يقر الحريري في مقدمة كتابه المقامات، بأن بديع الزمان الهمذاني، صاحب هذا الشأن، وأن كل من تعرض لإنشاء مقامة فمحكوم عليه بالفشل، وذلك في موضعين من افتتاحيته، أولهما قوله: «فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع» والظالع الذي يغمز في مشيته وهو أيضا المائل عن الطريق القويم، والضليع السمين القوي والضلاعة قوة الأضلاع. واضح في قول الحريري، من هو الظالع ومن هو الضليع، فالتواضع وخفض الجناح للمتقدم، يقضي في الثقافة العربية التنقيص من شأن الذات، والإعلاء من شأن الآخر، وبهذا المقتضى، فالظالع هو الحريري، والضليع هو الهمذاني، ومنه إشارة، إلى إعلاء شأن المبدع، وتحقير شأن المقلد، فالهمذاني مبدع جنس المقامة، وبذلك استحق أن يبجل وتقدم له آيات الاحترام، والحريري مقلد، فكان من المناسب أن يُجْعل في منزلة دنيا، لكن السؤال الأهم في هذا السياق: لماذا يضع الحريري على جلالة قدره، نفسه في هذا الموقف الذي لا يشرف صاحبه؟
أما الموضع الثاني الذي يقر فيه الحريري بتفوق الهمذاني، وأن المقلد مهما أوتي من براعة في القول، فلا يستطيع أن يتخلص من هيمنة الهمذاني، وأنه لن يعدو أن يكون مجرد ظل له، فقوله: «هذا مع اعترافي بأن البديع رحمه الله سباق غايات، وصاحب آيات. وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته».
بعدما بينا الموضعين اللذين يقر فيهما الحريري بتفوق الهمذاني عليه؛ نعود إلى تساؤلنا السالف: لماذا يضع الحريري نفسه في هذا الموقف؟ وإذا كان المتصدي بعد الهمذاني لإنشاء مقامة لا يغترف إلا من فضالته، فلماذا كلف نفسه إنشاء خمسين مقامة؟ ألا يعد هذا مجرد مضيعة للوقت وهدر للجهد، إذ الأمر محسوم قبل البدء، فنصيب الحظ مكفول أبدا للهمذاني، فلماذا أزعج الحريري نفسه؟
للإجابة على هذه الأسئلة، نرجع إلى ملفوظ قوليّ سابق، يقول فيه الحريري: «وبعد، فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب، الذي ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت مصابيحه». يحيلنا هذا النص القصير إلى الوضع الأدبي في عصر الحريري، فهو عصر مزرٍ بالنسبة للأدب، لم يعد للأدب فيه قوته، وهنا لجأ الحريري، إلى المقابلة بين الماضي والحاضر، ففي الماضي كان كل شيء على ما يرام، كانت سوق الأدب رائجة، ومصابيحه مشعة، وهو اليوم سوق نافقة، ومصابيحه كابية، في هذا السياق كان لا بد من منقذ لهذا الوضع الذي لا يبشر بالخير، فمن عساه يكون؟ إنه أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري، وهنا نخلص إلى أن الحريري، لم يسع لتقديم نفسه في صورة ند للهمذاني، بقدر ما كان يتوخى تقديم نفسه في صورة المنقذ، وليكرس هذا الدور البطولي لم يرشح نفسه لهذا الإنقاذ، لأن هذا يتنافى مع نبرة التواضع المهيمنة على هذا النص، وإنما أسند مطلب الاختيار إلى أعلى سلطة في البلاد، حيث وقع عليه الاختيار من دون سائر الخلق للاضطلاع بهذا المهمة الصعبة، وعلى الرغم من أنه، حاول التملص من تحمله هذا العبء، إلا أن السلطة التي أوكلت إليه هذه المهمة لم تسعفه بالإقالة، يقول: «فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع… فلما لم يسعف بالإقالة، ولا أعفى من المقالة، لبيت دعوته تلبية المطيع». وعلى هذا يكون الحريري، بذكاء دبلوماسي، قد لبّى رغبته في الإبداع والتفوق على غيره، دون أن يظهر في لبوس المتمرد على أستاذه الهمذاني، ودون أن يخرق العرف المجتمعي في التصدر للكتابة، دون طلب رسمي من جهة عليا، فالكتابة في التراث العربي، لا تأخذ موقعها في الثقافة إلا إذا كانت صادرة عن طلب، كما أنه من جهة خفية قدّم نفسه في صورة المنقذ للأدب الذي أزرى به الحال، وهي مكانه سامية ومنزلة رفيعة لا يتصدر لها إلا النبغاء في القول، الشيء الذي يتعارض صريحا مع نبرة تواضع أخرى زائفة في قوله: «وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة، وفطنة خامدة، وروية ناضبة، وهموم ناصبة، خمسين مقامة».
ويتكرس زيف هذا الادعاء في قول الحريري نفسه واصفا مقاماته الخمسين بكونها حوت من «جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية» إذ كيف لمن وشح مقاماته بهذه الصفات أن يدعي أن قريحته جامدة، وفطنته خامدة، ورويته ناضبة، وهمومه ناصبة؟ يبدو أن الحريري وهو ينشئ مقاماته، كانت تتنازعه رغبتان، رغبة في العجب بنفسه، ورغبة في خفض الجناح والاستكانة والتواضع لمن حوله، فهو يقر بأنه صاحب قريحة جامدة، ومع ذلك لا يستطيع أن يكتم روعة ما أنشأته هذه القريحة من رقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره… وهي سمة تناقضية، تطال البناء الكلي لهذه الافتتاحية التي قدم بها الحريري مقاماته الخمسين.
كاتب مغربي