إيميلي نصر الله و«سمفونيات العزف على ناي الغربة»

تشغل الروائية إيميلي نصر الله موقعا مهما على الخريطة الأدبية اللبنانية، وهو موقع باتت تنسجه بدأب طوال نصف قرن، رصدت من خلاله بتجربتها السردية الكبيرة، التحولات الاجتماعية في بلدها لبنان وريفه على الخصوص، الذي يحيل إليه أدبها بجناحيه الروائي والقصصي، وبرحيلها في 13 مارس/آذار 2013 يفقد العالم العربي صوتا صارخا بأحلامه المجهضة.
في بداية الستينيات من القرن الماضي يزور جواهر آل نهرو وابنته أنديرا لبنان، فتقيم له السفارة الهندية حفل استقبال وتكون إيميلي نصر الله الصحافية الناشئة بين المدعوين والمدعوات بحكم صداقتها مع روبا جونسون زوجة القائم بأعمال السفير الهندي، وفي خضم ذلك الحفل المهيب تفاجئها زوجة السفير بالسؤال: متى ستكتبين روايتك الأولى إيميلي ؟ فيشكل السؤال المفاجئ الشرارة التي أشعلت فتيل الإبداع لديها. لتعكف على كتابة «طيور أيلول» مولودها الحكائي الأول، ويستمر هذا الفتيل الإبداعي على مدار نصف قرن، وتمخض عن عشرات الكتب في مجالات معرفية مختلفة. هذا الحصاد الوفير في الرواية والسيرة والقصة (64 كتابا) بالإضافة إلى مجموعة شعرية وحيدة.. فضلا عن أدب الأطفال. كل ذلك كان نتاج زرع باشرته الفلاحة إيميلي فاكتنزت بيادرها بأطيب الغلال. هناك في كوكبا قريتها الجنوبية الوادعة، رمز الصمود والمقاومة، ولدت الجوهرة إيميلي نصر الله ذات يوم من عام 1931 وفي الكفير قرية أمها الرابضة على سفح جبل الشيخ تنشأ وتتشبع بتلك البيئة الريفية الجميلة، وتختزن في داخلها الطبيعة البكر، وتكتسب العادات والتقاليد في مجتمع محافظ. فتلتزم ببعضها وتتمرد على البعض الآخر، لاسيما ما يحرم المرأة من ممارسة حقها في التعلم والعمل والاختيار. وتتخذ من ذاك العالم المرجعي فضاء روائيا تحيل إليه وتنطلق منه إلى ما يتخطاه في الجغرافية والاجتماع. رغم المفارقة في تأثير النشأة الريفية على إيميلي هو أن الفتاة الطموحة والمتمردة على واقع المرأة الريفية الحالمة بالعلم والعمل وتحقيق الذات.. هي نفسها تأبى الانخراط في حياة المدينة ومغرياتها، وتحافظ على القيم الريفية المحافظة فترفض التطرف في ممارسة الحرية على نقيض دعاوى سيمون دو بوفوار، التي تأثرت بها أيام دراستها الجامعية. وبذلك تعيش الغربتين.. غربة القرية وغربة المدينة، وتبقى معلقة بين الانتمائين، وهذا ما عاشته شخصياتها الروائية في كل أعمالها الأدبية، فأبطالها حاولوا الخروج من رحم القرية إلى مجتمع إنساني ذي أفق مفتوح. وباءت أحلامهم بالانعتاق بالفشل الذريع. في رواية «الرهينة» غادر أبطالها القرية إلى المدينة، ثم هاجروا إلى الغرب هذا المجتمع المفتوح، فلم يفلحوا في العثور عليه، لأنهم حملوا تاريخهم وعقدهم وهزائمهم. يحنون إلى ماض لم يعد موجودا ولم يتأقلموا مع حاضر صدمهم بتحولاته العنيفة. وهكذا تتحرك شخصيات إيميلي بين قطبي القرية المدينة ثم المهجر. فنؤول مصائرهم غالبا إلى نهايات قاتمة.. فهي إما تضيع في الغرب، وإما تعود إلى القرية فتجد أن الزمان والمكان قد تغيرا لتعيش اغترابا من نوع آخر. في رواية «طيور أيلول» تتناول الكاتبة اللبنانية الحياة في الريف اللبناني ومحدودية الاختيارات فيه، ما يدفع شبابه وصباياه إلى الهجرة نحو المدينة وبلاد الغربة ليعيشوا غربتهم الأولى حتى إذا عادوا إلى الريف يعيشون غربتهم الثانية. وترصد من خلالها العلاقات الإنسانية المحكومة بالعادات والتقاليد، وخضوع المرأة لعقلية ريفية ذكورية، فمعادلة الريف المدينة/ المهجر هي قطب الرحى، وحجر الزاوية في كل أعمالها الروائية. وفي «ما حدث في جزر تامايا» روايتها الأخيرة تحكي إيميلي حكاية الطموح اللبناني المحفوف بالمخاطر والإخفاقات، والبحث عن حياة أفضل، مرورا بالسعي في أثر الثروة بأساليب مشروعة وغير مشروعة، وانتهاء بنهايات فاجعة، مما يجعل من الهجرة حكاية تراجيدية بامتياز، ناهيك من نفحات المشاعر الإنسانية والهرب من الفقر والعذاب والمكائد والمؤامرات وأصفاد الماضي الخانق لتطلعاتهم.
إن الهرم السردي لإيميلي نصر الله يقوم على موضوع الاغتراب اللبناني (الينبوع/ حصاد الأيام/ روت لي الأيام/ أورق منسية/ شجرة الدفلى/ الطاحونة الضائعة..) إن ترحل هذه القديسة فقد خلفت بصمتها الروائية الخاصة، التي تجعل القارئ أسير تنويمها المغناطيسي. حقا إيميلي نصر الله لا تموت وتبقى سمفونياتها حية لا تموت….

كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية