إدريس سالم في ديوانه الأول «جحيم حي»: جهنم المتباهية بقرابينها الجدد

حجم الخط
0

«زرعوا في نفوسنا قائداً قوّاداً، يتوضأ من جمرنا، ويصلي». إذا كان دانتي قد رسم لنا صورة الجحيم قبل أن نموت ونترك خلفنا دنيا الأحياء، بكل ما يشدنا إليها، متحسرين على ما فاتنا فيها، على ما لم نقم به في حضرتها، على ما لم نقله أثناء التنقل في أرجائها، على ما ارتكبناه ولم نرتكبه بحقنا، أو حق أناسها، وصرنا في عِداد الأموات رغماً عنا؛ فإن تردي الواقع السوري يوماً بعد يوم، وانعكاس الطقس القاتم بوجهٍ عام، وتأثير المواجع المتكررة لأهالي مدينة كوباني بوجهٍ خاص، في نفسية الشاعر إدريس سالم، دفعاه ليقدم لنا في ديوانه الأول «جحيم حي» ـ صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في الأردن ـ الحياة بحلة جحيمية، كمقدمة ترويضية، ربما قبل الانتقال إلى دنيا الأموات. فما من علاماتٍ تشير إلى الخروج بسلامٍ من هذه الهاوية، أو انتهاء هذا الفصل المرعب من عمر سوريا.
بما أن رحلة دانتي في الممالك الثلاث الجحيم والمطهر والجنة، حسب أحداث الملحمة استغرقت أسبوعا واحدا فقط؛ يومين في الجحيم، وأربعة أيام في المطهر، ويوما في الجنة؛ بينما الجحيم السوري قائم منذ ما يزيد عن تسع سنوات!

ليس ثمّة أمل

مَن يتأمّل عناوين القصائد.. (وحي الحرائق، سقوط الآلهة، صراع الطواحين، بلاد منحوسة، مدن الاغتيال، لجوء يرقص مع الحرب، خساسة منفى، إلخ) سيلاحظ أن فكرة الخروج من الجحيم، ربما لم تخطر على بال الشاعر بعدُ، وأن الصور الكابوسية والرعب والمناخ الكارثي، لم يفارقا هواجس الأديب طوال فترة كتابة القصائد، وربما حتى فترة إعداد العمل للطبع، وإلاّ لكان على الأقل أورد قصيدة فيها شيء من نفح السعادة، أو فيها شيء من ترانيم البهجة والحبور، إذ حتى القصائد المعنونة بالحياة لم تكن الحياة فيها إلاّ فصلاً من فصول المأساة، أو الوجع كقصيدتي «خارج من الحياة» و«ألمٌ إكسير الحياة».

الخاسر دوماً

يدخل الشاعر في خِضم لعبة تقمص أدوارٍ إشكالية في بعض قصائده، إذ في قصيدة «وحي الحرائق» ثمة تداخل بين أنا الطاغية وأنا الشاعر، فأنا الطاغية تُمثل بنمرود الذي لم يألف إلاّ الخراب والدماء في حياته، وهو ههنا أي الطاغية، ورغم أنه غدا مستشعرا أنه شارف على الرحيل، ولكنه ما يزال غير قادر على تصور أي لوحة بهية أو نبتة جميلة تنبت على الأطلال، التي كان وراء دمارها؛ بينما في المقطع السابع من القصيدة نفسها، تعبّر أنا الشاعر عن الحالة الراهنة، التي ليست أكثر من محرقة تحيط به من كل الاتجاهات نتيجة ما جلبه الطاغية من اللهيب، الذي أحال كل شيء إلى فحم.
وفي قصيدة «غناء الحجل» لا يحيلنا الشاعر إلى استحضار خيبة الكرد فحسب، من خلال أسطورة الحجل، الذي لا يكف عن وضع الفخاخ لإخوانه ليكون السبب الدائم في الإمساك بهم، إنما يغيّر حتى أبهى المفاهيم، وعلى سبيل المثال: فالحرية يناضل في سبيل تحقيقها الملايين من شعوب المعمورة وشعوب الشرق الأوسط على وجه الخصوص، بينما الشاعر ومن فرط صدمته بما رأى وسمع وقرأ وشاهد وعايش، ومن فرط تأثره بالواقع والأحداث اليومية غدت الحرية بالنسبة له «عفريتا يلتهم الأخضر واليابس، ويشرب مريدوه السم والهم» فيما الحرب ليست أكثر من «جرن لهرس الأحلام النقية» بينما الحقيقة التي نتطلع إليها هي ههنا لدى الشاعر «عدوة عهدٍ مفقود، صديقة عدلٍ نائم وسلامٍ هارب» وفي المقطع 13 من «غناء الحجل» يشير الشاعر إلى هواجس الكردي في الدفاع المجاني عن هذه الجهة أو تلك، في لحظة سيطرة العاطفة الإنسانية عليه، بينما بكل سهولة يتم التخلص منه، أو يُباع في مزادات السياسة الرعناء، بعد انتهاء أسباب الحاجة إلى قربانيته، وبما أن الكردي خُدع عشرات المرات مِن قِبل الدول والسلطات، فصار الشك يلازمه في حله وترحاله، في ما إذا كان سيأخذ بزمام الأمور يوماً، وتبدأ بالتالي دورته الفاعلة في الحياة على هذا الكوكب؟ أم سيبقى رهين حالته ومجرد «أداة لا محل لها في كل العصور»؟ كما أن لوحة نقد الذات القومية تعود بصيغة أخرى في المقطعين الثامن والتاسع من قصيدة «ذاكرتان لخمسة أيام» حيث الكردي عوضاً عن الخدمات الجليلة التي قدمها للآخرين، وبدلاً من الفوز بالمغانم لقاء تضحياته الجسام، يفقد حتى ما كان يمتلكه من قبلُ، بل لا يكافأ عادةً إلاّ بالقبور على ما قام به، كما أن هذه المحنة المتكررة يعيدها الشاعر بطريقة أخرى في المقطع السادس من «جحيم حي» حيث يشير فيها إلى مَن يغامر منذ سنوات بأجساد ودماء وأرواح ومستقبل الكرد، خاصةً ذلك الطرف السياعسكري، الذي فرض نفسه بقوة السلاح والأيديولوجيا على المناطق الكردية في سوريا بعد 2012، يقول الشاعر: «نحن من نشتري الحروب، بدماء أبنائنا، نبيع الانتصارات لألد أعدائنا، نحن من نزرع أراضينا، رصاصا ومقابر، نزركش بيوتنا.. خنادق وشبابيكنا… بنادق» وكذلك الأمر في المقطع التاسع من القصيدة حين يقول: «ماذا ستفوز في رهان الحياة أيها الكردي السكران؟ أنت تخسر، أنت تباع بأرخص الأثمان».

أما في قصيدة «خيمة حرب.. حرب أرقام» يظهر الشاعر كيف أن السلوكيات القميئة للكثير ممن حملوا السلاح، وسموا أنفسهم ثوارا دعت الناس بعد مشاهدة سلوكياتهم القميئة إلى أن تغيّر من نظرتها للثورة والثوار معاً، وبالتالي تعيد قراءة الثورات والانتفاضات بطريقة مغايرة.

واللافت في العمل أن الشاعر وقبل الشروع في نقد المجتمع والذات القومية، كان قد استفتح الديوان بنقد الرب المنزلي، ولكن بطريقة مستحبة، تدل على معاتبة المحب حيث يقول: «غريب يرانا كباراً، وقريبٌ يرانا صغاراً».

أصوات الرب الضالة

أما في «سقوط الآلهة» فيتناول المفارقات الكبيرة من خلال تغيير المفاهيم المجتمعية، كما لا ينسى في القصيدة ذاتها، خاصة في المقطع الثالث منها، أن يعري الناطقين باسم الدين، هؤلاء الذين لم يقدموا أي صورة إيجابية لهم في كوباني وعفرين، سوى أنهم غزاة كارِهون ولو تلحفوا بمزامير وسور كل الكتب المسماة بالسماوية، وفي المقطع الرابع من القصيدة يلمح إلى أن ثقافة السلب والنهب هي، جزء من كينوتهم الوجودية، بينما في المقطع الخامس من القصيدة يحيلنا الشاعر إلى صيرورة التاريخ في هزيمة كل من كانوا مجرد قفازات للآخرين الذين لم يرغبوا في استخدام أياديهم في ممارسة الموبقات، لذا استأجروا أدوات لتحمل عنهم وزر الغزوات؛ وفي «صراع الطواحين» يقدم الشاعر لوحة فجائعية لكوباني، بعد غزو قراصنة الدين، الذين دمروا المدينة قبل أن ترفعهم إلى السماء طائرات التحالف الدولي. المدينة التي ما تزال مجروحة بطعنات جنود الرب ، ومقامرات القادة الجهلة لزعيم تلك العقيدة الأرضية. وفي قصيدة «أيتام وطن من ورق» نقرأ أقسى ما يمكن أن نعاين من الصور المقدمة عن الوطن، يقول الشاعر: «أيتام وطن من ورق، في عراك على أريكة ما، أفيال تغتصب نملة، أفاع تزرع فحيحها في رؤوس الديدان، صقور تنتشي في سيقان الجنادب، قطط تتحرش بالذئاب، هذا هو وطني، مستعمرات تتحرر من شراساتها، مجاز يعيش في المجاز».

الديكتاتور وأشباهه

وبما أن الطغيان والاستبداد حاضرٌ في الحياة العسكرية والأمنية السياسية والدينية، وربما حتى الاقتصادية بالنسبة للشخص المعدم في غالبية دول الشرق الأوسط، ولئلا يقول الشاعر للقراء بأن هذا الذي أمامكم، أو الذي يمكث بقربكم، أو فوق أنفاسكم هو مَن أتحدث عنه، رسم للقارئ ملامح المستبدين والطغاة من خلال شخصية الديكتاتور الأحمر في قصيدة «ذاكرتان لخمسة أيتام» يقول فيها: «ستالينُ: غولٌ أكُولٌ، تركَ ميراثاً، من هزائمَ مُنتعشةٍ، في عُكّةٍ أكلَتها كُهُولةٌ مالحةٌ، إرهاباً ينخرُ في نُطْفة العرّافين والعرّابين، ديكتاتوراً نصفُه جلّادٌ، ونصفُه جزّارٌ؛ موتاً ينِزُّ في جَفنة مُنتصبةٍ، غسلَ وجهَنا بالرياح والجبالِ والخذُول».
كما أن الشاعر في لحظة تذمره من غياب العدالة في القصيدة ذاتها، يعاتب الخالق على عدم إنصافه مع كل مخلوقاته على اختلاف مراميهم وقيمهم وممارساتهم، وحيث يضعهم في محفلٍ واحد، وهو ما يشي بأن هذه الآلية هي بمثابة العقوبة القاسية لبعضهم، بينما في الوقت ذاته، فهذا اللاإنصاف قد يغذي مشاعر الإثم والعدوان لدى غيرهم.
أما في قصيدة «خيمة حرب.. حرب أرقام» يظهر الشاعر كيف أن السلوكيات القميئة للكثير ممن حملوا السلاح، وسموا أنفسهم ثوارا دعت الناس بعد مشاهدة سلوكياتهم القميئة إلى أن تغيّر من نظرتها للثورة والثوار معاً، وبالتالي تعيد قراءة الثورات والانتفاضات بطريقة مغايرة، لم تعد هي النظرة نفسها التي كانت للثورة والثوار في سوريا قبل 2011، وحيث كانت الثورة إبان تفتقها أنشودة عذبة، بهية، مشرقة، حالمة، يتغنى بها الشباب والصبايا ليل نهار، بينما اليوم يتأفف من اسمها وسيرتها، حتى بعض مَن كانوا مِن أكثر المتحمسين لها.
وفي قصيدة «إحباطٌ ثرثار» يظهر الشاعر كيف أن إطالة أمد الخراب والدمار في البلد، واستمرار الظروف الاقتصادية القاهرة، جعلت المواطن يضيق ذرعاً بالآخرين، وحيث أن التعاسة التي تراكمت على كاهل المواطن لم يعد بسببها قادرا على تحمل أثقال سواه، إذ غدا المرء عبئاً على غيره، بعد أن أنهكت الحرب الكل، وقضت على أحلام الجميع في التغيير نحو الأحسن.. «كلانا يقول للآخر: أعتقني حتى أعيش بسلام أو أموت بسلام». أما في قصيدة «خارج من الحياة» فيحاول الشاعر أن يجعل أماكن العبادة أكثر دفئاً واُلفة وحيوية، وبعيدة عن التزمت والرسمية والجهامة، فتغدو تلك الأماكن قريبة جداً من الهواجس والمشاعر اليومية لطلاب الدنيا والآخرة على حدٍ سواء، محاولاً بذلك أن ينزع عنها القيود والمكبلات الماورائية، فتصبح الكنيسة مثل روضة أطفال، والجامع أشبه بملتقى للرومانسيين والعشاق والشعراء، فيقرّب بذلك أماكن عبادة إله السماء مِن أهل الأرضِ، ومَن يدب عليها أكثر من تعلقها بالماوراء وأهداف ومرامي الآخرة.

٭ كاتب وصحافي سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية