كان انتقال «هاوية» ابنة القائد اليساري الملقب بسوسلوف (نسبة لميخائيل سوسلوف منظر الحزب الشيوعي السوفييتي في عصر بريجنيف) من عدن إلى صنعاء وما رافقها من تبدلات جذرية في شخصيتها، (تغيير اسمها إلى أمَة الرحمن، زواجها بأحد شيوخ الدين زواجاً أشبه بالسبي الناعم) قد مثّل رمزية صارخة للتداعيات العميقة داخل المجتمع بأسره. فكانت حياتها رواية الظل المثيرة في إطار فصول الرواية التي ستفاجئ القارئ بكثير من الأحداث التاريخية المعاصرة في اليمن شماله وجنوبه.
أما بطل الرواية، عمران، ابن مدينة الشيخ عثمان/ عدن، فقد سارت حياته بشكل مختلف بعد أن انتقل إلى باريس للدراسة في سبعينيات القرن الماضي، حيث أنهى تعليمه هناك وبدأ يخطط لمشاريع حياته في تلك الأرض الخصبة بالثقافة والعلوم. وبعد أن استقر ووجد شريكة عمره المخلصة جداً (نجاة) انقلبت حياته فجأة رأسا على عقب ومضت بشكل مختلف عن كل ما رسمه. ومن الواضح جداً أن معظم الشخوص المتَخَيَّلة في الرواية تستند إلى مرجعيات من صلب الحياة اليومية، وهو ما يجعل القارئ منذ الوهلة الأولى يحس بحميمية مطلقة وعلاقة مباشرة مع كل تفاصيلها. احتوت الرواية على أحداث كبيرة ومهمة، غزيرة ومتشعبة تكاملت فيها سيرتان ذاتيتان للراوي بكل خصوصياته والمجتمع الكبير بشموليته وتعدّده، فتنامت خلالها الحبكات بصورة متّسقة ومشوقة إلى حد بعيد. لقد حملنا حبيب سروري في «ابنة سوسلوف» عبر نصف قرن من الزمان فوق تضاريس الأحداث السياسية والاجتماعية، بل وضعنا في عمقها، بتطوراتها وتداعياتها، بصعودها وهبوطها، بحروبها وسكونها، بثوراتها وتحولاتها الكبرى، ليوثّق تاريخ شعب سافر من عصر الثورات الأولى وقيام الدولة الوطنية، عصر توهج الاشتراكية وسيادة الفكر اليساري بعنفوانه، إلى زمن «الولوج في الفجاجة والظلامية» دون أدنى منطق للمنعطفات الكبيرة والمنحدرات الحادة، فأُزيْحَ الوعي الاجتماعي منتقلاً بين راديكاليتين متضادتين بشكل جوهري، وبصورة انهيارات متسلسلة ومعقدة يستحيل معها الإدراك الطبيعي لمنطق التحولات الكبيرة.
كل ذلك وُضِعَ بإحكام وبجهد مُبهِر في عمل روائي شائق للغاية، ندرَ أن يُجمع في مثله ما جمعه الكاتب من الخاص والعام. فوضع كل شيء في مكانه المحدد داخل لوحة متناسقة الألوان تكاد تنطقُ حيويةً وتكاد عناصرها تُسمع وتُرى، حتى أن كلَّ فرد من الأجيال المختلفة يجد شيئاً منه وأشياء تعنيه في هذه الرواية، ويعتقد أنه رأى وعاش فصلاً أو بعضَ فصولها أو جميعها.
لقد تناول مؤلف ابنة سوسلوف رباعية الحياة: الثورة، السلطة، الدين، الجنس في إطار واقعي بمجالاته الجاذبة والجدلية، وانعكاساتها في السياق المرجعي للوعي الاجتماعي بديناميكياته المختلفة، وقدّم حقائق الصراع والمفارقات ومحاولات النهوض والانكسار، والكبت والرغبة، إلخ، في مقاطع درامية ناضجة شكلاً وموضوعاً. هناك مرتفعات شاهقة في تضاريس الرواية مصممة بقدرة هندسية فائقة الدِّقَّة يتوجب بلوغها لإدراك المقاطع الأشد جاذبية وإثارة. فكانت أشد الذرى التراجيدية إيلاماً حين تهاوت مشروعات الحياة عند عمران بعد انفجار محطة سانت ميشيل الباريسية في قلب الحي اللاتيني، بفعل إرهابي حيث تطاير جسد (نجاة) زوجته وحبيبته التي أحبها وأحبته بإخلاص شديد، وفي أحشائها جنين في شهره الخامس.
هناك ثورتان تشتعلان في زمن واحد، ثورة إنسانية عارمة في ليل الغريزة داخل «شُقّة» مسيجة بجدران خرساء، تُسقِطُ أنظمة سيكولوجيا الأنثى المقننة المكتَسَبة، ويتم فيها كشط جرانيت الخوف والطهرانية دفعة واحدة، لينزلق الجسد إلى لحظة حسم ثوري أنيق وساحر.
شظايا المرأة الأحب إليه من بين خلق الله أجمعين، ومعها شظايا مشاريع الحياة وشظايا الأحلام وشظايا الفرح والسعادة والغد الجميل المنتظر، مخلفاً في صدر عمران قارّةً من «ألم عطن سحيق متخثر لن يتوقف نزيفه، وبركان حقد بحجم محيط من الظلمات». تلك محطة عالية الحزن وعالية الغضب في هذا العمل الروائي الهائل، عكست أيضاً دموية الصيغة الوحشية لثقافة الاستشهاد في سبيل حور العين بأجسادهن الشفافة كثمنٍ للانتحار المقدس. يدخل عمران بعدها تدريجيا في البحث عن ذاته ويحاول أن يعيد إلى الحياة توازناً ما، على أن تبقى نجاة وحدها رفيقة دربه ونبع إلهام لا ينضب. يبحث عنها في الأماكن التي زاراها والمناسبات والأزمنة الجميلة التي عاشاها ويستعيدها في كل نبض من نبضات أيامه.
وفي مكان آخر من الرواية سيعيش القارئ أحداثا أكثر إدهاشاً في لحظات (الربيع العربي) حين يوظف الكاتب بقدرة عجيبة تداعيات ابنة سوسلوف (هاوية) الراديكالية الخصبة التي تحولت من فتاة صغيرة في عدن، ابنة قائد يساري منفتح، إلى امرأة متدينة ومحافظة في صنعاء، ثم أصبحت بصورة مفاجئة قائدة ثورية في ساحات التغيير. وكيف بعد كل ذلك تفجّر فيها الحب «العذري» القديم لعمران الذي أدمنَتْه في مستهلِّ حياتها قبالة (دكان الأعمى) في مدينة الشيخ عثمان حين كانا يقفان «كتمثالين صامتين» ممتلئين بالحب الطفولي البريء. وقد شاء المؤلف بهذا أن يُبرز حقيقة الفصام والصدوع العميقة داخل البنى الروحية والوجدانية، ويُظْهِر المفارقات المذهلة بين التوق للحرية الإنسانية المجردة، وعبودية العادات والنصوص الدينية المتصلبة.
هناك ثورتان تشتعلان في زمن واحد، ثورة إنسانية عارمة في ليل الغريزة داخل «شُقّة» مسيجة بجدران خرساء، تُسقِطُ أنظمة سيكولوجيا الأنثى المقننة المكتَسَبة، ويتم فيها كشط جرانيت الخوف والطهرانية دفعة واحدة، لينزلق الجسد إلى لحظة حسم ثوري أنيق وساحر. ثورة على سوسيولوجيا الحب العذري، تفجرها رغبة العشق المستعرة، والحاجة البيولوجية الملحَّة كضرورة، والتوق للحظة متمردة تنكسر عندها كل الممنوعات والمحرمات، وتنهار خلالها كل الحواجز، ثورة خاصة جداً ومهمة جداً وإنسانية جداً تستغل خلالها هاوية أوقاتا محددة بعد أن تغافلَ الساحات وتغافل سيّدها، الغارق في نزواته، لتشقّ الظلام إلى حب الطفولة البعيدة. لكنها مع كل ذلك تظل ثورة مغدورة بكل المقاييس، حيث تبقى هاوية الجميلة كنجمات الشيخ عثمان موثوقةً روحياً إلى عروة الزوج الكهنوت، بولاء بهيم لا أحد يدرك كنهه.
وعلى الجدران الخارجية للشقّة هزات ارتدادية محتدمة لصوت الشوارع الشعبية، لثورة أخرى عامة وصاخبة لا مثيل لها في التاريخ الحديث، تسعى لإسقاط النظام السياسي المتهاوي في البلد، لكنها مثل الأولى، أصبحت ثورة مغدورة وغير محددة المصائر ومقيدة أيضاً بولاءات للقوى العتيقة المتخلفة، تم تسخير شبابها «ككباش فداء بثقافة الاستشهاد». ثنائية مدهشة في مشهدين متوازيين يقدمهما الروائي في أحد تجليات السرد الروائي لابنة سوسلوف، ويضع القارئ في ليل صنعاء الثائر الذي تحركه زلزلة الساحات وزخات الرصاص وأصوات المآذن من كل حدب وصوب. ثورة تشعل الساحات وأخرى تشعل لحظات عشق مفتوح على أبدية غامضة في ليالٍ مدججة بإعصار شعبي ساحق ما يزال يشق مداه.
إلى جانب ثراء المخيال الروائي الواسع، يمتلك حبيب سروري طاقة سردية تنساب منها لغة مغايرة حداثية. كما يتمتع بقدرة استثنائية على توظيف المفردات المنتقاة بمهنية عالية ليرتبها في نسيج من نِعَم الفصحى الأنيقة ويطوِّع دلالات المفردات العلمية والتاريخية والثقافية والاصطلاحات السياسية مجتمعة لخدمة النص الأدبي الجميل، متنقلا بمهنية مذهلة وسلسة جداً فوق أنساق الأحداث المتتالية. ولمن يبحث عن التناظر الموضوعي بين الرواية والواقع، ولمن واكبت حياته تلك الأزمنة بحضورٍ فيزيائي على الأرض، يجد بلا أدنى اجتهاد أن مؤلف الرواية حافظ على درجة كبيرة من التعالق بين النص السردي التخييلي الخالص من ناحية، والواقع برهاناته السياسية والاجتماعية والإنسانية الملموسة من ناحية أخرى، مع تضافر راق بين الصوغ الإبداعي التخييلي المذهل واحتياجات السرد الروائي ودلالاته.
ترك حبيب للقارئ حق الاعتقاد في ما اذا كانت الرواية تظل مفتوحة على تاريخ مقبل ربما سيأتي وسيأتي معه جزء آخر، «ما بعد ابنة سوسلوف» فالتاريخ لن يتوقف هنا والشعوب ما تزال تتحرك لدرءِ الأخطار الوجودية لقوى الظلام الكاسحة، وعليها أن تدفع الكثير ثمناً للحرية والخروج إلى النور من أجل غد جديد ربما ستصنعه بشكل مختلف.
لقد عشنا اللغة والتشويق وحضور الواقع في رواياته السابقة منذ روايته «الملكة المغدورة» مرورا بـ«دملان» و«طائر الخراب» و«عرق الآلهة» حتى «تقرير الهدهد» و«أروى» ونعيشها أكثر كثافة في ذهبيّته الجديدة، روايته السابعة، «ابنة سوسلوف» (عن دار الساقي، لبنان، 244 صفحة). وعلى مستوى الاستخدام التقني لتصميم هياكل الرواية ومعمارها الفني بكل أثقالها وجدرانها وطلائها ونقوشها ورخامها، بروحها وبجسدها، فإن المؤلف يعتمد على قدراته السردية إضافة إلى الحوارات المهمة بين حين وآخر في سياق الفصول المتعددة. كما برع في تصوير الأحداث بشكلها الواقعي والافتراضي والتخييل الشديد اللذة، وكذلك استحضار الذكريات وتصميم ذرى الأحداث الأكثر إثارة في الرواية، عبر الاستخدام الرائع لبعض التقنيات، كمنشورات فيسبوك، التي وضع على حيطانها صورا حية للواقع كما هو، أو كما يجب ان يُرى، ثم ينتقل منها (بحرفنة) الخبرة إلى فضاءات السرد الحر بمتسعاتها الخيالية، فوضع بطل الرواية، عمران، بين حين وآخر وهو يروي او يتخيل أنه يروي ويفضفض بكل شيء «لِهادم اللذات» علّه في آخر المطاف يجد تفسيرا مُوحَى من (الأعلى) لكل تلك الأحداث الغريبة والعجيبة في سفر شعب أنهكته منعطفات الحياة لينتهي أمره إلى مآلات غير محسوبة.
يتعمق الإحباط والانهيار الروحي بعد أن رأى الانتفاضات الشعبية المشروعة التي انطلقت ضد الظلم والفساد وتقييد الحريات، وقد اختطفتها واغتصبتها القوى الرجعية الظلامية، فكان الانكسار الوجداني العميق لعمران الذي ذهب يوجز في حديثه المفترض الأخير «لِهادم اللذات ولاطش الأرواح» ( كما يصفه أحياناً) أهم التواريخ وهو يودع صنعاء بحالة يأس بعدما أصرّت هاوية على السقوط الدائم في عبوديتها كقائدة ثورية ظلامية وكزوجة ـ جارية، وبعد أن غادر ساحات التغيير حين تبنّت ثورة «حيّا بهم حيّا بهم» شعار السقوط في عبودية جديدة أشد ظلاماً.
ودّع عمران الأيام «الكريستالية الخالدة» نحو عدن ليغسل في البحر ما علق بالذاكرة بعد (جمعة الكرامة) وكذلك ليغسل عن ذاكرته كلمات هاوية الأخيرة ومرارة (الربيع العربي) بأكمله من مصر إلى ليبيا وسوريا واليمن، الذي دخل في دهاليز القوى الظلامية لتنهبه بكل بشاعة. وكان من الطبيعي أن يذهب عمران «ليلفظ آخر حسراته في عدن». فعدن كما وصفها «ملاذ لكل من أراد الهروب من الانكسارات، تلك المدينة التي خنقتها قوى «عنف بالعنف» في السبعينيات وسحقها زلزال يناير/كانون الثاني 86، ثم هجمت عليها أبشع العصابات القبلية والجهادية الظلامية في 94».. ورغم كل ذلك ما زالت عدن «عاصمة أممية وبؤرة الأمل» الذي لن يذبل.
عمران، الذي يشاهد غرق (ثورة التغيير اليمنية) تتناوشه تناقضات فجّة هائلة وتقضّ تفكيره حقيقة إيمان «هاوية» وبعض الزاحفين إلى الساحات «بأنهم يحملون مشروعا لحياتهم يتركز في إعادة بناء الخلافة التي تركها السلف الصالح أمانة في أعناق أمثالهم». إنها كوميديا شديدة السواد والتعقيد تجسد المفارقات القاتلة المضحكة في هذا الزمن من تاريخ الشعوب العربية جميعها وليس اليمن فقط.
عمران المكلوم بكومة جسد زوجته نجاة في إحدى محطات القطار الباريسية، وبأشلاء (ثورة التغيير) وسقوطها في حفرة الظلمات الرهيبة، وكذلك بانهزام أمَة الرحمن (هاوية) حبه العذري الطفولي، أمام سطوة الشيخ الكهنوت… ذلك الموجوع عمران يلخّص آخر ما في داخله لـِ»هادم الأحلام» الذي أصبح نجيّه من الغيب. لكأنه اضطر في آخر المشوار للاستعانة به ويصرخ: أَعنّي، أقام الله مجدك، على فهم كل ذلك «أنت الذي كشَفَ لك الباري أسرار البدايات وعرجنات المصائر» .
ينصرف عمران في آخر المطاف للبحث عن عالم آخر ليجده في «بلاد الصمت والذكاء المطلق» ، الصين. ينصرف للقراءة والتأمل والمقارنة، فكانت خاتمة (ابنة سوسلوف) هنا، في الرحيل إلى فضاء مختلف تماماً.
ترك حبيب للقارئ حق الاعتقاد في ما اذا كانت الرواية تظل مفتوحة على تاريخ مقبل ربما سيأتي وسيأتي معه جزء آخر، «ما بعد ابنة سوسلوف» فالتاريخ لن يتوقف هنا والشعوب ما تزال تتحرك لدرءِ الأخطار الوجودية لقوى الظلام الكاسحة، وعليها أن تدفع الكثير ثمناً للحرية والخروج إلى النور من أجل غد جديد ربما ستصنعه بشكل مختلف.
كاتب يمني