إغراءات العتبات في مزامير مدينة علي لفته سعيد

من الواضح أن عتبة النص تعتبر أول المفاتيح التي يمكننا بواسطتها أن نلج إلى عوالمه، وقد نتلمس جزءا مما يريد أن يقوله لنا في خطابه، باعتباره صورة مكثفة للمحتوى، وهي أول الحوافز الإغرائية التي يستخدمها الكاتب؛ لسحب القارئ عنوة إلى سبر أغوار النص، ومتابعة آثار خطواته التي تركها، وهو ينتقل من فضاء إلى آخر. «فهو أول ما يشد البصر، وآخر ما يبقى عالقا في الذهن».
ويعرف جيرار جينيه العنوان بأنه: «مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل، وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه، وتشير لمحتواه الكلي، ولتجذب جمهوره المستهدف» (عبد الحق بلعابد- عتبات). ومن خلال أول عتبة نصية لرواية علي لفته سعيد، التي حملت عبارة «مزامير المدينة»، سنبتدئ التنقل في رحلة الانقياد لتلك الإغراءات الجميلة، إذ يقودنا العنوان بما ينفتح عليه من دلالات وإشارات مكونة حافزا إغرائيا يدفعنا للبحث عن المعنى المراد من مفردة (مزامير) التي سنجد أنها وردت في «لسان العرب» مشتقة من (زمر)، أي غنى في القصب. والمزمار تداوليا: هو تلك الآلة من القصب المستخدمة في العزف. وقد ورد في «القاموس المحيط» أن مزامير داود: هي سفر من أسفار التوراة، وهي ما يترنم به من أناشيد وأدعية.
ووفقا لذلك فإننا أزاء عتبة إشكالية، إذ لا يمكن أن نعد ما يجري من أحداث في متن الرواية أناشيد، أو معزوفات للمدينة. وربما كانت دلالة العنوان أكثر انطباقا لو كان المتن نصوصا شعرية، باعتبار أن الشعر أكثر قربا للعزف، أو أكثر قربا للترنيم. غير أن هذه الإشكالية ما تلبث أن تتكشف لنا إمكانية انطباقها على ما سنراه في المحتوى الداخلي للرواية، من خلال مجموعة من المتعاليات النصية التي استخدمها الروائي علي لفته سعيد كموجه قرائي، أو مفاتيح لفصول روايته، التي كان أغلبها محملا بروح الشعر، والتي ربما أراد لكل واحدة منها أن تمثل مزمورا، يتردد صداه عبر ما يعقبه من أحداث وصراعات، تمثل الحشد الذي يعيد الترنيمة خلف صوت المنشد الأول.. ومثال ذلك:
«كأني بلا سماء
لا أعرف كيف أصلي للبلاد» .
***
«يا أعلى النهر
كيف السبيل إلى الفردوس وكل الطريق اشتعال»
***
و«خذ غيمتك
لديّ ما يكفي من العطش»
***
و»البلاد يتيمة… لمن أهدي الورود» وغير ذلك.
لقد جاءت تلك المناصات أشبه بـ«العناوين الداخلية»، أو اللافتات الإرشادية، أو الإغرائية، لتشكل نصا موازيا يعتمد التكثيف والغموض، ليكون محفزا للقارئ في البحث عن مدلولاته، أو حافزا إغرائيا يدفع به للكشف عن مدى التعالق بين محتوى النص الموازي والمتن السردي. ورغم أن هذه النصوص المجاورة لا تمتلك أي سلطة تمنحها الهيمنة على المبنى الحكائي، أو لتكون جزءا مؤثرا فيه، إلا أنها ومن دون شك تمتلك ضروراتها التحفيزية، والإغرائية، سواء للروائي، أو للقارئ.
ولعل أولى المناصات التي أراد من خلالها علي لفته سعيد، أن يغرينا بواسطتها للسير معه في زحام مدينته، هو ذلك النص المنقول من ملحمة كلكامش، الذي سيكتشف القارئ أن هناك الكثير من التعالقات بين النص الكلكامشي بإشاراته التوجيهية، ومجريات الأحداث في المتن الروائي.
يقول النص «يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم
يهلك الرجل وهو محزون القلب
ها أنا ذا أنظر من فوق الأسوار
فأرى الجثث تطفو على النهر
وأنا سيحل بي حقا المصير نفسه»
وما أن ندخل إلى عوالم الرواية، حتى نكتشف أن الظروف الحياتية ستؤدي بالشخصية الرئيسية، وهو الإنسان المثقف والكاتب، إلى العمل دفانا للموتى، وهي مهنة سيكون لها أثر في تصاعد الصراع النفسي، والاجتماعي لتلك الشخصية.
وإذا كان كلكامش يرى (الجثث تطفو على النهر)، فإن (محسن)، وهو اسم الشخصية الرئيسية سيرى الجثث مستسلمة بين يديه اللتين ستواريانها الثرى، وتهيلان عليها التراب. وبلا شك فإن ذلك المشهد سيرسم أمام عينيه لوحة (المصير نفسه) لحياته. لقد كان خطاب كلكامش هذا، وصرخته وثورته في وجه الموت، أو في وجه الإله شمس، الذي يحمّله فيه المسؤولية عن هذا المصير المأساوي، منطلقا من نفسه المحملة بالهم والحزن لمصير أولئك الذين لم يحصلوا من الحياة على شيء.
فهل أراد علي لفته سعيد من تصديره لروايته بهذا الخطاب أن يحاكي صرخة الرفض الكلكامشي ويطلقها بوجه الموت والمآسي التي ما انفكت تحاصرنا بكل قوتها؟ وللإجابة على هذا التساؤل لا بد لنا أن نبحث في متن الرواية عما تعرضه أمام أعيننا من مشاهد لا تبعد كثيرا عن الواقع المعاش، وإن كانت بتفاصيلها مجريات افتراضية أو متخيلة.
وإذا كان الإله شمس هو وجهة خطاب كلكامش، فإن وجهة خطاب الروائي (آلهة) كثر، إنهم اولئك الذين كانوا ومازالوا يتركون وراء خطواتهم آثار الحزن والهم والمآسي، التي لا تنفد مهما تغيرت وجوههم.
تعرض لنا رواية «مزامير المدينة» صورا محزنة ومقلقة في آن، لما خلفته الحروب والصراعات المختلفة الدوافع والمسببات في المجتمع، كما تصور مدى الإحساس بالمرارة والخيبة التي باتت تواجه المجتمع الذي كان يأمل بتغيير يوفر له حياة هانئة ومستقرة. حياة لا يحاصرها الخوف والعوز والضياع. الرواية إذن في معظم مساحتها محملة بالهم الكلكامشي وغضبه وصرخته في وجه آلهة البؤس والحروب والفساد.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية