ابن خلدون أمام سلطان المغول

حجم الخط
0

كان لمقتل الوزير لسان الدين بن الخطيب غصنِ الأندلس الرطيب على أيدي أوغاد مسلطين من أوغاد آخرين، أثرُ فاجعة على صديقه ابن خلدون، أدخلته خلوة امتدت لأربع سنوات، كما يروي. لا يستبعد أن يكون العدد أربعة خلدونيا بامتياز إذ هو الكفيل بتغيير الفرد وأن العدد أربعين في سُلَّمه هو الكفيل بتغيير الأمَّة، إذا كانت طبعا أمة جادة. تلك الخلوة كانت أساسا للعبادة والذكر والعزوف عن المناصب الدنيوية الزائفة القاتلة آخرَ المطاف. لا منصب إلا وينصب صاحبه غرضا للسهام الطائشة والقاصدة، لكنها كانت كذلك فرصة لتأليف كتابه المقدمة. وبما أن مقدمته خلاصة وختام لاستقراء أحداث وتقلبات تاريخية كثيرة، فيبدو أن «كتاب العِبَر» قد وُضعت معالمُه الكبرى في تلك اللحظة.
قد نتخيل ابن خلدون جالسا في زاويته عاطلا، وفجأة عنت له فكرة كتابة التاريخ. لماذا التاريخ دون غيره؟ لا بد أن يكون الأمر حكة معرفية وحاجة ذاتية للفهم والاستيعاب، ثم تأسيس معرفة بالتبعية، إذا أسعفت المفاهيم ذلك، كل اهتمام هو حاجة وتجربة شخصية. وحاجة ابن خلدون المضمرة هي محاولة لفهم التاريخ، هذا السيل الجارف من الأيام، وكيف أنه يقع غالبا تحت بند عريض أليم وعنوان قابيلي كبير مرير ورد في سورة المائدة: «قال لأقتلنك» كأن القتل هو الأصل، والعمرانَ الخلدوني فرع وأثر جانبي عرَضي، يضع المؤرخ نفسه في المساق ذاته، لأنه ختم كتابه بتاريخ نفسه الجاري المضارع، وكيف أنه وضع في سياق القتل الذي رام فهم مركزيته. فآخر فصول «كتاب العبر» موصول بحكاية ما وقع بين مؤرخنا، والسلطان التتري تِيمور كما يسميه هو، أو تيمورلنك كما اشتهر. لا فصل بين التاريخ العام والتاريخ الشخصي. كأنه دخل في درس تطبيقي وسنح لنفسه ولنا فرصة لقاء حي بالبث المباشر، مع قاتل كبير ثم سلطان شهير بعد ذلك، أتى من الشرق يُسقط في طريقه الحصون والمدن مثل بطاقات من لعبة ورق حتى حل بأبواب دمشق..

صادف حضور تيمورلنك مؤرخنا في حاضرة الشام حين حاصرها. ويحكي ابن خلدون الذي خبر الناس والزمان وكانت لديه روح مبادرة عجيبة، يحكي أنه بدل الانتظار البليد داخل الأسوار قرر أن يغامر ويبادر، فتدلى بحبل من سور دمشق، ولك أن تتصور مكابدة ذلك، وقصد خيمة السلطان التتري في جرأة على الأحداث واستباق للمصير. اكتشف أن تيمورلنك يعرفه ويريد لقاءه بحكم صيته فقيها وقاضيا لقضاة المالكية، حيثما حل، قبل أن يكون مؤرخا.
ولكل باعثه. ابن خلدون إضافة لاستباق الشر كان لديه خبر من منجم أن سلطانا من ذرية جنكيزخان سيحل في ساحة دمشق. سيقول قائل كيف لفقيه أن يقتبس علما من النجوم، لكنه لم يكن هنا في موقع المقتبس، بل في موقف الملاحظ لكل ظاهرة اجتماعية أو معرفية عن قرب ليستخلص منها خلاصة يصوغها مفهوما في مقدمته. فيما يبدو تيمورلنك ليس من سلالة جنكيزخان لكن بعد مذاكرة السلطان التتري وبعد استتباب نوع من الثقة سيبوح له بقرابة مع سلطان المغول من جهة خؤولة بعيدة. لم تتأكد لمؤرخنا الأوفاق الفلكية، بل تأكدت في الحقيقة نظريته في العصبية إذ لا سلطان إلا بناء على عصبية تبقى نارا تحت الرماد. بينما مؤرخنا يطلب من السلطان التتري معلومات تجيب عن أسئلته التاريخية التي فجرها مقتل صديقه ابن الخطيب، كان السلطان التتري يسأله عن الجغرافيا، وحين تأكد لديه أن المؤرخ جغرافي بارع كذلك، طلب منه وصفا لهيئة العالم في كتاب، ليعرف إحداثيات مجال توسعه. هل أحسن ابن خلدون صنعا حين أجاب تيمورلنك إلى طلبه، وخط له كراسة جغرافيا من قرابة عشرين ورقة؟ هل كان يملك خيارا آخر؟ هل استبطن انتقاما جغرافيا من ملوك الطوائف الذين أضاعوا الأمة؟ يذهب عبد الله العروي إلى أن ابن خلدون مكيافيل المسلمين، لكنه في الحقيقة مكيافيل معكوس يسدي نصحا معكوسا ويكره الدويلات الصغيرة الجوفاء رغم أبهتها الظاهرة. ولكل مشربه بين تاريخ وجغرافيا. يحسب لابن خلدون تشفعه لأهل دمشق كيلا يستبيحها تيمورلنك فاستجاب له وعرض عليه تأمين طريق العودة إلى مصر.

حين غادر تيمورلنك محمولا، لاحظ ابن خلدون أن الذي دوخ البلاد كان أعرج («لنك» تعني أعرج) ولم تمنعه عاهته من أن يُحمل ويوضع ويقود الجيوش ويرى لنفسه فضلا على الأمم. الرجل كان دون ركبة جراء قتال قديم، لكنه كان يتقن الرِّكاب والركوب والرماية أثناء الركوب والصبر على الركوب ومداراة الجوع أثناء الركوب والسفر الطويل. يقال إن سر قطع المغول والتتر للمسافات الطويلة في زمن قياسي، ودون توقف أنهم حين ينتهي زاد الفارس منهم كان يفتح جرحا صغيرا في قفا الفرس ويمضي يمتص من دمه ما به يقتات حتى يصل غايته.
تأكد لابن خلدون بناؤه العصبوي من خلال درس تطبيقي كان يمكن أن يكلفه حياته. لكن يبدو أن الكاريزما تعرف الكاريزما فلا داعي للهدر. هل كان ابن خلدون بنيويا متشائم العقل قبل البنيوية؟ لولا فواصل فقرات المقدمة لكان كذلك، لكنه كان يختم دوما فصوله بقوله «ليقضي الله أمرا كان مفعولا» و»لله الأمر من قبل ومن بعد» «وإلى الله تصير الأمور» «والله غالب على أمره» التاريخ بنية عصبية مبنية على الاستعداد للقتل. تسليط في مقابل الاستخلاف الراشد، لكنه نادر ندرة الكبريت الأحمر. هل يمكن الرشد الخاص دون الرشد العام والعكس كذلك؟ هل هذا السؤال ترف أم هو مربط الفرس؟ عِبَر التاريخ تقول إنه ما لم يستتب الرشد في قوم من تلقاء أنفسهم فإن تيمورلنك على أبوابهم. سواء أتى من أقصى الشرق أو من أقصى الغرب. ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولله عاقبة الأمور.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية