إيران وروسيا… أهداف القيصر الأوكرانية وحسابات المرشد النووية

في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1979 اقتحمت مجموعة من الطلاب التي أطلقت على نفسها ‘السائرون على خط الامام’ السفارة الأمريكية في طهران، معلنة بدء أزمة الرهائن الدبلوماسيين الأمريكيين، التي استمرت 444 يوما، انتهت هذه الحادثة بقطع العلاقات رسميا بين طهران وواشنطن ليولد بعدها مصطلح ‘الشيطان الأكبر’. لكن التاريخ يسجل أن الايرانيين فعلوا ما هو أبعد من ذلك خلال شهر فبراير/شباط 1828 زمن الشاه القاجاري فتحعلي شاه، حيث هاجمت جموع غاضبة من الايرانيين سفارة روسيا القيــــصرية آنذاك، يومها انتهى الاقتحام بقـــــتل السفير الروسي إلكسندر غريبيوف لينحت الايرانيون مصطلح ‘روسيا الانتهــــازية’. اليوم تحاول الجمهورية الاسلامية الوقوف في الوسط بين الشيطان الأكبر والروسي الانتهازي لتفادي الخطر الذي قد يطل برأسه من بوابة الأزمة الأوكرانية، ويضع كل ما تم التوصل له بشأن البرنامج النووي الايراني في مهب الرياح.
إيران متوجسة ومتخوفة مما يجري في أوكرانيا، هناك تختبر واشنطن مدى خطورة اللعب في الحديقة الخلفية للكرملين، كما تختبر موسكو مدى جدية البيت الأبيض بترجيح دبلوماسية طاولات الحوار على الحديث عبر فوهات المدافع . إيران متوجسة لأنها تعودت على أن السياسات الروسية المتذبذبة والمتناقضة تجاهها تصبح أكثر خطورة على مصالحها الحيوية كلما برزت الأزمات الحادة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، كونها تعرف أكثر من غيرها أن روسيا تاجر دولي متمرس ومحترف، وليس لديه تحفظات على بيع بضائع أصدقائه بأثمان بخسة في السوق الدولية، في حال كان ذلك يحفظ بقاءها في السوق بدون دفع ضرائب مؤلمة.
وإيران متوجسة كون مصالحها اليوم تقضي شهر عسل واقعيا وحقيقيا وربما طويلا بين الشيطان الأكبر والروسي الانتهازي، لاكمال متطلبات حفل الختام التفاوضي بين طهران ودول 5+1 وإعلان نجاح توافق جنيف النووي الأخير بالبقاء على قيد الحياة. ما لا تريده طهران بحق هو أن ينتهي تقاربها السياسي مع واشنطن بقرار روسي، وأن تتكسر كل إنجازاتها على الصخرة الأوكرانية، فذلك يعني العودة إلى المربع الأول اقتصاديا وسياسيا ونوويا. لكن ماذا لو قرر الروس أن مصالحهم القومية تتطلب رفع سقف المواجهة مع الأمريكيين خارج حدود أوكرانيا؟ ثم ماذا لو قرر سيد الكرملين في موسكو اللعب بالورقة الايرانية في معركته الأوكرانية من خلال العدول عن مواقفه السابقة تجاه المفاوضات بين إيران والسداسية الدولية ووقف إعجابه بمزيد من التقارب بين طهران وواشنطن؟
لا يبدو ذلك مستبعدا بالنسبة للايرانيين، فلدى صانع القرار الايراني تجربة شخصية قاسية تؤكد له أنه لا يمكن الاعتماد على الروس حتى النهاية، فروسيا هي من صوت داخل مجلس الأمن الدولي – أكثر من مرة – على قرارات دولية تفرض عقوبات اقتصادية على الجمهورية الاسلامية، وهي من ألغت من طرف واحد وبضغط أمريكي إسرائيلي مزدوج اتفاقية عسكرية ثنائية تقضي بتسليم طهران منظومة صواريخS300 الاستراتيجية، كذلك ربما لا ينسى الايرانيون كيف حول الكرملين عملية افتتاح أول مفاعل نووي ايراني في بوشهر إلى ورقة سياسية تخدم مصالحه فقط عبر تأجيلات عدة، بدون وجود مبررات حقيقة لذلك. إن قرر الرئيس فلاديمير بوتن توظيف النووي الايراني في صراعه مع أمريكا على رسم شكل الخريطة الأوكرانية المقبلة فعليه أن يتوقع أن من سيقف في وجهه هذه المرة هي إيران نفسها، إذ ليس من الضرورة أن تأتي أهداف القيصر الروسي متطابقة تماما وحسابات المرشد الايراني الذي لن يسمح بأن تجد طهران نفسها مضطرة لاختيار مكانها ودورها على رقعة المواجهة بين موسكو وواشنطن بشأن أوكرانيا، فذلك يعني بروز خطر جديد يهدد المفاوضات النووية بين إيران والمجتمع الدولي عبر البوابة الأوكرانية يتمثل بالراعيين الدوليين للمفاوضات، أي روسيا والولايات المتحدة، فضلا عن الخطر القائم الذي يأتي من الجبهة الشرق أوسطية عبر إسرائيل والسعودية وحلفائهما.
هكذا وجدت إيران نفسها مضطرة للقيام بما لم تعتده من قبل، وهو الامساك بالعصا من الوسط، بين عدو لم تعد عداوته مطلقة وحليف لم تكن يوما تثق به بالمطلق، على غير العادة فضل الايرانيون الامتناع عن التصويت على قرار دولي يدين روسيا وسياساتها في أوكرانيا، تمثل ذلك خلال اجتماع للجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة، عندما كان لافتا أن يمتنع الايرانيون، بدلا من التصويت ضد القرار والوقوف مع حليفهم الروسي. كذلك وضع النظام الايراني جانبا اتفاقية اقترحتها موسكو تقضي بمبادلة النفط الايراني بسلع روسية تشمل تلك التي لا تستطيع طهران الحصول عليها بفعل العقوبات، لم توقع طهران الاتفاقية بعد، ولا يتوقع ان تفعل ذلك في هذه المرحلة، خاصة أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قال صراحة إن توقيع الاتفاقية يهدد بشكل مباشر توافق جنيف الأخير مع إيران بشأن برنامجها النووي. تدرك طهران خطورة الاستمرار في لعب هذا الدور لوقت قد يطول، خاصة أن سيد الكرملين يبدو جادا في تحقيق مشروعه الأوراسي وإعادة إحياء النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وتثبيت أقدامه في المياه الدافئة، لكنها تعول على عدم قدرة روسيا بامكاناتها الراهنة على فتح حرب باردة مع الولايات المتحدة الامريكية والدول الغربية من خلفها، فضلا عن حرص الرئيس بوتين على عدم توسيع دائرة التحدي والمواجهة في أوكرانيا عبر إخراجها من حيز السياسة إلى ساحات العسكر.
تدرك موسكو أن طهران تغيرت – ولو تكتيكيا – فلم تعد معادية للأمريكيين في كل الميادين، لكن ذلك مشروط باعتراف أمريكي صريح بايران نووية سليمة مقيدة ومنضبطة، وتدرك واشنطن أن طهران غير مستعدة للتخلي عن تحالفاتها مع روسيا، لكن ذلك مشروط بعدم تحويل مفاوضات برنامجها النووي لرهينة بيد الكرملين والحسابات الشخصية، وبين الاثنين تدرك طهران جيدا أن التخلي عن شعار ‘لا شرقية ولا غربية’ في هذه المرحلة يعتبر انتحارا سياسيا بلا مبررات، لهذا تراها تفضل الابتسام في وجهي الشيطان الأكبر والروسي الانتهازي، على الأقل حتى إشعار آخر.

‘ كاتب فلسطيني متخصص في الشؤون الايرانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد علي ـ ايران:

    كلام منطقي موزون

    يعتمد على حقائق الارض وسياسة الميزان التي تعتمدها ايران

    مصلحة ايران لا تعارض بينها وبين مبادئها

    ايران تحقق خطتها ببطئ شديد وبدون رمي نفسها في احضان الدب الروسي

    او الحمار الامريكي

    متى ماعتمدت الدول على شعوبها فانها لا تنكسر

    نعم تواجه صعوبات لكنها لا تنكسر

    وذلك ليس حكرا على ايران فقط

    شكرا للكاتب العزيز

    واهلا بالاراء المخالفة ضمن الادب وبعيدا عن الاتهامات من الطرفين

  2. يقول ابن بطوطة -فلسطيني:

    .. روسيا لم تكن تاريخيا عدوا للعروبة و فلسطين تدخل في عمق ثقافتها الدينية و الادبية و الجيوسياسية … من انت بالله عليك … امريكا زرعت بني صهيون في بيتك و شردتك انت و اهللك و تضع مقولة الشيطان الاكبر – امريكا- بين قوسين … نعم روسيا قادمة الينا سندا و رافعة لفلسطين و الفلسطينين … و ما استنهاض الجمعية الامبرطورية الروسية الفلسطينية الارثوذوكسية التاريخية الا رسالة للعالم ان روسيا القوية اليوم ما هي الا رافعة لفلسطين و الفلسطينيين … هذه الجمعية عمرها مئة و اربعون عاما قدمت الكثير لفلسطين و العروبة قدمت رسائل محبة و تآلف … كل انجاز يحققه بوتين سواء في اوكرانيا او غيرها سينعكس لمصلحة فلسطين ..

اشترك في قائمتنا البريدية