غيب الموت مساء الأربعاء 15 تموز/يوليو الأديب الأردني إلياس فركوح (1948- 2020)، إثر نوبة قلبية حادة، عن اثنين وسبعين عامًا، ويعد فركوح من أعمدة الأدب والثقافة في الأردن، ومن صناع الثقافة العربية، بصفته روائيًا وقاصًا وناقدًا ومترجمًا وناشرًا؛ فهو صاحب ومدير دار أزمنة للنشر، ورئيس مجلس إدارة شبكة الإعلام المجتمعي.
تأثر إلياس فركوح كثيرًا بهزيمة يونيو/حزيران 1967، وآثارها الكبيرة على الأمة العربية، وما أثارته من أسئلة ما زالت برسم الإجابة، كما تأثر بدراسته للفلسفة وعلم النفس، وانعكس ذلك على كتاباته، التي تنحت في عمق الوعي العربي، مثيرة مكامن الوجع وأسئلة المصير والهزيمة والتخلف. وتميزت لغته بالأناقة والمستوى الرفيع والنخبوية أحيانًا، يقول الشاعر زهير أبو شايب في تقديمه لكتاب «أشهد عليّ… أشهد علينا»: «من أبرز الملامح الأسلوبية، التي تميز كتابة إلياس، تلك اللغة التنويرية التي تحتفي بذاتها أكثر مما تحتفي بخطابها، وتحاول أن تكشف وتشف أكثر مما تحاول أن توضح وتصف، وتتخلى أحيانًا عن سرديتها لتتسلل إلى الشعر من ساحته الخلفية، لأن وظيفة اللغة هنا أيضًا ليست محصورة في وعائيتها، بل تتعداها إلى ما هو أبعد من ذلك».
وفي أحد حواراته، يجيب عن سبب عنايته الفائقة باللغة التي قد تكون عائقًا أمام القارئ: «أدرك تمامًا أن أحد أسباب صعوبة «التواصل» مع نصوصي انضفارها في نسيج لغة تنفر من المباح اليومي، السهل، لأنه مألوف ويمنح المعنى مباشرة بلا عسر. وبالتالي أستطيع فهم وسم البعض لها بأنها كتابة نخبوية، صعبة، بمعنى ما. لا أعترض على هذا، ولا أجد فيه وجهة نظر سلبية. جُبلت، ككاتب، بطحين هذه اللغة وعطرها. هكذا استوت لغتي عبر سنوات وسنوات من القراءات المتأنية، المنتخبة، اللاقطة بدافع من ذائقة تخصني. ذائقة نمت منذ طفولة التأتأة المتهجية للكلمات وطبيعة العلاقة في ما بينها من أجل تكوين «جملة مفيدة». الأمر ليس في متناول التدبر ـ كأن أعود للوراء لأولد من جديد».
في كتابه «الكتابة عند التخوم»، يؤكد فركوح أهمية العمل الروائي كشهادة على العصر، يقول: «أجيز لنفسي، كروائي يعيش عصره واعيًا بأنه جزءٌ، أو بالأحرى شظية في تاريخ لن يتوقف لحظة واحدة، أن أتجرأ لأقول بأن نصّي الروائي، كما أعاينُه، هو قسطي الشخصي في مدونة التاريخ العربي المعاصر: نص يستكمل طيفًا سيظل ناقصًا ومُطفأ بمعزلٍ عنه، وبتدويني له أكونُ قمتُ بملء فراغٍ لن تستطيعه الوثائق وأكداس الأرشيفات».
ويجيب على سؤال محاوره حول النهايات الإشكالية لأعماله القصصية والروائية، مؤكدًا احترامه للقارئ ككاتب آخر للنص: «أنا لا أصل، ولعلني لا أريد. أرسم بتكثيف وإيجاز. كلما أمطت حجابًا عن أمر ما داخل «بقعة أو مساحة»، وجدتني أكتفي بذلك، مدركًا أن ثمة ما هو أكثر، لكني أحجم فأتوقف. النقصان داخل النصّ المطبوع في كتاب، سيكتمل نسبيًا، كلما تعرض لقراءة جديدة، كلما أضيفت إليه نظرات أخرى، وهكذا، إلى أن يحتل «أمكنته» فوق سهول التأويلات قيد الاحتمال؟».
وعرف إلياس فركوح بتواضعه في ما يخص كتاباته، وبعده عن النرجسية، وطلب الشهرة الزائفة، يقول عنه الناقد الأكاديمي يوسف بكار في كتابه «مبدعون ومبدعات- تراجم وتنويرات نقدية»: «مبدع ذو نزوع قومي متأجّج، وهو من أكثر المبدعين كلامًا، بصدق وتواضع، على كتاباته من خلال حواراته وشهاداته المتعاقبة… التي ترصد بداياته وتطوره الفني وقراءاته وتأثراته، وهي ضرورات لازبة لمن يقتحم حماه الإبداعي». ويؤكد تواضعه الجميل، في إجابته عن سؤال محاوره حول طقوسه في الكتابه: «أعتبر نفسي كاتبًا «سلحفائيًا» من حيث البطء بالكتابة، و«أيوبًا» في الصبر الطويل على إنضاج الانتقالات والخطى الكاتبة للنص. لستُ متعجلًا أو «ملهوفًا»؛ فالعالم لا ينتظرني بناء على موعد، وأنا لا أملك ما أمنحه ويستحق الانتظار. نحن ننتظر من الكاتب ما هو جديد حقًا وما يحترم ذائقتنا وذكاءنا فعلًا، وهذا لا يمكن توفره بالتسرُّع إن بالكتابة أو بالنشر».
كما نعاه عدد كبير من أصدقائه ومحبيه، ومنهم: الأكاديمي والناقد إبراهيم خليل: لنا في ما تركه من إرث أدبي وثقافي وترجمي ما يبقيه حيًا في نفوسنا، وإن فارقنا مأسوفًا على ما تبقى من عطائه، وهو في الأوج والذروة. فلترقد روحه بسلام.
القاص هشام البستاني: حسبك أنّك لم تمرّ مرورًا عابرًا، وأنّك تركت خلفك خرمشاتٍ وخدوشًا على وجه هذه البسيطة، وأنّك لن ترى ما سيوجعكَ بعدُ، بعدَ أن سدّدتَ ما تيسّر من لكمات. غادرت عبث الحياة (هكذا يذكّرنا الموت دومًا: أنتم لي، أنتم لي) وتركتنا نتأمّل في فنائنا المؤجّل مع رفّ من الكتب كبير يحمل اسمك.
الكاتب عريب الرنتاوي: وداعا أيها الأديب المبدع و«الجنتلمان» الذي عرف كيف يتفق باحترام وبفارق بأدب جم.
الشاعر نضال برقان: رحل وغبار الطريق على قدميه… وغيم كثير عالق بجناحيه… وحكايات ملونة تلف روحه الندية.. النقية.
المخرج فيصل الزعبي: له الرحمة وهو يغادر الوقت نحو الزمن.. نحو بياض يليق بهذا الكاتب والمبدع والناقد المنتبه ..مبدع بغاية الدقة والرقة ..الموت يخطف الأنقياء عادة فكلما غادرنا مبدع قلّ منسوب الجمال في هذا الوقت الصعب.
الشاعر والروائي جلال برجس رئيس مختبر السرديات الأردني: توفي إلياس فركوح بعد حضور كبير في المشهد الثقافي الأردني والعربي، ودور مهم في إغناء المكتبة العربية ودوره الريادي في حمل مسؤولية النشر.
القاص جعفر العقيلي: بوفاة الكاتب إلياس فركوح، يودع المشهد الإبداعي العربي اسمًا وازنًا حقق حضورًا لافتًا في ما قدمه من منجز إبداعي شمل الرواية والقصة والمقالة والترجمة والنص المفتوح، واستحق عليه جوائز أدبية معتبرة عربيًا، فضلًا عن مشروعه المغاير في النشر وصناعة الكتاب الذي تجسد في دار أزمنة.
الأديب مفلح العدوان مدير المركز الثقافي الملكي: إلياس فركوح كُلّه مات.. حقًا مات.. هكذا انسلّ بخفّة، كما نسمة، مؤثرًا الرحيل بهدوء، دون ضجيج.. موجع هذا الغياب، ها أنا لمَا أنفض غبار الحزن عن قلبي، ولا قتامة الوحشة عن روحي، بعد، إثر وفاة أخي إبراهيم، لم أودّع آخر المعزّين، حتى أتى خبر رحيل إلياس فركوح الصديق الشفيف النقي الصادق المخلص المبدع الأديب الحقيقي الإنسان الرهيف.. هذا كثير، موحش، محزن، مربك، يدمي الروح. والله حطّم قلبي غياب إلياس، كما هو موت أخي وأكثر، وكان إلياس كتب لي معزيّا مواسيًا قبل أيام، فبأي كلمات يمكن أن أعزّي بها نفسي وأصدقائه وعائلته اليوم؟
القاص سعود قبيلات: رحل إلياس فركوح الأديب الأردنيّ والعربيّ الكبير. عرفتُ الياس في سبعينيّات القرن الماضي. كان إنسانًا رقيقًا ومرهفًا وجميلًا بالجوهر والمظهر. وكان مثقّفًا كبيرًا، وأديبًا مبدعًا رسم لنفسه هويّة خاصّة في الكتابة، وعُرِفَ بها محلّيًا وعربيًّا.
ولد إلياس فركوح في عمان، وفيها وفي القدس تلقى تعليمه المدرسي. حصل على ليسانس فلسفة وعلم نفس من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الثقافية (1977-1979). شارك في تحرير مجلة «المهد» الثقافية في ثمانينيات القرن الماضي طوال فترة صدورها. كما شارك في إدارة دار منارات للنشر (1980-1991). أسس دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 1992، التي أسهمت بفاعلية حتى اللحظة في المشهد الثقافي الأردني والعربي. وهو من مؤسسي اتحاد الناشرين الأردنيين، وعضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وانتخب عضوًا في هيئتها الإدارية لعدة دورات، وعضو اتحاد الكتاب والأدباء العرب.
صدر له عدد كبير من المؤلفات في القصة والرواية والترجمة والنقد والحوارات وغيرها، منها:
في القصة: «الصفعة» 1978. «طيور عمان تحلق منخفضة» 1981. «إحدى وعشرون طلقة للنبي» 1982. «من يحرث البحر» 1986. «أسرار ساعة الرمل» 1991. «الملائكة في العراء» 1997. وقد صدرت هذه المجموعات الستّ ضمن مجلّد واحد بعنوان: «من رأيتُه كان أنا» 2002. وفي السنة نفسها أصدر مجموعتيه: «شتاءات تحت السقف» و»حقول الظلال».
في الرواية: «قامات الزبد» 1987. «أعمد الغبار» 1996. «أرض اليمبوس» 2007. «غريق المرايا» 2012.
في النقد: «النهر ليس هو النهر: عبور في أسئلة الكتابة والرواية والشعر» 2004. «الكتابة عند التخوم: الذات الراوية هي الرواية» 2010.
في الترجمة: «موسيقيو مدينة بريمن/قصص أطفال، للأخوين غريم» 1984. «آدم ذات ظهيرة»، قصص مترجمة بالاشتراك مع مؤنس الرزاز 1989. رواية «الغرينغو العجوز» لكارلوس فوينتس 1990. رواية «قطار باتاغونيا السريع» للويس سبولفيدا 2008.
وصدرت له مجموعة من الأعمال المتنوعة، منها: «ميراث الأخير» نصوص 2002. «أشهد عليّ، أشهد علينا» نصوص 2004. «بيان الوعي المستريب: من جدل السياسي ـ الثقافي» فكر سياسي 2004. «الكاتب علامة سؤال: رأوا ولم يصمتوا» حوارات 2010. بالإضافة إلى كتاباته في عدد من الدوريات العربية والصحف المحلية والعربية .
نال عددًا من الجوائز منها: جائزة أفضل مجموعة قصصيّة من رابطة الكتّاب الأردنيين سنة 1982 عن مجموعته «إحـــــدى وعشرون طلقة للنبي».
جائزة الدولة التشجيعيّة 1990 عن روايته «قامات الزَبَد». جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة من رابطة الكتّاب الأردنيين 1992 عن مجمل مجموعاته القصصية. جائزة الدولة التقديريّة 1997 عن مجمل أعماله. جائزة تيسير السبول للرواية من رابطة الكتّاب الأردنيين 2008 عن روايته «أرض اليمبوس» التي تأهلت في العام نفسه إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية في دورتها الأولى.
٭ كاتب أردني