أعرف أن رسائلي قد لا تصل إليكِ وأنها قد تكون تاهت في دخان الحروب، أو أنها محتجزة عند بوليس الرسائل والحنين. تلك البلاد البائسة الحُبلى بالموتِ والخوف، أعلم جيداً أن السماء في مدينتي الآن شحيحة خالية من رقصةِ نجماتٍ، أو حتى من غيمات يقرأ على دفاترها العاشقون رسائلَ الحبِ، ولا غيمات نرى فيها، نحن المنفيين، بقايا منازل أو مقاهينا القديمة. لكني أعلم أنها يوماً سترتمي بين أصابعكِ عند شباك البيت العتيق حين تاهت في حكاياتنا قصائدَ مكتوبة بين حواري الشام. ما زلتُ ذاك المتمرد الهارب من زمن المجانين، أنثرُ كلماتي أينما حللتُ مذ لفظتني مدينتنا، علّي يوماً أن أعرف طريق العودة أجثو على سجادة البيت وأنام، عليّ أن أعرف مرةً أخرى طريق الحارة والألعاب، هي العودة يا صديقتي، خيبتنا الجميلة الباقية، وما زلتُ أكتبُ قصائد أعلقها على السماء، كنت أقول دوماً أن هذا الكون لي، رغم أني لم أنشرها بعد، أغار عليها في زمنٍ يخجلُ العاشق فيه من الحديث عن الحب، صار الحبُ عيباً.. ضعفاً مُهيناً تتهاوى فيه الكلماتُ والأشعار أمام نسخٍ مشوهة للحب، لم يعد هنالك عشاقٌ ينقضون على الحدائق ينتظرون على المقاعد، ومحاولاتٍ فاشلة للعناق وقبلاتٍ مسروقة بطعم الثورة والجنون، هو زمنٌ باتت فيه الرومانسية عيباً حجرياً، سلعةً رديئة في زمن السلع والمال، ومكانها الرفوف الخشبية العتيقة في دكان، صار الحبُ أصل البلاء وأصل المجاعات والخراب يتسابقون فيه لبتره وحرقه، صار كالحرية تقض مضجع الطغاة والمهزومين الجبناء لا مكان فيه للقصيدة، كيف أنثرُ قصائد، وأنا لا أكتبُها بل أقتطعها من جسدي كلمات، ستأتي يوماً امرأةُ حسناء تنفض عنها الغبار.
لم تكن باريس أولى محطاتي نحن الأوغاد من انتفضوا وطاروا دون أجنحة وعبثاً فعلنا في عالم لا يعترف إلا بحدود القتلة والكاذبين، حتى جاءت قيامتنا على صورةِ منفى، كم هي ملعونة تلك الزنازين التي فرّقت بين حاراتنا وقلوبنا، وتلك الأحزان الشعواء المعجونة من جلودنا وسجائرنا، لكن باريس الجميلة لا تشبهُ دمشق في شيء، هي ليست سوى منفى أنيق كباقة وردٍ تبتل في أحد شوارعها الباردة، أما أنا فذاك الرجل الغريب اللطيفَ.
أخبرتُ كريستيل صديقة فرنسية ، أننا في الشرق لسنا لطفاء، بل هي حضارتنا على هيئة ضحكات، نحن نعرف كيف نضحك وكيف نغني في كل مرة يفيضُ في داخلنا رُكام، نحن كالأغصان نميل على جذوعنا وأوراقنا إن سقطت تتناثر بين أرواحنا، ننام على أجسادِ بعضنا دون أن ندري لمَ كل هذا الحب، ولم كل هذه الكراهية، نشبه بعضنا جداً فإن حزنت بيروت بكت دمشقُ، ونزل الدمع في القاهرة، ونقتل بعضنا ونجوع ثم نركبُ مراكبَ الحزنِ ونهاجر، ونعود لننام كالأغصان على جذوع بعضنا في المنفى. أرسلُ لكِ من شرفة المول مارت، أحدثُ كريستيل عن مآثر الشام، لكن هذا القلب لا يرى من تلتي سوى دخان الحرب هناك، وأرى حضارة الزنازين وطوابيرَ الخبز. أرى هنا كيف تُحنط الزهور المقبلة من زمن بونابارت، أتأمل كيف أن الرصيف ليس إلا قطعة من رمشِ أهل المدينة ونحن نرمي مآذننا ومقاهينا وحروفنا الأوغاريتية وممالكنا العذراء نرميها جواريَ تحت أقدام الموت وكرمى لعيني الجلادين.
في مترو باريس قالت كريستيل مرة، إني أتحدث كالأمراء، أميرٌ لكني دون تذكرة. ففي مترو باريس لا توجد هي ليست سوى بضع محطات فاخرة تُناسب ذوق السيّاح وتهديهم مدينة باريس الساحرة مدينة النور والحب بين الشانزليزيه والباستيل ممر باريس إلى العالم، وفي المحطات الأخرى، حيث الناس المكدسة تمضي شمس المدينة الخجولة تحت الأرض دون أن تراها دون تذاكر، أميرٌ دون تذكرة يا كريستيل، تلك هي المعضلة بأننا كقطع من الشوكولاتة لكنها منتهية الصلاحية.
أرتب دفاتري وأوراقي عسى أن يكون في جداري متسعٌ لحلمٍ جديد بين الثورات والحروب والمنفى والحب والخيبة، نتساقط هنا كأوراق شجر ثم ننبتُ فنغني، يتحدثون كثيراً عن الحب في باريس وأنغام أزنافور ودوسان، أحب زمنَ كلاسيكية الحب، فأنا رجل بالأبيض والأسود في هذا العالم الملون، لكن الحب هنا كمواعيد تقليدية له شكل وبداية ونهاية كل شيء فيه بانتظام، يلتقي العاشقون بانتظام دون هذيان الانتظار دون رسائل الحمام بين شرفات وشبابيك العاشقين، يطير الحمام هنا بلا خبايا وأسرار، حبنا في الشرق كحياتنا لا شكل له ولا لون له عبثيُ بلا نهاية تأسره ودون بداية أو عنوان، حتى قبلتنا فيها معنى النشوةِ ومعنى الانتصار، في حاراتنا المزروعة بالعيون وبالسلطة، أذكر أني انتظرت أسابيع فقط كي أهدي إحدى الجميلات منديلاً وبيت شعر، رحلت وفشلتُ وبقي المنديل في جيبي يدون أولى خطوات هزيمة العاشقين، لكن هزائم العاشقين هي بذاتها انتصار، فقلت لكريستيل أن تتحدث أي لغةٍ تشاء، لكن حين تحبين فلتحبين بالعربية إن الحب حين ولدّ، ولدَ شرقيا.
لا عربات للتوت والتماري هنا ولا كرواسان بالزعتر، ولا مقهى النوفرة فيها، ستقرأين آثار الهزيمة، أعترف بأني لم أر كوارث الهزيمة وآثارها سوى هنا على أكتاف العروبة، تائهون لا يعرفون من هم؟ هل عرب هم أم أعاجم، وآخرُ المهزومين هل نحن؟ بل هم، فأنا لا أحب حياة الأموات هذه التي يتبنون فيها هزيمتهم ويشربونها في كل صباح، يتغنونَ بأنهم بلا أوطان نسوا أنهم في حضرةِ المنفى وسيادته، هذا المنفى الذي يعني خيمةً رأسها السماء والرب، وحدودها كل الكون أينما وصلت أعيننا وأسرابُ العصافير.
أحملُ حقيبتي على أرصفة السفر، وأطير بلا أوطان كالعصفور أشدو، في كل مدينة أسكنها أبني عشاً فأحرقه، أكتب على جدرانها بأن هذا الطفل مرَّ من هنا لم يكبر وبأني يوماً كما غنت فيروزُ سأرجعُ إلى حيينا، وقبلةُ أحلى السيدات ما تزال محفورةً على فمي حين زارتني في آخر الأحلام. سأكتب رسائل أخرى أما الآن، أمشي في شوارع باريس، باريس الكبيرة لكنها أصغر من صدورنا حين نفتحها للعناق، هي أصغر من ابتساماتنا حين تثور في عروقنا الذكريات.
كاتب سوري
مدهش ، مدهش وجميل جداً وموجعة جداً..
أحييك
جميل جدا .. المنفى الانيق بلا تفوضى الحب