كلّ عملٍ روائي أو أدبي لا بد من توافر شروط إنتاجه ليكون إبداعيا. وأهم هذه الشروط التي هي بكلّ تأكيد لن تكون متساوية الطول، أو هي الوحيدة بين عمل أدبي وآخر، لكنها على الأقل تكون هي الواضحة في مرايا التلقّي وأهمها العنوان/ الفكرة/ الحكاية/ اللغة/ وهذه تحتاج إلى منتجٍ قادرٍ على ممارسة اللعبة الإنتاجية، بطريقةٍ تمهّد لتصاعد الأحداث في صراعها ومستواها الدرامي من جهة، وصناعة الدهشة بالنسبة للمتلقّي من جهةٍ أخرى، وهذه اللعبة كما أعتقد هي التي ستكون قادرة على التفاعل بين الشروط الواجب توافرها، والنجاح المطلوب منها. وهو الأمر الذي نجد أغلبه في رواية «كائن رمادي» للروائي والكاتب نشأت المصري. فهذه الرواية تنتمي إلى واقعها، لكن الإنتاج لم يكن بالطريقة الاستنطاقية للأحداث، بل سيتابع سير الحدث بواقعية، ولم تكن بخط سير متصاعد من أجل جعل القارئ يعيش أجواءها عاطفيا، بل جعلها تجمع كل هذا، حكاية واقعية.. فكرة مخيالية تناقش هذا الواقع.. أبطال واقعيون يسيرون في الشوارع، علاقات مترابطة ومهشمة كأي علاقات. والأهم من ذلك أنها رواية استنطاق اللغة التي كانت المحرك الأساس لماهية الفعالية السردية كلها.
العنوان والعتبات المرافقة
يحيلنا عنوان «كائن رمادي» إلى استنطاق المعرفة اللونية التي ترتبط بالحياة، فهي قد تحيلك إلى الوسطية ما بين الأسود والأبيض، وقد تحيلك إلى ما تخلفه النار ويكون الأمر النهائي ما يشبه الرماد.. ولأن الرواية لا تبدأ بعتبة الإهداء، التي تركها على شكل علامة استفهام، لتتحول من كونها عتبة استدلالية إلى عتبة استفهامية يراد من المتلقي اصطياد الإجابة باعتبار أن السؤال هو رأس الرمح، الذي يبحث عنه من أجل استحصال الإجابات. ولهذا فإن علامة الاستفهام هي الترابط الكلي بين المستويات الكلية للعمل الروائي، والقدرة الاستخلاصية للمتلقي في ما يمكن أن يتوصل إليه من دلالة ومدلول. ولهذا يمكن القول إن العملية التدوينية بدأت مباشرة من بوابة العنوان إلى المتن السردي، الذي جعله على شكل جولات تسع، وكل جولة لها صولة في عملية تقشير الارتباطات الكلية للحكاية، التي تحيط بالبطل الرمادي الذي وجد نفسه كائنا. حتى لكأن الرواية تريد الاقتراب من الأدب الغاضب، لكنها هنا ليست غضبا سياسيا على الواقع المتغيّر، بل اجتماعيا لما آلت إليه الأمور من صراعاتٍ عائليةٍ وإن ارتبط جزء منها بشكلٍ غير مرئي بالواقع السياسي. ولهذا فإن اللعبة السردية تبدأ من هذه النقطة الجولاتية التي تحوّلت من عملية طرح الأفكار إلى عملية اللعب على الفكرة المركزية، التي ترتبط بالكائن الرمادي مثلما ترتبط بعمليات تفكيك ما يحيط بهذه المركزية التي يمكن استلام أولى ملامحها منذ الاستهلال الذي نطق بعمليات الاستدراج الواقعي، إلى مساحة الصراع النفسي، من أجل إنتاج ملمح اجتماعي هو خلاصة الصراعات التي يعيشها الإنسان، خاصة العربي بشكلٍ عام والمصري بشكلٍ خاص. ولهذا فإن الإنتاج السردي لأفكار كهذه بحاجةٍ إلى حكايةٍ تسطّر عليها فعالياتها التكنيكية، مثلما هي حكايةٌ بحاجةٍ إلى فكرةٍ تلمّ فيها الوحدات الساردة من أجل الكشف عن مضمونها. وبالنتيجة يمكن عدّ العنوان لعبة كبرى.. الباب الكبير الذي يدخل منه المتلقّي إلى مدينة الرواية ومعرفة تفاصيلها، جاء هنا بعدّة صيغٍ:
أوّلها: إنه عنوانٌ يحمل الدهشة والتفكيك والتأويل.
ثانيها: إنه عنوانٌ تدور حوله كلّ الفعاليات الموجودة في مدينة الرواية.
ثالثها: إنه عنوانٌ يمكن أن يتحوّل إلى عملية البحث عن ماهيته وبهذا هو يتحوّل إلى سؤال الاستفهام الذي وضعه المنتج كإهداء.
واحدة من أهم علامات الرواية. وهي التي حملت على عاتقها إخراج الرواية بالقالب السردي. والتخلّص من ربقة المتوالية السردية الحكواتية.. فقد كانت لغةٌ تقترب من الشعر، خاصّة في المستوى التصويري، مثلما تقترب من التفصيل الإخباري الذي يدخل في صلب التناول الفكري.
المستويات السردية
يتوافر المتن الروائي على عددٍ من المستويات السردية المهمّة التي ثبتّها المنتج لقيادة الفعاليات السردية، بهدف إعطاء الهاجس التدويني القدرة على مواءمة ومواكبة الفعل الذي اعتمد عليه في بناء الجملة لصناعة المتن، التي تؤدّي إلى إنتاج مبنى حكائي مرافق لمعرفة تفاصيل الواقع التي يريدها المتلقّي حين يخرج من عنق المتخيّل، ويدخل إلى زجاجة الواقع. لأن المتلقّي يريد الشعور بأن ما يقرأه يمسّه ويريد الإحساس بأن التفاصيل المبثوثة هي تفاصيله، ولهذا استطاع المنتج أن يتقرب كثيرا من هذه النقطة التي تعد الأصعب في إنتاج النصّ الأدبي، خاصة الروائي منها. ويمكن إجمال اللعبة في المستويات السردية أنها جاءت مع تعدّد الشخوص والأمكنة والأزمة محمولة على عدّة موادٍ أولية.
الأولى: المستويان الإخباري والتصويري، اللذان كانا هما الفاعلان الكبيران في المتن السردي، فلا نكاد نقرأ إخبارا، بل تصويرا والعكس صحيح، وهي مهمّة لا يمكن لأيّ منتجٍ أن يطبّقها من دون أن يكون مبدعا، أو قادرا على إنتاج متن كهذا، يتحوّل بين المستويين، خاصة أن الاستهلال يبدأ بهما (الزغاريد ترصع الفضاء القريب..).
الثانية: المستوى التحليلي الذي يأتي بعد كلّ متنٍ إخباريّ في محاولة لإعطاء دفقٍ من فعالية المواصلة الكامنة في روح الحكاية من جهة، وفعالية الواقع الاجتماعي من جهةٍ أخرى (في صمت يتهمني بالتطفل، ربما يسخر مني، سدد عينيه العسليتين الواسعتين، ومضى..).
الثالثة: المستوى القصدي الذي يأتي متنوّعا ومتوزّعا، حسب قدرة المتلقّي على التفهّم لماهية الحكاية الاجتماعية وما يحصل بين الأبطال أو الشخوص التي انتدبهم المنتج، ليكونوا أداة لفعل الروي (وليد/ إيمان/ رحمة/ عائشة/ غادة/ نانا/ صفاء/ الشحاذ/ الراعي) وغيرهم مما يتصل بالمنطقة العلوية للروي.
الرابعة: القدرة على المناورة في المستويات السردية من قبل المنتج من خلال التحوّل من صيغة المتكلّم إلى المخاطب والغائب وبالعكس، وهي محاولةٌ لجعل الراوي المنيب، وكأنه هو الذي يتحدّث مع المتلقّي في هذه الانتقالات، وهذه تأتي من خلال التنوّع في الجولات لتكون هناك عملية انتقال فنّي مقصود (اقترب وليد صاحب الفرح من الزامر، يرجوه أن يخفض من رعونة هذا الصخب الفادح). (وقفت في شرفتي أتابع حياء الشمس وهي تشرق بعطاياها، كنت أشبه صديقتي بالشمس).
الخامسة: استنطاق المفردات العلاقاتية المتناقضة والمتصارعة بين الشخوص، والتحوّل من علاقةٍ إلى أخرى، وما يرتبط فيها، سواء عبر الواقع الاجتماعي أو الافتراضي (الفيسبوك مثلا) وهي هنا تعد (ملح) التصاعد الدرامي للحدث، لأن لا معنى لسرد الصراعات بطريقةٍ متواليةٍ حكواتية، أو اعتبارها سيناريو لمسلسلٍ اجتماعي، وإن لم تغب هذه النقطة، لكنها لم تكن هي الغالبة، خاصة مع وجود شخوصٍ من خارج البيئة (الصديقة الليبية) وكذلك الشخوص المتحرّكة كسائق التاكسي وتاجر الخردة وكذلك السمسار والجار، بمعنى تنوع الأحداث والأمكنة وبالنتيجة تنوع البؤر الصراعاتية التي تعطي مفعول الدراما حضورا ومفعولا مهما في الجسد الروائي.
اللغة والصراع
واحدة من أهم علامات الرواية. وهي التي حملت على عاتقها إخراج الرواية بالقالب السردي. والتخلّص من ربقة المتوالية السردية الحكواتية.. فقد كانت لغةٌ تقترب من الشعر، خاصّة في المستوى التصويري، مثلما تقترب من التفصيل الإخباري الذي يدخل في صلب التناول الفكري. وهي بذلك أي الّلغة أخذت تقود المتن السردي عبر عددٍ من السبل:
السبيل الأوّل: إنها لغةٌ سرديةٌ تخضع المستويات كلّها تحت جناحها لإعطاء فعالية الدهشة والقبول بطريقةٍ غير مباشرة: (وصف نفسه بالغباء والجحود معا، وارتد بذاكرته الصدئة إلى أوّل يوم في زواجه هو، وما حدث من تحوّلات وتوزيع جديد للمسؤوليات).
السبيل الثاني: إنها لغةٌ قادرةٌ على رسم ملامح الصراع النفسي عبر الدخول في الجوانب الخاصة للشخوص وبالتالي الارتقاء بالجانب الدرامي للحكاية (ضحكت رحمة ضحكة طالت، وضحكت لها ومعها، وشعرت للضحك بمذاق طيب كدت أنساه، بسبب عدم وجود سبب كاف للضحك. أهمس لنفسي من حقي أن أضحك حتى لو كان لضحكي طعم مالح).
السبيل الثالث: إنها لغةٌ تدير دفّة الحوار الذي كان واحدا من علامات وجود الشخصيات وأصواتهم. وبالتالي فإن الحوار كان يتحوّل إلى مرادفٍ للغة في المتن السردي لإدخاله ضمن اللعبة التي يقودها المنتج:
(- كن متفائلا، قل زغردي ولا تقل اصرخي:
– رحم الله الرائع علي عيسى في برنامجه قل ولا تقل، يا آنسة، نحن نصرخ كثيرا دون سبب، ودون صوت) .
السبيل الرابع: إنها لغةٌ تقود التحوّلات الكبرى في الأمكنة والأزمنة وما يرتبط بهما من صراع (خلال ثلاثة شهور فقدت رغبتي في الكلام، وآثرت ألا أفكر في اي شيء، الأحوال تتغير من حولي، وأنا أشاهدها كطفل غبي).
الرواية وإن انتمت إلى الواقع بكلّ حذافيره، لكنها كانت مرتّبة الإنتاج، وقد تمكّن الروائي نشأت المصري من إدارة اللعبة التدوينية بإخراجها من حكواتيّتها إلى سرديتها، ومن حكايتها الكليّة إلى فكرتها التي تناقش الكثير من المفاصل الاجتماعية التي بدأت مركزيتها منذ الاستهلال، حين وجد صديق وليد (لن تصدّق، ذهبت إلى ابنتي في شقتها، طرقت الباب، وما أن رأتني حتى أغلقت الباب في وجهي).
كاتب عراقي