إسرائيل تفقد بريقها الاقتصادي: الهجرة العكسية أكبر من الهجرة للداخل والاستثمارات الأجنبية تتراجع

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

تخفيض التصنيف الائتماني، وزيادة الهجرة العكسية على الهجرة للداخل، وتخارج المستثمرين الأجانب، باستثناء الشركات الأمريكية، وارتفاع التضخم وتكاليف المعيشة، وتراجع النمو إلى الصفر، وانعدام الأمن، والانقسام الاجتماعي الحاد، تمثل مع غيرها من الظواهر الرديئة عناصر ضعف تتراكم داخل بنية الاقتصاد والمجتمع والدولة في إسرائيل منذ عملية طوفان الأقصى حتى اليوم. عدد المهاجرين إلى إسرائيل في العام الماضي بلغ 33 ألف مهاجر جديد، بينما غادرها ولم يعد 43 ألف مهاجر، طبقا لبيانات مكتب الإحصاءات المركزي في تل أبيب، وهو ما يعني زيادة الهجرة العكسية للخارج بمقدار عشرة آلاف مهاجر عن الهجرة إلى الداخل. هذه البيانات تثير قدرا كبيرا من القلق لدى الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية والسلطات الحكومية، لأنها تعني أن إسرائيل تفقد بريقها تدريجيا. ونظرا لأن نظرية بناء الدولة تقوم على أساس أن إسرائيل تمثل كل يهود العالم، وتتمتع بحق الولاية السياسية عليهم أينما كانوا، فإن الأرقام الأخيرة تكذّب هذه النظرية، وتقدم الدليل على أن إسرائيل هي مجرد مشروع استعماري يستخدم الدين اليهودي وسيلة لتحقيق أهدافه. بيانات الوكالة اليهودية بشأن طلبات فتح ملفات جديدة للهجرة سجلت انخفاضا شديدا في العامين الأخيرين، بسبب زيادة التطرف الديني اليميني، والحرب التي تبدو الآن بلا نهاية.
وتعتمد إسرائيل على 4 مقومات للقوة الشاملة تشكل أساس جاذبيتها ليهود العالم، هي المهارات البشرية، والتقدم التكنولوجي، والتفوق العسكري، والتحالف مع الولايات المتحدة. هذه المقومات الأربعة ترتبط ببعضها البعض، وسقوط أو ضعف أي منها يصيب الآخر. وقد كان سقوط استراتيجية الردع الإسرائيلية بعملية «طوفان الأقصى» التي تحل ذكراها الأولى غدا، بداية لانهيار تلك المقومات التي بدونها تسقط إسرائيل كما نعرفها منذ بدأ مشروع إنشائها في عشرينات القرن الماضي. التحالف مع الولايات المتحدة أصبح مهزوزا كما لم يكن من قبل، لدرجة أن النخبة الإسرائيلية تطرح علنا مسألة ضرورة تنويع الحلفاء، وتحذر من الإفراط في الاعتماد على الولايات المتحدة. وقد ثبت أن التفوق العسكري الإسرائيلي ليس حصنا يمنع انهيار قوتها العدوانية. والاستثمارات الأجنبية بدأت تتراجع، بل وتتخارج من مشاريعها هناك، ما أدى إلى تخفيض التصنيف الائتماني لإسرائيل. الأخطر والأهم من وجهة نظرنا هو أن إسرائيل فقدت بريقها لدى يهود العالم، ولم تعد «أرض الميعاد» التي تجذبهم للمعيشة فيها، ما أدى إلى انخفاض حاد في معدلات هجرة اليهود إلى إسرائيل منذ عملية طوفان الأقصى حتى اليوم. الآن وبعد 12 شهرا من عملية طوفان الأقصى هبط معدل الهجرة إلى إسرائيل بنسبة تصل إلى النصف تقريبا.

أهمية العامل الديموغرافي

تزداد أهمية التأثير الديموغرافي والاقتصادي السلبي على إسرائيل، حيث ارتفع معدل النزوح عن إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة منذ سنوات طويلة. ويعبر انخفاض صافي الهجرة إلى إسرائيل عن أن الحرب أدت لانخفاض الإقبال على العيش في إسرائيل اقتصاديا بين يهود العالم، وأن زعم الصهيونية العالمية بأن إسرائيل هي الوطن الطبيعي سياسيا لكل يهود العالم يضعف ويتآكل، إضافة إلى ضعف إيمان أغلبية يهود العالم الرؤية بالتوراتية المنحرفة المتطرفة التي تعتبر فلسطين أرضا مملوكة ليهود العالم، ولا تقبل وجود غير اليهود فيها.
وينطوي انخفاض معدل الهجرة الى إسرائيل على خسائر استراتيجية هائلة، تتمثل في تخفيض معدل نمو السكان اليهود، وتقليص إقبال المهارات البشرية العالية على العمل هناك، وحرمان إسرائيل من مدخرات ورؤوس أموال المهاجرين، وإبطاء معدل النمو الاقتصادي، إضافة إلى تقليل أعداد الأفراد الذين يخضعون لنظام الخدمة العسكرية الإجبارية، والتعبئة في قوات الاحتياط. وعلى الرغم من أن الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية العالمية بذلت جهدا كبيرا لتجنيد عشرات الآلاف من الشباب اليهودي في أوروبا والعالم للهجرة إلى إسرائيل، لغرض الإسهام في زيادة القدرات البشرية العسكرية، فإن النجاح الذي حالف هذا الجهد كان محدودا جدا. وقد استخدمت أجهزة الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية العالمية سلاح الخوف من «العداء للسامية» أداة رئيسية من أدوات حشد الشباب للهجرة إلى إسرائيل خلال الأشهر الماضية. ومع ذلك فإن أعدادا متزايدة من الشباب اليهودي في كل أنحاء العالم، خصوصا في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا رفضت الانخراط في هذا الحشد للهجرة، واشتركت بدلا من ذلك في حملات لمقاومة السياسة الإسرائيلية النازية العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، وهي من أحد أهم النتائج المعنوية التي خلقتها عملية «طوفان الأقصى».

هبوط عدد المهاجرين
بنسبة 42 في المئة

اعتمادا على أرقام الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية فإن الفترة من بداية العام الحالي حتى نهاية آب/اغسطس سجلت هبوطا شديدا في أعداد المهاجرين الجدد الذين وصلوا إلى إسرائيل، كما سجلت أيضا انخفاضا مماثلا في أعداد الراغبين في الهجرة الذين تقدموا بطلبات لفتح ملفات للهجرة لدى مكاتب الوكالة والمنظمة في عواصم العالم. ويتعين على طالبي الهجرة التقدم أولا بطلباتهم، ثم تخضع هذه الطلبات للفحص بواسطة جهات عديدة للتأكد من صفة «الأصل اليهودي»- مع انه تم قبول عشرات الآلاف من المهاجرين الروس لا تتوفر لديهم هذه الصفة – والتحقق من «الانتماء السياسي» الذي يضمن الولاء للصهيونية العالمية.
وكانت لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست الإسرائيلي قد عقدت اجتماعا خاصا في منتصف الشهر الماضي لمناقشة مسألة تدهور معدلات هجرة اليهود إلى إسرائيل، منذ بداية العام الماضي، خصوصا وأنها ترافقت مع مجيء حكومة اليمين الديني الصهيوني المتطرف، ثم اشتدت حدتها بعد عملية طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. وكانت الهجرة إلى إسرائيل قد وصلت إلى أعلى مستوى لها في عام 2022 مع وصول 73 ألف مهاجر، معظمهم من أوكرانيا وروسيا. كذلك فإن ظاهرة التشدد الديني والسياسي التي صاحبت صعود حزب الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وحزب العزيمة اليهودية بزعامة إيتمار بن غفير، أدت إلى ضعف الإقبال على طلب الهجرة إلى إسرائيل بين يهود العالم، خصوصا مع طرح مشروع التعديلات القضائية التي تسلب السلطة القضائية ما تبقى لها من استقلال.
وطبقا للأرقام التي قدمتها الوكالة اليهودية للكنيست، فإن عدد المهاجرين انخفض إلى 47 ألف مهاجر في عام 2023 من 73 ألفا بنسبة انخفاض بلغت 36 في المئة تقريبا عن عام 2022. ثم استمرت أعداد المهاجرين في التدهور لتبلغ 23 ألفا و183 مهاجرا جديدا إلى إسرائيل خلال الفترة من كانون الثاني/يناير إلى اب/أغسطس من العام الحالي، ما يمثل انخفاضا بنسبة 42 في المئة مقارنة بالفترة المقابلة من العام الماضي. ومع استمرار انخفاض عدد طلبات فتح ملفات للهجرة، فليس من المتوقع عودة مستويات الهجرة إلى ما كانت عليها قبل عام 2023 خصوصا وأن فتح ملفات جديدة للهجرة من كل أنحاء العالم انخفض منذ عملية طوفان الأقصى بنسبة 19 في المئة عما كان عليه. ومن الملاحظ أن استخدام سلاح التخويف من انتشار ظاهرة «العداء للسامية» ضد اليهود ساعد على زيادة الهجرة من الولايات المتحدة وفرنسا بعد الحرب. وطبقا لأرقام الوكالة اليهودية، فإن غالبية المهاجرين الذين وصلوا إلى إسرائيل في عام 2024 (نسبة 72 في المئة) بعدد 16 ألفا و608 مهاجرا جاءوا من دول الاتحاد السوفييتي السابق. من هؤلاء 14 ألفا و514 مهاجرا جاؤوا من روسيا، و693 من أوكرانيا، و546 من بيلاروسيا. ورغم ذلك، فإن هذه الأرقام تعكس انخفاضا بنسبة 49 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
في المقابل، فإن الهجرة من أوروبا الغربية زادت بنسبة 50 في المئة، مع دخول 2446 مهاجرا أوروبيا يتقدمهم مهاجرون يهود من فرنسا بنسبة زيادة بلغت 76 في المئة. كما تشير الأرقام إلى زيادة كبيرة في معدل فتح ملفات جديدة للهجرة في كل من الولايات المتحدة (60 في المئة) وفرنسا (342 في المئة) إضافة إلى زيادات ملحوظة في كندا وبريطانيا.
وقد كان تأثير عملية طوفان الأقصى مباشرا وسريعا جدا في تخفيض معدلات الهجرة. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2023 هاجر إلى إسرائيل 1163 شخصا، مقارنة بـ 2364 مهاجرا في الشهر السابق أيلول/سبتمبر وفقا لما ذكره مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي في أواخر العام الماضي. وقالت الوكالة اليهودية إن 6091 شخصا انتقلوا إلى إسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2022 وهو ما يترجم بتراجع في عدد المهاجرين بمقدار 1201 فردا بنسبة هبوط بلغت 50.8 في المئة. ووفقا للبيانات الصادرة عن وزارة الهجرة والاستيعاب، فقد هاجر حوالي 2000 شخص إلى إسرائيل بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و29 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023 وهو يعادل ما يقرب من 1000 مهاجر شهريا، مقارنة بحوالي 4500 شهريا في المتوسط في الأشهر التي سبقت اندلاع الحرب، ما يعكس انخفاضا بنسبة تتجاوز 70 في المئة في الأسابيع القليلة الأولى من حرب غزة.

تراجع الجاذبية الاقتصادية

يمثل تخفيض درجة الجدارة الائتمانية عنوانا كبيرا وحقيقيا لتراجع الأوضاع الاقتصادية في إسرائيل. ويشمل ذلك ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم والضرائب وزيادة العجز المالي للحكومة وانخفاض معدلات النمو، وتراجع توقعات تحسن الوضع الاقتصادي في وقت قريب، وزيادة الأعباء الاقتصادية مع غياب أي استراتيجية واضحة للخروج من الحرب التي بدأت في غزة، ثم امتدت إلى الضفة الغربية وجنوب لبنان، وتتزايد الآن احتمالات أن تتحول إلى حرب إقليمية متعددة الأطراف، خصوصا بعد الضربة الصاروخية التي وجهتها إيران إلى إسرائيل في أول الشهر الحالي وإعلان إسرائيل أنها سترد عليها. وبعد وكالة موديز، أعلنت ستاندرد آند بورز غلوبال أنها خفضت مرة أخرى التصنيف الائتماني لإسرائيل، محذرة من أن القتال ضد حماس في غزة والمقاومة في الضفة الغربية ومع حزب الله في لبنان قد يستمر حتى عام 2025 مع مخاطر الردود الانتقامية من جانب المقاومة. وقد اتفقت وكالة موديز ومؤسسة ستاندرد آند بورز على أن استمرار الحرب من شأنه تأخير حدوث التعافي الاقتصادي الذي كان متوقعا في العام المقبل. وقالت ستاندرد آند بورز إنها خفضت توقعاتها للنمو لهذا العام والعام المقبل، متوقعة نموا بنسبة صفر في المئة في العام الحالي و2.2 في المئة في عام 2025 إلى جانب اتساع العجز المالي على المدى القصير والمتوسط مع زيادة الإنفاق المرتبط بالدفاع بشكل أكبر. وكالة موديز خفضت توقعاتها للنمو لعام 2025 بشكل كبير إلى 1.5 في المئة فقط، وهو انخفاض حاد عن توقعاتها السابقة البالغة 4 في المئة، كما تم خفض توقعات النمو على المدى الطويل إلى 3 في المئة بدلا من 4 في المئة.

تراجع الاستثمارات

وفقا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى إسرائيل 6.7 مليار دولار في النصف الأول من عام 2023 بانخفاض بنسبة 24 في المئة عن المستوى المسجل في نفس الفترة من العام السابق (8.8 مليار دولار). ومنذ ما يقرب من 12 شهرا، تواجه الشركات الناشئة الإسرائيلية وغيرها صعوبات كبيرة في التشغيل، مع الاستدعاء المستمر للموظفين للخدمة العسكرية في قوات الاحتياط، واستمرار عدم اليقين بشأن مدة الحرب. وقد أضر غياب الموظفين بالعمليات اليومية للشركات الناشئة، فضلا عن تخفيض قدرتها على جذب المستثمرين الأجانب وجمع التمويل سواء من الداخل أو الخارج.
وقد أظهرت إحصاءات قياس الأداء في قطاع التكنولوجيا المتقدمة أن معدلات نمو الاستثمار في الشركات الناشئة قد تباطأت في الربع الثالث من العام الحالي، إذ انخفض رأس المال الذي جمعته شركات التكنولوجيا في الفترة من تموز/يوليو إلى أيلول/سبتمبر بنسبة 20 في المئة مقارنة بالربع السابق، وفقا لبيانات صناديق الاستثمار ومؤسسات التمويل. جاء ذلك في تقرير أعده مركز الأبحاث «آي في سي تك» ذراع بنك لئومي المتخصص في شركات التكنولوجيا. وطبقا للبيانات الواردة في التقرير فقد جمعت شركات التكنولوجيا الإسرائيلية الناشئة 2.43 مليار دولار من رأس المال من المستثمرين خلال الفترة من تموز/يوليو حتى أيلول/سبتمبر، مقارنة مع 3.05 مليار دولار خلال الربع السابق، وفقا للبيانات الأولية للتقرير.
وجدير بالذكر أن بيانات الاستثمار في العام الماضي سجلت انخفاضا في تدفقات التمويل بنسبة 56 في المئة إلى 6.9 مليار دولار. وكان هذا الهبوط الحاد في تدفقات الاستثمار نتيجة غير مباشرة لانتشار المخاوف بين المستثمرين بسبب التعديلات القضائية المقترحة، التي تصادر تقريبا استقلال السلطة القضائية. ومع اندلاع حرب غزة وتداعياتها، فإن كثيرا من صناديق الاستثمار في العالم بدأت سياسات رسمية للتخارج من مشروعاتها في إسرائيل. ويعتبر صندوق الاستثمار السيادي النرويجي أهم مؤسسات الاستثمار العالمية التي تتخارج بشكل منظم من استثماراتها هناك. وتعتمد الشركات الإسرائيلية في الوقت الحاضر على التمويل القادم من شركات أمريكية، التي تشكل وحدها ما يقرب من 70 في المئة من عدد الشركات الأجنبية المستثمرة في إسرائيل.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية