إعادة تعريف…

حجم الخط
2

كنا في نهاية المرحلة الثانوية حين كانت الآمالُ بلا حدود والأحلامُ وردية، والحياةُ خارج غرفةِ الصف المزدحمة تبدو غايةً في الرحابة والكرم… كانت عيوننا على اللوح، نتابعُ المعلمة وهي ترسمُ لنا الجهازَ الهضمي لسمكة! فُتحَ بابُ الصف، لتدخلَ علينا المديرةُ ترافقها امرأةٌ ترتدي ثياباً بيضاء، عرفنا من هيئتها أنها ممرضة، ونظراً لتقدمها في العمر، ولضخامتها النسبية، استنتجنا أنها رئيسةُ الممرضات أو شيء من هذا القبيل.
جرى حوارٌ هامشي بين المديرة والمعلمة، ثم وقفت الزائرةُ أمامنا، وألقت كلمةً طويلة بنبرةٍ خطابيةٍ عالية، وصوتٍ جهوري متضمنةً عباراتٍ رنانةً عن المرحلةِ المصيرية التي تنتظرنا، وجملا بليغة تمحورت حول أنها مهنةٍ شريفة، وقالت أشياءَ عن ملائكة الرحمة، وتابعت خطابَها بالصوتِ العالي الرتيب إياه حتى أن زميلتي همت، وسطَ شرودها، بالتصفيق غير مرة. ثم تنفسنا الصعداء لما ختمت الموضوع ببيتِ شعرٍعتيد، لتبادرَ مديرتُنا بالسؤال: «والآن يا بنات، وبعد ما سمعناه من ضيفتِنا الكريمة عن مهنة التمريض، من منكن قررت التفكير بامتهان التمريض بعد تخرجكن القريب ؟». وسادَ المكانَ صمتٌ مربك للحظات، فاستدركت الموقفَ بحكمةٍ لتضيف: «سأغيرُ صيغةَ السؤال، ما رأيكن بمهنة التمريض؟». فعادَ الصمتُ الثقيلُ ليخيمَ على المكان، هذا كله، ونحن نتحاشى النظرَ إلى ملاكِ الرحمة الواقفِ أمامنا، إذ لم يكن ليخطرَ لأي منا التوجهُ لمثل تلك المهنة، فالطالبةُ الجالسةُ في المقعد خلفي كانت ترددُ في كل مناسبة أنها تنوي دراسة «هندسة الذرة»، والأخرى المجاورة لها كانت قد عقدت النيةَ والعزمَ على دراسة «طب الأعصاب»، أما الأخيرة بقربي، فقد كانت تتعمدُ الجلوسَ قرب النافذة، وكانت تطيلُ النظرَ نحو السماء، فلم أستبعد أنها كانت تميلُ إلى دراسة «علوم الفضاء»، ألم أقل أن الحياةَ كانت تبدو لنا سخية، والآمالُ كانت بلا حدود؟
طالَ الصمتُ العجيب، حتى يئست المديرةُ من تفاعلنا، فبدأت تختارُ الفتيات بطريقةٍ عشوائية وتسأل كلاً منهن عن رأيها بمهنة التمريض، لتأتي الإجاباتُ على استحياء بأصواتٍ مترددة، وبجملٍ قصيرةٍ مختزلة مثل: «هي مهنةٌ شريفة!» لتتبعَها أخرى فتُضيف: «هي مهنةٌ كلها عطاء، ومن أشرف المهن» وتوالت الإجاباتُ بصياغاتٍ ركيكةٍ جامعُها المشترك عبارة «مهنة شريفة». هنا، ابتسمت المديرة، وكانت المرةَ الأولى التي نرى فيها ابتسامتَها، لتقول: «عزيزاتي، إن مجردَ التركيز على أنها مهنةٌ شريفة، يجعلَ المهنةَ ذاتَها موضعَ شك وتساؤل، فأي مهنةٍ تختارينها بعد تخرجكِ أيتها الطالبة، أنتِ نفسُكِ التي تجعلين منها مهنةً شريفة، أو غيرَ شريفة!».
وبدت تلك الجملةُ المؤثرة الحاسمة مفصليةً في وعينا آنذاك، وما زالت حتى اليوم بعد أن كنا نرددُ مفاهيمَ مجتمعيةً ساذجة وعموميةً وقاسية، بدون تفكير، لتمر عقودٌ عديدة وطويلة على ذلك اليوم حتى وقعَ بين يدي مؤخراً كتابٌ مدرسي لأحدِ الأطفال يتحدثُ فيه عن التمريض ليبدأ الموضوعَ بعبارة: «مهنةُ التمريضِ مهنةٌ شريفة» لأجزمَ أن الصغيرَ ابنَ السبع سنوات لا يُدركُ أي شيءٍ عما يقول، وليس لدى التربوي الفذ الذي كتبَ الموضوع أي علاقةٍ بالتربية.
السؤال الموجع: إلى متى سنظل أسرى القوالب الفكرية الجاهزة؟ وهل أدركَ معظمُ البالغين العقلاء منا معنى الشرف حتى يُعلموه لأجيالنا الجديدة؟ وهل عملَ واضعو المناهج المدرسية بالمهنية والعمق والنضج المطلوب على توسعة المفهوم، حتى يصلَ إلى ذهن الصغار مرتبطاً بالقيم الأخلاقية والإنسانية العامة التي تُجمعُ عليها المجتمعات الحضارية الدينية والمدنية إن شئتم؟ في أي خانةٍ نضعُ فئةَ الفاسدين والمُختلسين وخونةِ الأوطان وبائعي الذمم يا تُرى؟ أم أن قيمة الشرف ما زالت أنثوية الطابع وقابعة هناك في العتمة إياها، وفي عتمةِ الجهلِ والتغابي والجمودِ، أما حانَ الوقتُ لإعادة النظر وإعادة تعريف «الشرف» لمواجهةِ تشوهاتنا الأخلاقية والسلوكية بشجاعة وجرأةٍ ورجولةٍ حقيقية؟

٭ كاتبة أردنية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول وطني شريف:

    ماذا عن المطبعين الخبثاء مع الصهاينة هل يندرجون في قائمة الخونة وبائعي الذمم وفاقدي الشرف ؟!

  2. يقول Jihad sadi:

    أحسنت واحسن الله إليك د لانا هذا هو الكلام الصحيح المطلوب هو إعادة تعريف مفهوم الشرف وتوسعة هذا المفهوم وعدم حصره في قوالب ضيقة لأن الشرف هو مكان العفة عند الأنثى التي ترتكب من أجله جرائم كثيرة تسمي ظلماً جرائم شرف حقاً اعطيتي الجيل الجديد رسالة تربوية راقية

اشترك في قائمتنا البريدية