هذه الجملة التي كتبها واحد من مناصري نابولي، على حائط المقبرة، عقب التتويج بالبطولة، للمرة الأولى في التاريخ عام 1987، لم يقصد منها أن الموتى فاتتهم مشاهدة الفريق، بل فاتتهم مشاهدة الساحر (El Pibe de Oro) أو الفتى الذهبي، المسمى مارادونا. الذي حول اللعبة إلى سحر. وغاب عن جي. كي رولينغ أن تكتب روايتها عنه، وليس عن الصبي هاري بوتر. فالسحرة عاشوا بيننا ولا نحتاج إلى خيال في استحضارهم. ودييغو واحد منهم. قد يذكر الناس «يده الإلهية» عندما سجل هدفا في مرمى الإنكليز عام 1986، وكانت أجمل خطيئة يغفرها التاريخ. ماذا لو أن إنكلترا فازت على الأرجنتين يومها؟ كانت حرب فوكلاند بين البلدين ستندلع من جديد. مارادونا جنب البشر إحصاء موتى وضحايا في حرب من أجل جزيرتين. لكن الضالعين في الكرة يذكرون الرجل عام 1987. عندما حول نابولي إلى حفلة، وصار ساكنة الجنوب لا يشعرون بنقص إزاء نظرائهم في شمال إيطاليا. حررهم من عقدتهم مثلما حررهم غاريبالدي من الغزاة.
وأنا أطوف في أزقة نابولي القديمة، أبحث عن أطياف كتّاب قرأت لهم، على غرار إيلينا فيرانتي، فيولا أردوني أو روبرتو سافيانو، تعثرت بصورة كاتب آخر، كتب ملحمة بالقدم من غير أن ينشرها في كتاب، اسمه مارادونا. يعلق الناس صوره في شرفات بيوتهم، وقد أحاط نور بوجهه، مثلما هو حال الآلهة. من بركات الآلهة أن يجلبوا معجزات، ودييغو حمل معجزة في ساقه اليسرى. «المجد لساقه اليسرى ولنتذكر أهدافه في الأرض والسماء» كما قال لي واحد من مريديه. إذا كان الرب في السموات، فإن مارادونا في الملاعب حوّل نهر التاريخ. من مِن لاعبي أمريكا اللاتينية غزا أوروبا قبل دييغو؟ لا أحد. بيليه لم يغادر نوادي البرازيل ولا غارينشا. «فليكن رقم الرب هو الرقم عشرة» أضاف محدثي، نسبة إلى قميص اللاعب. بفضل مارادونا، لم يعد الرقم عشرة يشير إلى منصب في الملعب، بل صار أسطورة.
من الناس من يسمع الأهازيج في المدرجات، ومنهم من يصغي إلى موسيقى، لاسيما عندما يحضر الفتى الذهبي، إذا كان قائد الجوقة يتمتع بأذن حساسة، تتيح له معرفة نوتة كل صوت يسمعه، فإن دييغو يتمتع بعين يرى بها مسار الكرة قبل أن تنطلق من رجل زميل له. فيبتكر مساحات وخطوط لعب غير مرئية. كان يلعب بمخيلته ويعلم، قبل أن تصل إليه الكرة، هل سوف يمررها أم يحولها صوب الشباك. وإذا كان الله قد وعد المؤمنين بالجنة، فإنه وعد نابولي بمارادونا. عندما وصل إليها لم تكن الكرة الشاملة، كما ابتكرها يوهان كرويف قد وصلت إلى إيطاليا، كان اللعب خشناً، يتكل على البنية لا على المهارة. كان منطق جوفاني تراباتوني سائداً. اللعب جماعة بما يلغي كل موهبة أو فردانية في الميدان. كان المهاجم يخيط اللعب والمدافع يمزق.
سوف تعيد إيطاليا ابتكار كرتها بفضل هذا الصبي الأرجنتيني، لم يكن خصومه يلعبون ضد فريقه، بل ضده شخصياً، وهو يلعب ضد المرمى، بعد أن يمحوهم من مخيلته. يدخل الميدان من أجل أن يكسب، مثلما كان يركض بين أحياء بوينس آيرس كي يكسب رغيف خبز. فهو نبي الفرجة الذي كان يؤم إليه الناس، ولعل النابغة الذبياني كان يقصده، في بيته الشهير: «فإنك شمس والملوك كواكب/ إذا طلعت لم يبد منهن كوكب». وقدم لنا شوبنهاور وصفاً لمارادونا من غير أن يدري: «العبقرية هي أن تفعل ما يعجز الآخرون عن تخيله، أما الموهبة فهي أن تفعل ما يعجز الآخرون بلوغه». خصلتان اجتمعتا في الفتى الذهبي، الذي احتل أوروبا، فلم ينافسه في التاج أحد. الأرجنتينيون قضوا عمراً يحلمون بالكرة، وحلمهم أنجب دييغو، الذي كان يلامس كرته مثل عازف يلامس أوتار قيثارة. يخوض معها رقصة تانغو أو يقوم بدور معماري المساحات الداخلية. فعندما ننتهي من تشييد بيت، بالإسمنت والحديد، سوف نحتاج إلى رخام وديكور من الداخل. ذلك هو دور دييغو. يجعل من اللا مبالاة فرجة، من الكآبة غبطة. كانت له عينا قناص، يعرف متى يسرّع اللعب ومتى يخفّض الإيقاع.
منذ أن اعتزل اللعب، اختفى منصب «صانع الألعاب». لم يظهر رقم عشرة آخر أو «El Diez» أو القبطان، في العامية الجزائرية (إذا استثنينا ما فعله زيدان ذات أعوام). تحولت الكرة من بهجة إلى أرقام. لم تعد تلعب بالرجلين، بل بجدول إحصاءات. في زمن الإنترنت صارت كرة القدم تقاس بنسبة امتلاك الكرة، ليس بالأهداف أو المراوغات. اندثر المجانين من المدرجات وناب عنهم أشخاص يشاهدون في صمت. لاعب مثل مارادونا كان سيجلس على دكة البدلاء مع مدربين من أمثال غوارديولا أو أنشيلوتي. مدرب مثل غوارديولا بوسعه أن يشرك 11 لاعباً كلهم ينشطون في وسط الميدان، لا يهاجمون، من غير أن يشعر بحرج. يريد أن يضمن الكرة بين سيقان لاعبيه، لا أن يلعب من أجل إسعاد المشاهدين. زادت الفلسفة عن حدها فتصدعت أركان اللعبة. ماذا يعني أن يدفع شخص تذكرة مقابل دخول الملعب، أو آخر يقضي ساعة ونصف ساعة من وقته، من أجل مشاهدة مباراة ميتة؟ بات التكتيك سيداً، والموهبة تحفظ في غرف تبديل الملابس. هذا الأمر حرمنا من مشاهدة سحرة صغار آخرين، على غرار أندريا بيرلو، لاعب بكل الكفاءات، لكن رعونة المدربين فرضت عليه أن يتراجع في لعبه إلى الخلف.
لم يخطئ ذلك المناصر المجنون أن كتب على الحائط: «أيها الموتى، أنتم لا تعرفون ماذا جرى!» فالميت ليس من انفصلت روحه عن بدنه، بل الميت من عاش من غير أن يشاهد مارادونا، الذي كان ينثر متعة لا تقل عن متعة الإصغاء إلى قصائد درويش.
كاتب جزائري
من الطبيعي أن يفكر المرء في سبب اختيار لاعب كبير كمارادونا اللعب لفريق متوسط من الجنوب الايطالي وبدون ألقاب، لكن سيجد أن مارادونا لم يأت بالمجان، بل جاء به عقد مجز وامتيازات كبيرة إلى فريق نابولي، بالاضافة إلى أن إدارة الفريق أنذاك كان لديها مشروع وكانت لديها رغبة في بناء فريق تنافسي. و هو أصلا كان قد خبر اللعب لأحد عمالقة أوروبا وهو برشلونة، وربما استهواه شغف جماهير فريق ومدينة صغيرين به كنجم كبير .
احسنت واحدا القول ..كلامك جميل عن الفلاسفة وكرة القدم كغوارديلا وتفانيه في قتل الابداع الفردي ….نعم، لو ماردونا جاء الان لقرعه غوارديلا كيف يأخذ الكرة من منتصف الملعب ويجري ويراوغ ويسجل هدفا ضد الإنجليز…..وحتما سيجلسه على مقاعد البدلاء بعدها…فأما ان تلعب كروبوت حسب الخطة واما تقعد، ومعها قعدت اللعبه وصارت مملة اكثر من لعبة غولف
من الطبيعي أن يتساءل المرء عن سبب اختيار لاعب كبير كمارادونا اللعب لفريق متوسط من الجنوب الايطالي وبدون ألقاب، لكن ربما لن يتفاجئ إن عرف أن مارادونا جاء في خضم حملة تنظيم إيطاليا لمونديال 90، وربما أريد من خلاله تسويق صورة جيدة عن إيطاليا وعن جنوبها وعن فريق نابولي، وهو ما يحصل حاليا مع السعودية التي تستقطب النجوم لدوريها وتعتزم تنظيم كأس العالم 2034، كما أن مارادونا حينها لم يأت بالمجان، بل جاء به عقد مجز وامتيازات كبيرة إلى فريق نابولي، بالاضافة إلى أن إدارة الفريق أنذاك كان لديها مشروع وكانت لديها رغبة في بناء فريق تنافسي. و هو أصلا كان قد خبر اللعب لأحد عمالقة أوروبا وهو برشلونة، وربما استهواه شغف جماهير فريق ومدينة صغيرين به كنجم كبير .