أيسمعني أحد هنا؟ تمثيلات شعرية للفاجعة

حاتم الصكر
حجم الخط
0

أعلى الصفحة الأولى في موقعه الشخصي يكتب الشاعر الفلسطيني وليد خازندار (1954 ـ غزة)، في شهريْ آذار (مارس) ونيسان (أبريل) من هذا العام، بضع قصائد قصيرة، لا يغفل القارئ إحالتها المرجعية إلى ما جرى لغزة، مدينته التي ولد فيها وتعلم قبل أن يغادر لاستكمال دراسته وإقامته في الغرب، بعيداً عنها إقامةً، ولكنْ شديد القرب من نبضها إحساساً.
«أنفاس» واحدة من تلك القصائد القصيرة التي لا تسمي غزة، لكنها تضج بعلامات ودوالٍ عليها. وتلك إحدى بلاغات شعره التي سنأتي إليها، وتتوقف عندها قراءتنا:

أنفاس
أيسمعني أحدٌ هُنا؟
صمتٌ رماديٌّ من الإسمنت.
«أيسمعني أحَد»؟
الساكتونَ تحتَ الخرسانةِ يكتمونَ أنفاسَنا.
يرفعُ رأسَهُ إلى الأكياسِ السوداء.
الشوارع المحروثةُ، لم يصل الهلال.
«قد تكون أرواحهم
تلكَ العصافير البيضاء».
يقولُ ابن صَفّي
ابنُ جيراننا
منذُ المدارسِ والبيوت.

يلتقط وليد خازندار مفرداته وجمله وإيقاعاته وصوره وحواراته في هذا النص، من الوقائع البصَرية التي ضجّت بها العدسات والشاشات، ولم يتنبه لها ضمير كثيرين في عالم قاسٍ وجاحد ولا إنساني وزائف. لقد مضى على المجزرة أكثر من خمسة أشهر حين كتب وليد خازندار نص «أنفاس» الذي أرّخه في 21-4-2024، وكان عنوان النص يحفّز على استنتاج مسألتين تتعلقان بشعره: ذلك الإنصات والصمت المتأمل الأكثر صدى ووقعاً من صراخ طويل، والتقاط ما لا يُسمع ويرى من حيواتِ بشر يقبعون تحت ركام الإسمنت والصخر والغبار، طفولة تترمز حيواتها المفقودة (عصافير بيضاء) كما يسرد زميل وجار قديم من أيام الدراسة و(البيوت).. أيام كانت هنا بيوت، قبل أن تدوسها الدبابات وقنابل الطائرات وطلقات المدافع. جملة واحدة تذكّر بالبيت الذي كان في الماضي والمدرسة.
ذلك اقتصاد لغوي ينعكس على جمل خازندار التي تقول أقل مما يتطلب المعنى. ويبقى للقارئ سهمُ قراءةٍ كبيرٌ في ملء تلك الفجوات أو ربط ما يتناثر منها.
وهكذا هي الأنفاس في الواقع: متقطعة تلتقط علامات طريقها من الصدر إلى الفضاء بالتعثر والتكسر والعسر ذاته.
والحوار المفترض لا يتم.
لا جواب لسؤال المنقذ الهارع إلى البقايا مما كانت بيوتاً، عن (أحد) في المكان المختزل بـ(هنا). ولا يدبّر له النص في هول الفاجعة مفتاحاً لجواب.
الصمت مسنَد للمكان. موصوف بلون الرماد، ومنسوب للإسمنت. إشارة البناء الذي كان له ماضٍ هنا أيضاً، ولكن ليس كما ترتبه إرادة الطائرات المغيرة ومن يقود حمى جنونها وعنفها، وفداحة الجريمة التي تؤلفها على الأرض بحروف نار تترك هذا الجواب الرمادي للسؤال عن (أحد هنا) في المكان. ثم إذ يرى السائل أن المكان ممحو تماماً، يحذف (هنا) من جملة الاستفهام التالية: أيسمعني (أحد). لكأنما يتمدد السؤال، ليطرق آذان العالم كلها: أيسمعني أحد؟
(الساكتون) أشقاء صمت الشاعر وأهله يبادلونه ما جرى لهم. صاروا يكتمون أنفاس المنتظرين أيضاً، وأنفاس الكلمات في القصيدة. (الساكتون) تعبير مخفف عمن لا يجدون هواء لأصواتهم اللابدة تحت (خرسانة) صلدة هوت فوق رؤوسهم.
ولا يظل إلا الخواء والظلام والشوارع التي حرثتها آلة الحرب المسلطة على مدينته، فيراها كما لو في شريط خيال مفرطٍ، وهو ما يلقاه إذ يرفع السؤال أحد الناجين أو المنقذين، أو من كتم الصمتُ أنفاسَهم بالعدوى من الساكتين تحت الأنقاض، أو قارئ القصيدة، أو شاعرها، أو ذاك الجار وزميل الدراسة منذ الصغر الذي يسند إليه الشاعر مهمة السرد، ويحيي من خلاله مشهد الطفولة المغتالة بهمجية ووحشية.
وحشية يرصدها نص آخر مكتوب في الفترة ذاتها، ولكن عبر ما يعم من قتل للحياة بلا استثناء:

«الكلاب صاحت»

ساعاتٌ قبل الفجر.
عرباتُ الحريق دخلَتْ ما شاءت وخرجَت.
دخانٌ علا إلى السماءِ، أسود.
البيتُ المحروقُ يجاورُ الجميع.
النداءاتُ والدلاء.
الإطفائيّون الأزليّونَ يعاينونَ الخسائر.
عدنا إلى بيوتنا ولم نعد إلى النوم.
الكلابُ لم تتوقّف عن الصياح.
قد تكون رأت أقماراً تسقطُ
فلم تستطع أن تسكت».
2 – 3- 2024

مفردات تتناثر وجمل تتلاحق، مونتاج متسارع يستعير من بصريات الجريمة ومشاهدها ما ينتظم في خيط حزنٍ طويل بلا نهاية. حرائق عند الفجر، وليس إلا عربات الحرائق التي لا تطفئ شيئاً، لأنها لا تعثر على أثر لحياة. ظلت الكلاب (تصيح) لا تنبح فحسب. مستوحشة خائفة تواصل صياحها باتجاه القمر الساقط بفعل المذبحة. تحيلنا الصورة إلى كلب لوحة غويا المتطلع إلى فراغ السماء والتي رسمها في المرحلة السوداء والكوابيس التي تمثلت فيها رسوماً مخيفة. كلمات النص هنا تتقطع ولا تتصل. والأفعال تبدأ ولا تنتهي: عدنا إلى البيت ولم نعد إلى النوم. ترميز لفناء كل شيء..

***

إن قراءة قصائد شاعر غزّي كوليد خازندار القريب من نبض مدينته ومشهد خرابها المقصود، والإبادة الجماعية التي دبّرها جيش الاحتلال وما يزال، تتيح الكثير من التأمل في وضع الشعر ومحنته في عنف الواقع وعنفوان المواجهة، وقدرته على تمثل ما يجري، وتمثيل لا معقوليته ولا إنسانيته أيضاً.
عزلة الشاعر وليد خازندار وصمته الذي وسم خطابه من جهة وقراءته من جهة أخرى، تقترن بميزة الصمت كما رشحت منذ أول دواوينه المنشورة «أفعال مضارعة»، 1982.
وقد رصد النقاد وقراء شعره تلك الميزة، وأوّلوها، وطابقوا بينها وبين واقع يعيشه أو يتسم به وجوده الشعري.
إقامة طويلة في الغرب، واقتراب من مدينته ووطنه لا يحجبه بٌعد عنهما، كما لا تحجبه استعاراته وبلاغة نصوصه القريبة من هدف معناها، وبهدوئها الشكلي الظاهري. هدوء سرعان ما تزال عنه حجُب اللغة، فيبدو أشد من الصراخ احتكاماً لما تضمر دلالاته وتتوسع دوائرها. وما تلك الأنفاس المكتومة تحت خرسانات العمائر والبيوت إلا ترميز مثالي لصمت الشاعر، وذاك في ظني حدا بالنقاد وهم يقومون بقراءة شعره المنشور في دواوينه منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى البحث عن تمثيلات لحالته. فوجدها الناقد صبحي حديدي في صورة لوحات الطبيعة الصامتة لدى الفنانين التشكيليين. ونوَّه بما أسماه «شبكة علاقات شعورية وبصرية ودلالية بين الأشياء والحواس». وتوقف عند «الدأب الصامت البطيء» حيث تتناول قصيدة خازندار «ما هو متواضع وعادي ومجسّد ومألوف من أشياء العالم اليومي، وتمزج التوقف عند سطوح تلك الأشياء بالغوص عميقاً في نُسجها، وتنتقل من التسطير الخارجي المرئي (الواقعي) للمادة، التناغمات الكثيفة المتغايرة (الإيهامية) في ما تستثيره من أخيلة وصور»….
وثمة ما يعزز هذا الرأي إذا استقصنا دلالات الألوان ووجودها متعارضة أو متوافقة في القصائد كما على السطح التصويري للوحة. وإذ ينثرها الشاعر كلماتٍ تجسّد حياتها اللونية ووظيفتها الشعرية، فإنه يقترب من عمل الفنان التشكيلي في مزج المرئي كعنصر خارجي بما يتداعى من تمثيلات الخيال وتصاويره.
وفي تأويل حالة خازندار يذهب الشاعر سعدي يوسف إلى وصف عمله الشعري «احتفاء بالصمت»، ويرصد عنده التنويع على الصمت وتحريكه.
وترى الدكتورة فريال غزول أن قصيدة وليد خازندار «تستوقفنا بكلماتها، بتضاريسها، وتجعلنا نقرأها قراءة بطيئةً، كلمةً كلمةً، نتلمس تفاصيلها وتموجاتها ونستمتع بها عضواً عضواً.. تُرجع لنا بكارة الكلمات، ومتعة القراءة الأولى التي ألغاها الخطاب الإيديولوجي الرسمي، فتعوَّدنا أن لا نرى من سيل الكلمات التي تطرح في الأسواق الإعلامية إلاّ ضجيجاً».
هذا التقابل بين ضجيج إيديولوجي وإنشادي صارخ تختفي معانيه في لجة الحماسة وهيجان اللغة، وبين (طبيعة صامتة) في النص توجب قراءة بطيئة تتابع هديراً داخلياً يبلغ مداه وصداه بأثر أكبر مما تتركه الخطابية والمباشرة.
تبدو جمل وليد خازندار مسالمة الظاهر. تصمت عن اكتمال معانيها لغوياً، وتقطع جريان المعنى، ولكن ليس بالسلاسة التي يتوقعها القارئ من مظهر النص الأليف والمحتشد باليومي. واستجابة لموقف الصمت يلقي النص على القارئ مهمة أشد ثقلاً من قراءة أي نص مكتمل البنية معنوياً، جاهز ونهائي شكلياً.
لذا تجد القراءة نفسها كما حصل في توسيعنا لتمثيلات قصيدة «أنفاس»، تنشئ نصاً يتوسع عن نص الشاعر ويغوص في مياهه اللابثة في عنقه.
قصائد خازندار من النصوص التي تدع موضوعها منفرداً في العمل، عارياً من أي توجيه للقراءة ببلاغة العنونة المفرطة وتقليديتها مثلاً، أو سواها من العلامات المحايثة للمتن وما يحف به. إنه يواجه القارئ بملفوظه هادئاً ليدخل إلى قوة ما تخفيه من تضاريسه.
وهي تمتلك أيضاً ديمومة دلالاتها. ففي صفحته الأولى في الموقع حيث توقفنا عند النصوص الغزية الجديدة، يستعيد إلى جانبها التذكير بمقاطع من أعمال سابقة، في رسالة موجزة الدلالة عن الرؤيا التي تمنح الشاعر أن يستبق ما يحصل الآن، ويتحدث عنه في مماثلة لما يقرأ من مصائر وما يتوقع من مآلات.
نقرأ من استعاداته نصاً من ديوانه «مقاطع ليل»، المنشور عام 2020:
«أيستجدي أحدٌ بلادَهُ؟
نحنُ ندفعُ فِدْيتَها كاملةً كُلَّ يوم.
تُكَلِّفُنا ما نقدرُ عليهِ، وأكثرَ
ما لا يزولُ
ما لا يستعادُ
ما لا يمكنُ استردادُهُ حتَّى بها
ما من أجْلِهِ تكونُ البلاد».

الاستفهام في استهلال النص لا يريد جواباً. ثمة من الأسئلة ما يقوى بحمل جوابه. حتى البعيدون منا يدفعون فدية تلك البلاد كاملة.. ويسمي الشاعر مما تكبدنا البلاد أسى وشجناً وألماً ممضّاً: أشياء حُذفت ليحل محلها وصفها: ما لا يزول/ ما لا يستعاد/ ما لا يمكن استرداده.. أثمان ليست أقل فداحة مما ينال الجميع.
ليس بحثاً عن براءةٍ ما، بل تسجيلٌ لما يعاني بعيدٌ حاضر في قلب ما يجري.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية