أي تنوير مُفترض في ظِل حريات منعدمة… «تكوين»: حلقة جديدة من مسلسل المعارك الوهمية

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: منذ أيام انتفضت مصر ـ حتى على مستوى الناس في الشارع ـ لكيان تم تدشينه بمباركة النظام المصري، يسمى (تكوين) خاصة وأنه يضم بعض الشخصيات الشهيرة بإثارة الجدل ـ فقط ـ في القضايا الدينية، دون المساس بمناقشة قضايا مُلحّة كالاعتقالات والحريات والديمقراطية والسلطة العسكرية والوضع الاقتصادي المتردي. فهم بعيدون تماماً عن مثل هذه القضايا، ويباركون النظام في كل خطوة، بل ويسُاندونه ويهللون له كوسيلة من وسائل الدعاية من مقام (أكل العيش). من ناحية أخرى وفي الوقت نفسه ينتهج النظام من التدين الشعبي والخرافات خطابه، بل يتمثل هذه الخرافات في تصرفاته وقراراته السياسية. ولعل أهم ما يمكن الحديث عنه في مثل هذه المعارك المُفتَعَلة هو لعبة (الإلهاء) خاصة في ظل تطورات الوضع الفلسطيني، والحدود المصرية، وما يُسمى مؤخراً في مصر بـ(اتحاد القبائل) فكرة التشويش هذه معهودة منذ انقلاب عسكر يوليو/تموز 1952 وحتى الآن. مع الأخذ في الاعتبار أن (الفكر) لا يُرد عليه إلا بمثله، لكن ذلك لن يكون في ظل نظام لا يؤمن إلا بأضغاث أحلام يؤولها ويؤكدها خُدامه.
هنا استعراض لآراء متباينة لبعض المثقفين المصريين حول أزمة مركز (تكوين) وما أثارته في الشارع المصري مؤخراً..

مجرّد تكوين

بداية يقول الكاتب شحاتة العريان.. لعل ما لفتني بشدة لموضوع (تكوين) عقب مشاهدة جزء من فيديو الافتتاحية وزيدان يوجه سؤاله ـ العجيب ـ لفراس السواح (إن كان هو الأهم أم طه حسين)! والرد شبه العفوي من فراس (أنا أهم وأنت أهم..) ولم يدعه يكمل فانطلق السيد زيدان متباهيا بتوزيعات كتبه التي تفوق توزيعات كتب طه حسين بشكل (ساحق) ما دعا فراس السواح للقول (ليس لدرجة «ساحق» يا دكتور) فيما انطلقت همهمات مستنكرة حتى من المنصة ولم يتح زمن مقطع الفيديو القصير مشاهدة أكثر. وبالطبع كان رد الفعل الأولي عندي هو الغضب ـ ليس لطه حسين فللعميد من فائض الفضل ما يحميه ـ لكن لتدني مستوى حوار مثقفين كبار لهذا المستوى الصبياني، وأن يكون المبرر للجعجة تلك مجرد (أرقام التوزيع) وهي قيمة معيارية تجارية بحتة تتدخل في صنعها عوامل عدة، لعل آخرها مادة العمل محل (التوزيع) وبالتالي فهي ليست من طبيعة المواد التي تقاس بها الأهمية المعيارية للمفكرين. غير أن فيديو الاعتذار في اليوم التالي الذي تحدث فيه أولا فراس السواح موضحا أنه فهم تساؤل زيدان الذي تفاجأ بتوجيهه له على أنه (مُزحة) وأن ردّه بالتالي (مزاح). واحترمت وضوحه وأظنه مَن أصرّ على ذلك الفيديو لأن تعقيب زيدان يكاد يعني أنه لم يكن مازحا ولا يعتذر، بل يلوم مَن تداولوا مقطع الفيديو ويستحضر ـ دون مناسبة ـ كلاما لجابر عصفور يشيد بروايته (عزازيل) ويتهم المثقفين في مصر أنهم لا يفهمون!
دعك من زيدان فقد خرجت من الموقعة تلك مستعيدا احترامي لفراس السواح، أما ما تفجر فيما تلا فهو الأعجب والأغرب.. شيخ الأزهر يصدر (بيانا) متحدثا عن هيكل ما اسمه (بيان) للرد على (دعاة الإلحاد) وكأنه يحدد هؤلاء الذين أعلنوا (تكوين) في اليوم الذي سبقه (ملحدين، بل دعاة إلحاد) وهو (تكفير) تمارسه مؤسسة دينية ضد مفكرين وباحثين جامعيين، دون تحري أي رويّة ولا دقة في ما يجوز أن يصدر عن جهة مسؤولة، وعلى الرغم من وجود (بيان) التي يقول إنه (أطلق)ها من قبل. وبعد يوم التأم جماعة من دعاة السلفية بأنواعها ليطلقوا (تحصين) للرد على (تكوين) ومزاعم الملحدين وأباطيل المشككين! و(تحصين) اسمها وحده كاف للتدليل على طبيعة مقاصدها، فالـ(تحصين) هو عمل من أعمال الحروب وهذه ليست حربا، وما يجري من تكاتف دينيين ليس منهم أحد على قوائم الثقافة والمثقفين لتكميم الأفواه وإطلاق الاتهامات بالإلحاد على مَن يفتح ما يريدون من موضوعات هو نوع من أنواع (محاكم التفتيش) التي انتهت في أوروبا بإزالة (الكنيسة) ككل من النظام السياسي. ويضيف العريان، ليس في الإسلام (كهنوت) ولا كهانة من أي نوع ولا كهنة يمثلون الرب، وليس لشيخ جامع ـ أيا كانت أهميته ـ ما يعلو به على المسلم الذي ليس إماما في جامع، ولا أن يطلق أحكام الكفر على الناس ويقوم بتكفير من لم يعلنوا ذلك. لا يدخل أحد الإسلام (بالتعميد) من شيخ الجامع، فيحق لمن عمّده (طرده).. لسنا مسيحيين وليست تلك هي المسيحية! الناس في الإسلام (سواسية كأسنان المشط) وتلك من مرويات السنة النبوية التي يظن الشيخ دفاعه عنها يكون بتكفير مَن يقترب من درسها ومحاولة تفحص ظروف جمعها وتنقيتها مما يخالف القرآن، أو يتعارض مع مبادئه فهو الأوثق الذي لا مطاعن حوله ولا شكوك. لننقل للأجيال اللاحقة مفهوما للإسلام قابلا للبقاء، وليس دينا هشا تفزع أنصاره مجرد (تكوين) ربما انبعثت فكرته على هامش (معرض أبو ظبي للكتاب) ووجدوا تمويلا لمؤسسة صورية تظهر في مواسم مؤتمراتها وتختفي بقية العام.

وكم يخيب الظن!

بينما يرى الشاعر والمترجم حسن حجازي، أن هذا الكيان المُسمى «تكوين الفكر العربي» الذي يدّعي أنه كيان ثقافي، يهدف حقيقة إلى إرساء قيم التسامح بين الأديان والجماعات والمجتمع، وهدفه تحريك المياه الراكدة في المجتمع، وأنه يحترم كل الأديان، وليس في صدام مع الأزهر أو الكنيسة. وهل يهدف، على حد زعم مؤسسيه لمساعدة المؤسسة الدينية في محاربتها للتطرف، وأنه بمثابة مؤسسة فكرية ثقافية وليست مؤسسة دينية، ويهدف إلى تعزيز دور المفكر العربي، وأنه كيان لا يمس الثوابت الدينية من أهم أهدافه إرساء أساسيات الحوار؟ فعلى مدى السنوات الماضية على قدر متابعتنا لتلك الزمرة، نلاحظ بكل شفافية ووضوح أنهم دوماً دعاة للتطرف والتزمت ومخالفة أسس الحوار وتلفيق التهم، والخوض في الأعراض ومحاولة هدم ثوابت الأمة، والتشكيك في صحيح الحديث والسنة النبوية المطهرة، بل في أبسط مبادئ الدين الراسخة.
بمجرد إعلان قيام هذه المؤسسة ـ للأسف ـ من داخل إحدى قلاع الثقافة والحضارة في مصر، ونظمت مؤتمرها الأول في المتحف المصري الكبير، بحضور نخبة من المفكرين والمثقفين العرب، إلا وقامت ثورة عارمة بين المفكرين ورجال الدين في مصر، وظهر هذا جليا عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ترفض وتشجب وتحذر من عواقب هذا وتبعاته على السلم الاجتماعي، وعلى الفكر المعتدل وضرب ثوابت الأمة.
يقول حجازي.. مما لاحظناه من حجم الدعاية والتمويل والدعم السخي، ندرك حجم ما يتم من تدبير وتخطيط ودعم، على قدر الخطر المتوقع من جرّاء تلك الأفكار وتلك التوجهات. لكن هل تكفي تلك الوسائل والتوجهات لمواجهة ودحر هذا؟ أعتقد لا يكفي.. فهناك مؤسسة دينية راسخة من أهمها الأزهر الشريف بكل ثقله، وثقة المجتمع والعالم أجمع فيه للقيام بدوره الريادي الراسخ الذي تصدى على مدى تاريخه لمثل تلك المؤامرات والمكائد بالحجة والإقناع، بل مخاطبة الشباب المستهدف بصفة خاصة من قبل تلك الحملات والتوجهات والكيانات المشبوهة. وهناك وزارة الأوقاف التي يقع عليها عبء كبير وجهد مضاعف من خلال المساجد والندوات والإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها، وكذلك وزارة الثقافة من عقد للندوات والحوارات من خلال قصور الثقافة المنتشرة عبر أنحاء الجمهورية، بل وانتقالها للقرى والنجوع للتحذير من مثل تلك الكيانات ذات التوجهات المشبوهة والنوايا التي لا هدف لها سوى تكدير السلم الاجتماعي وهدم ثوابت الأمة والنيل من المجتمع.

ظرف تاريخي فريد

ويقول الكاتب ياسر زكي.. أنا ضد نظرية المؤامرة، وأرفضها جملة وتفصيلا، وهذا لا يعني أنه لا توجد مؤامرة، لكن يعني أننا لم نهتم يوما سوى بذكر المؤامرة، لكننا لم نعمل يوما على مواجهتها. الدول تتآمر على بعضها، لكنها تعتمد خططا لمواجهة هذا التآمر، حتى بين الحلفاء هناك مؤامرة. وعندما سُئلت يوما عن المراكز التي أنشئت لتزعزع ثوابت الدين، قلت: إن الدين الذي تزعزع أركانه مثل هذه المراكز يجب أن لا يُتّبع.
أما عن المؤسسين فأنا أعرف بعضهم، بل تربطني صداقة بأحدهم، وبيننا بعض المشتركات.. لكن توقيت الحديث في هذه الأمور يذكّرني بقول العز بن عبد السلام: «مَن نزل بقرية فشيّ فيها الربا، فخطب عن الزنا، فقد خان الله ورسوله». هناك قضايا كانت أولى بالاهتمام وهم يعرفونها.
ويضيف زكي.. ما تزال قضية فلسطين تستولى على الاهتمام رغم كل المشكلات التي تحيط بنا، مَن كان يعتقد أن يهتم امرؤ بأمر هذه القضية، بينما تحاصره مشكلات الحياة اليومية التي تستحيل يوما بعد يوم! لكنها برهنت أنها أحب إليه من كل هذه الأمور، بل إن الأمر تجاوز هذا القدر الذي خبرناه من قبل ليحتل جغرافيا جديدة لم تكن يوما تهتم لحالنا. مَن كان يظن أن يأتي اليوم الذي نشاهد فيه المظاهرات تملأ أركان الدنيا، حتى في أمريكا والغرب. مَن كان يظن أن يرفرف علم فلسطين في جامعات النخبة التي تقدم قادة المستقبل في دولهم، ومَن كان ينتظر أن تحتل فلسطين صدارة المشهد في إعلام الآخر. إننا أمام منعطف خطر على جميع الأطراف، فإما أن تستغل الأمة هذا الظرف التاريخي الفريد، وإما ننتظر ظرفاً آخر مشابها، لا نعرف متى موعده!

التعامي المقصود

ونختتم برؤية الباحث الأنثروبولوجي فؤاد حلبوني قائلاً.. بالطبع هناك مشاركة من وجوه عليها علامات استفهام كثيرة، لكن في الوقت نفسه يضم المركز شخصيات أخرى مهمة ومحترمة، مثل عبد الجواد ياسين على سبيل المثال. ورغم تحفظاتي على بعض المشاركين، أتمنى أن يقدم المركز مجهودا بحثيا حقيقيا. لكن تحفظي الوحيد هو أن بعض القضايا المطروحة قد عفى عليها الزمن، دون مراعاة الظروف السياسية، بل تكاد لا تربط بين «الإصلاح الديني» المنشود والسياق السياسي من الأساس، بمعنى أن أي اقتراب من مسألة تجديد التراث كمثال، دون اشتباك مع المنظومة السلطوية التي تُحِد من الحريات بصفة عامة كحرية البحث الأكاديمي، أو الممارسة السياسية والتعبير، في نظري هو نوع من التعامي. أنا لست بصدد فرض شروط عمل على الباحثين في المركز، لكن التركيز على الإصلاح الديني حصراً دون التطرق لسؤال السياسة، دائما سيُنتج شيئاً منقوصاً، خاصة وأنت تتحرك حرفياً في مساحات محددة في طرح الأسئلة عن الإصلاح الديني المنشود. لا أعتقد أنك تستطيع طرح أسئلة أعمق عن توظيف الأنظمة السياسية الحالية للخرافة حرفياً. أعتقد أن هذا سؤال تنويري بامتياز، لو اعتبارنا أن التجربة التاريخية للتنوير في السياق الأوروبي كانت تتحدى سلطة الكنيسة على حياة الأفراد مثلا. لكن يظل لديّ الأمل في استطاعة بعض باحثي مركز تكوين في تقديم أسئلة أكثر جرأة. وفي الأخير.. توجد أكثر من طريقة للكتابة والاشتباك وعرض الأفكار، ممكن من خلالها أن يتم طرح الأسئلة السياسية بشكل مختلف.. نتمنى ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية