، وهو اختصار لعبارة «Fear of missing out» منذ مطلع القرن الحالي، ويتم تعريفه عادة بأنه «الشعور الدائم بالتهديد، نتيجة خشية الفرد من عدم مواكبة الأفكار والقيم والتطورات، التي يتحدّث عنها الآخرون؛ وعدم معرفته بالقصص والأحداث المثيرة، المتداولة بينهم. وهو شعور حفّزه تطوّر وسائل الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي».
وبهذا المعنى فإن «الفومو» ليس مجرّد لحاق بالموضة المنتشرة في وقت ما، أو حتى سعي للتعلّم والمعرفة، واستنساخ التطور التكنولوجي، بل أقرب لتهديد وجودي، يضغط دوماً على الأفراد، ويدفعهم للاندماج في أي موجة سائدة تبدو «جديدة» كي لا يشعروا بأنهم خارج التطورات المتسارعة، التي لا تتوقف أبداً، ما يهددهم بفقدان كثير من عوامل استمرارهم: القدرة على كسب المال؛ الجاذبية الفردية؛ القبول الاجتماعي؛ إدراك المفاهيم الحقوقية والأخلاقية الأساسية في العالم المعاصر، وبذلك فإن ظاهرة «الفومو» مرتبطة بنوع من الذعر الجماعي، ومركّبات النقص المعمّمة، وليست امتيازاً لأشخاص معينين، يرون أنفسهم أكثر تطوراً من محيطهم.
إلا أن أبعاد الظاهرة تبدو أكبر مما تنشره وسائل التواصل الحديثة من قيم وتصورات، فهي لا تقوم فقط على مغالطة منطقية شهيرة، وهي أن الجديد والسائد يساوي بديهياً الصحيح والحقيقي والقيّم والنافع، بل كذلك تجعل هذه المغالطة ذات قيمة مادية قابلة للتحقّق، في ميادين الاقتصاد والسياسة والمجتمع.
من اللافت أن كثيراً من الفقاعات المالية، مثل الاستثمار المحموم في العقارات والعملات المشفّرة والفن المعاصر، قامت على أساس «سمعة» سادت بين المستثمرين، بأن «المستقبل» لهذا النوع من المضاربة بالأصول، ومن سينعزل عنه سيجد نفسه خارج السوق، وسيضيّع الفرصة التي لا تأتي مرتين. ثم تنفجر الفقاعة، ويخسر كثيرون أموالهم، خاصة المستثمرين المتوسّطين والصغار، ليكتشفوا، بعد فوات الأوان، أن كل ذلك «الفومو» لم يدمجهم بالعالم، بل فعلياً أقصاهم عنه، ودمّر جانباً أساسياً من وجودهم الاجتماعي. يمكن تطبيق هذا المثال على كثير من الدعوات السياسية والاجتماعية، التي تظهر وتنتفخ فجأة، بقوة «مواكبة العصر» ثم تختفي وينساها أنصارها أنفسهم، بعد ظهور «تريند» جديد، تاركةً وراءها ما يمكن وصفه بالخراب الثقافي والسياسي.
يشكّك هذا بكل النظريات الليبرالية عن العقلانية الاقتصادية والاجتماعية، التي يمكن ويجب أن تحكم سلوك الأفراد في منظومة حرّة، إذ يبدو أن البشر يتحركون تحت ضغط تصوّرات ومخاوف ورغبات، لا يمكن وصفها بالعقلانية أو النفعيّة، وربما لا يمكن فهمها إلا بتحليل الأيديولوجيا السائدة. فما أبعاد الأيديولوجية الفعلية لظاهرة «الفومو»؟ وبماذا تختلف عن كثير من النزعات، التي سادت منذ مطلع التحديث، مثل التقدمية والعصرنة والطليعية؟

اقتصاد الأيديولوجيا

انتشرت، حتى الربع الأخير من القرن الماضي، تيارات فكرية متعدّدة، اعتبرت الأيديولوجيا «تمثيلات» للواقع، سواء كانت معبّرة عن حقائق فعليّة، أو مجرد «وعي زائف» يستبطنه الأفراد في ذواتهم، نتيجة فعل سلطات مهيمنة، وبذلك ظل كثير من مفكري ذلك الزمن في إطار التقسيمة الكلاسيكية بين بنى تحتية (المستويات الإنتاجية والاقتصادية والمادية) وبنى فوقية تقوم عليها، أو بالترابط معها، ما يجعل السياسة والقانون والفن والثقافة، وبالتأكيد الأيديولوجيا، نتيجةً أو انعكاساً أو تعبيراً، أو حتى تزييفاً لـ»الحقيقة» الموجودة في مستوى أعمق؛ وفي أحسن الحالات يجعل تلك «البنى الفوقية» في علاقة معقّدة مع الحقيقة، قائمة على تراكب مستويات متعددة في نسق بنيوي معيّن. عالمنا الأيديولوجي، وفق ذاك التصوّر، أقرب لخشبة مسرح، يؤدي عليها فاعلون اجتماعيون أدوارهم، من وراء رموز وأقنعة، خالقين رواية شاملة عن الذات الفردية والجمعية والعالم، تساعد في ترسيخ وضع اجتماعي خارج المسرح، وعلاقات القوة فيه؛ أو قلبها وتغييرها، في حالة الأيديولوجيات الثورية.
بهذا المعنى فإن الأيديولوجيا لا يمكن أن تكون إنتاجاً اقتصادياً بحد ذاتها، بل هي تعبير ثقافي ورمزي، يعمل أساساً في مستوى «إعادة الإنتاج» أي الحفاظ على استمرار وتجدّد الكل الاجتماعي، بعلاقاته وبناه القائمة، اعتماداً على تحفيز عناصر المخيّلة والانفعال واللاوعي لدى الأفراد المستهدفين. إلا أن هذا التصوّر لم يعد يبدو صالحاً مع تطورات الاقتصاد العالمي في أواخر القرن الماضي، خاصة بعد نزع التصنيع في الدول الغربية: الأيديولوجيا ليست مجرد تعبير أو تمثيل عن «الواقع» وعلاقاته الإنتاجية والاقتصادية، بل باتت هي نفسها إنتاجاً، سلعةً ذات قيمة مادية، لها أسواقها وبورصاتها، بل إن كثيراً من السلع المادية لا يمكن أن تمتلك أي معنى أو قيمة، دون تدخّل الأيديولوجيا. لم يعد من الممكن فصل الاقتصاد عن الأيديولوجيا، و»الحقيقة» عن تمثيلاتها.
لا يشتري البشر اليوم مجرد طعام أو لباس أو دواء، بل أنماط حياة متكاملة، بما فيها من أخلاقيات ومواقف وقيم، يلعب «الاختيار الفردي» دوراً أساسياً في انتقائها واستهلاكها، وبالتالي فيمكن اعتبار أيديولوجيا الفردانية أيضاً سلعة أساسية، تنبي عليها أسواق متعددة. وكل هذه السلع المادية/الأيديولوجية تتطلّب إنتاجاً موسّعاً، تقوم عليه اقتصاديات هائلة. باختصار: نحن نشتري ونستهلك الأيديولوجيا، ونعيد إنتاجها في عملنا وأنماط حياتنا؛ كما أن الأيديولوجي لم يعد المعلّم أو رجل الدين أو السياسي، بل أصبحنا جميعاً، بشكل من الأشكال، عمّالاً أيديولوجيين.
وفي هذا الشرط من الإنتاج الأيديولوجي الموسّع تصبح مواكبة آخر «تطورات العصر» ضرورة لا غنى عنها، فهي البوصلة التي تحدد اتجاه معظم مناحي الحياة، من أساليب التخاطب مع «العملاء» ومراعاة خصوصياتهم وحساسياتهم؛ مروراً بتقديم الذات للآخرين وأرباب العمل ومقرري المنح المالية والدراسية؛ وصولاً إلى معرفة الموطن الأفضل لاستثمار المدخرات. وتتوفّر لهذه الأغراض كميات لا حدّ لها من البيانات والمعلومات والإرشادات و«الكورسات» بل حتى المنشورات الأيديولوجية المباشرة، التي تقول بكل وضوح: «قل ولا تقل، افعل ولا تفعل». يبدو كل ذلك شرطاً مرعباً وكابوسياً بالنسبة لأفراد وحيدين، ضائعين في عالم واسع من تدفّقات البيانات والرموز والسلع، وبالتالي فإن «الفومو» قد يكون الرعب المعاصر الأكثر «واقعية».

تحرير الرمز

يميل عدد من محللي الرأسمالية المعاصرة إلى وصفها بـ«الرأسمالية السيميائية» أو التواصلية، وذلك للدور المركزي، الذي يلعبه فيها تداول البيانات والرموز: المال نفسه بات مجموعة من البيانات الرقمية؛ فيما صارت علاقاته واستثماراته قائمة أساساً على كود رمزي، هو ثنائية دائن/مدين. أدى ذلك إلى ما يمكن تسميته «تحرير الرموز» أي أن العلامات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الأساسية لم تعد مرتبطة بمكان أو زمان أو بيئة معيّنة، بل باتت قابلة للتسليع والتصدير وإعادة الإنتاج في سوق عالمي «حر» وبذلك فقد صارت متابعة «تطورات العصر» وكذلك تبنيّها والعمل بمقتضاها، فعلاً منفصلاً حتى عن التوجهات الفكرية والسياسية للأفراد، التي بنوها ضمن الصراعات المحلّية في مجتمعاتهم، فسواء كنت محافظاً أو تقدمياً، متديّناً أو علمانياً، يمينيّاً أو يسارياً، فلا بدّ أن تفهم «القصص الرائجة» وتستثمر في صورتك وأفكارك وأعمالك على أساسها.
في ما مضى كانت دعوات الحداثة والمُعاصرة موقفاً سياسياً «تقدميّاً» على الأغلب، أي سعياً لتطوير المجتمعات المحلية بالارتباط بتصوّر معيّن عن حركة التاريخ، وفقاً لظروف تلك المجتمعات وحاجاتها وتصوّراتها المتعددة عن هويتها الجماعية، اليوم بات الجميع «معاصرين». ومن الطريف تذكّر أن أعضاء الجماعات الأكثر ماضوية و»رجعية» مثل «داعش» وأشباهها، كانوا الأشد براعةً في صناعة «التريند» وفي تصدير رموزهم المنتزعة من سياقاتها التاريخية، بشكل عابر للحدود والثقافات.

الاستثمار في الذنب

لا يبدو إذن أن قيمة «الفومو» مبنية على مصداقيته أو عقلانيته أو أخلاقيته، وإنما على عامل لاشعوري، ربما يكون أكثر تأثيراً، وهو الشعور بالذنب والخطيئة، فمن يعجز عن مواكبة قصص عصره الرائجة، رغم أن كل البيانات والإمكانيات متاحة له نظرياً، لن يكون أكثر من فاشل؛ وبما أن الذات الفردية هي الوحدة الاجتماعية الأساسية، وفق التصوّر الأيديولوجي السائد، فإن ذنب الفشل يقع على عاتق كلّ منّا بمفرده، ولا يحقّ لنا لوم أحد. إلا أن «مواكبة العصر» لن تنهي الشعور بالذنب، فهي تقود أغلبية الناس من خطيئة إلى أخرى، ومن فشل إلى فشل أكبر؛ ومن دَيْن اعتيادي إلى ديون بفوائد مركّبة؛ ومن أزمة اقتصادية إلى انهيار مجتمعات ودول بأكملها. يبدو أن تكثير البيانات والرموز و»التريندات» يؤدي تلقائياً إلى تكثير الخطايا؛ كما يبدو أن الرأسمالية المعاصرة ليست مجرّد «رأسمالية سيميائية» بل أيضاً «رأسمالية اعتراف معمّم» إذ تستثمر بشعور الأفراد بالذنب، واعترافهم الدائم به، أثناء محاولاتهم المتعثّرة لـ»تطوير الذات» وتخليصها من الفشل، عبر استهلاك مزيد من البيانات وأنماط الحياة والسلع المؤدلجة.
أما الخلاص الفعلي من كل هذا الشرط فيستلزم ربما إنتاج تركيبات جديدة من «الحقيقة» و»الواقع» تسمح للبشر اعتبار ما يعيشونه اليوم «وعياً زائفاً».

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    بالمناسبة أعتقد أن تحسين مستوى التفكير العلمي في المجتمع، ليس بالضرورة لأنني من أنصار هذا التيار، أي دون الحد من شتى طرق التفكير الأخرى، سيساهم في رفع مستوى الوعي وبالتالي الحد من التأثيرات السلبية للحياة المعاصرة. نحتاج إلى نوع من التوازن بين طرق التفكير المختلفة لتكون حاضرة ومنتشرة في المجتمع وهذا برأيي سيقيم علاقة متوازنة مع العقلانية والإبتعاد عن شتى الحماقات التي تحيط أو تتربص بنا في العصر الحاضر. في النهاية العلاج الأمثل هو الثقافة بأوسع معانيها التي يجب على الإنسان المعاصر أن يتسلح بها ليعيش بسعادة.

اشترك في قائمتنا البريدية