«احذر دائماً من الكلاب» رواية الجزائري سمير قسيمي: قيادة التشويق بمشابكة المصادفات وأفعال المشيئة

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

من مألوف الروايات التاريخية المهمّة أنْ تُقاطِعَ التاريخ مع الحاضر، بمختلف أساليب التداخل، مثل أن يلجأ روائيٌّ إلى سردِ أحداث التاريخ، كما لو أنها أحداث الحاضر دون أن يشير إليه مباشرةً، فيشهدُ القارئ، كمثال، أحداثَ أوّلِ ثورةٍ للعبيد يقوم بها السوريون في صقلية على روما، وإخفاقها كما لو أنها حاضر الثورة السورية على نظام الاستبداد، ومآلُ تحوّلها إلى حربٍ منسوجةٍ بمغزل مجازر الطائفية.
ومثل أن يلجأ كذلك عَوْداً، إلى سردِ تاريخ السلالة بدءاً من آخر خلف، أو أن يخطو خطوةً باتجاه السفر إلى الماضي كما فعل بنجاح مسلسل «Outlander»أو باستخدام الأكوان الموازية في هذا السفر مع إجراء تغيّرات في التاريخ الزمني، أو اتباع ما لا يخطر على بالٍ من أساليب تعتمد على العلم والخيال، وتثير تشويق القارئ الذي استقرّ بداخله تاريخُ أرضه، وتطوُّرُ أسلافه إلى ما هو عليه، دون أن يستطيع فتحَ أبوابِ معرفة ذلك إلا في الأحلام والفن ومكتشفات العلم.
في استخدام الأكوان الموازية مُطَعَّماً بأسلوبه التشويقي الذي استخدمه في روايته السابقة «سلالم ترولار»، يُشابك الروائي الجزائري سمير قسيمي في روايته الجديدة «احذر دائماً من الكلاب»، عالمين موازيين مميَّزين بأبعاد تقاطعِ التاريخِ بالحاضر؛ ولكنْ، بنبضٍ جديدٍ متشابكٍ مع جزائر الآن التي كادَ أن «يأكل القطُّ لسانها»، بعد حراكها السلميّ الصارخ، وبأسلوبٍ مطوَّر في استخدام الأكوان الموازية، على صعيد استخدام الفانتازيا في تجلّيات فيزياء الكوانتوم.
وفي هذا التشابك، يُجري قسيمي الكون الأول منهما بثياب الإيديولوجيا الدينية التي تُشابك هذه المرّة الديانتين التوحيديتين المسيحية والإسلامية بالاعتماد على تماثل جذريهما ومآلاتهما على أيدي المبشرين والدعاة. بينما يُجري الثاني بثيابِ السُّلطة في عرائها من الإنسانية، بالاعتماد على تحليلٍ نفسيٍّ عميقٍ سابِرٍ لحالة مَسخ رجالاتها، ويُذَكِّر كمثالٍ، بما قاله ذلك الصحفي الذي قابل ديكتاتوراً مماثلاً هو حافظ الأسد، وقال بعد المقابلة مرتعباً: «كلّما نظرتُ في عينيه أدركتُ أنه ودّعَ آخرَ وهمٍ له حول الإنسانية».
وفي جريان هذين الكونين الموازيين المتشابكين في ذات الوقت، لا يحتار القارئ في لمس هذا التوازي، بين عالم الكلب «تيموثاوس» الإيديولوجي الموازي لعالم رجال السلطة الذين سيأكلون لسان عبد المؤمن، حيث: «الأعوام التي قضاها تيموثاوس الصغير في إنماء عقله وتثقيف نفسه، قضاها عبد المؤمن في إنماء ثروته وتقديس نفسه واكتساب مزيد من السلطة». إذ يقوده التشويق الروائي المطعّم بالتحقيق البوليسي، وسبر غموض التشابك بمكتشفات العلم، ومماثلاتِ الأدب في تشابك كذبه الصادق بذاته، إلى مَسك الخيوط التي تنتهي بعباراتٍ تَعِدُه بكشف الغموض من كاتب يأخذ دور الراوي العليم علانيةً، في ما سيأتي من ليالٍ، كما لو كانت حكايات شهرزاد، ولكن من دون تصريح بذلك.

عالمان موازيان متشابكان:

من نقطةٍ حسّاسةٍ تعتمد على الملاحظة الدقيقة بقدْر اعتمادها على الخيال، في علاقة الإنسان بالحيوان، وتصل إلى ما يفكّر به غلاة الخُضاريين الـ «VIGAN»في مبالغاتِ حمايتهم للبيئة؛ يخلقُ سمير قسيمي عالمَين متشابكين، هما عالم الحيوان الذي يُحمِّله أسفار الإيديولوجيا الدينية مثل حمارٍ لا يعي ما يَحْمِل، وعالم البشر في إسكات مخاوفهم بهلاوسهم التي توفّرُها لهم هذه الإيديولوجيا، وتدفعُهم إلى خلق أنبياء وأولياء ودعاة يُغَذّون عُقَدَهم الموروثة من آبائهم، مثلما يُغذَّون مطامِعَهم، حتى الوصول إلى مآلات ارتكاب مجازر ذبح رقاب البشر، ورقاب بعضهم.
ويعتمد قسيمي في خلقه لتشابك العالمَين، على تصورات القرين لدى الإنسان، وبالذات في عقل بطلته نسرين التي وصلتْ حدودَ تشتت الذهن بسنّ الثانية والتسعين، في تصوّرها لقرينتها المسنّة القديمة تيموثي التي أصبحت معجزةً ودخلت كتاب جينيس بوصولها إلى سن مائة وسبعين عاماً، وشبّهت نفسها بسلحفاة مسنّة تدعو الناس إلى تركها بسلام.
وفي هذا التشابك، يغذي قسيمي ويثري عالَمَيْه بالثقافة العميقة والتحليل النفسي لشخصياتهما، حيث: «ما تملَّك نسرينَ بخصوص علاقةٍ تربطها بتيموثي القديمة، جعلها لاحقاً تتصوّر أنها قرينتُها في عالم الحيوان، ومع أنها لم تقرأ رواية «ملوك الشمال» لفيليب بولبان، على اعتبار أنها لم تكن قد صدرت بعد، فإنها تخيّلت، مثلما فعل، أن لكل إنسان على هذه المعمورة قريناً من البهائم يشبهه ويرتبط به، على نحوٍ تتقاطع فيه حياتُهما سعادةً وحزناً، ولربّما تؤدي نهاية حياةِ أحدهما إلى نهاية حياة الآخر».
في عالَمَيْه المتوازيين، يُخَلِّق قسيمي الحكاية برجلٍ اسمه عبد المؤمن حلّوفة، يحمل إرث والدٍ قتل شاباً مجاهداً وانتحل شخصيته، وأصبح محافظ الحزب الحاكم في بلدته «الجلفة»، وما لبث أن انتحر عند اكتشاف أفعاله.
وكما يحدث بصورة غير مفسرةٍ في حمل هذا العبء، يهرب الابن من تاريخ عائلته التي بقيت تحمل اسم عائلة ضحيّة الأب حلّوفة/ أي خنزيرة، لأن والده كان صياداً للخنازير، وفق قانون المحتل الفرنسي بتغيير الألقاب، ويتزوج من امرأةٍ، تنتمي لعائلة ثريةٍ، من أصول ثورية، ليمنح نفسه: «ما عجز القدر على منحه إياه أو على الأقلّ سيعيد إليه ما ظنّ أنّ الظروف اللعينة سرقته منه، حين دفعتْ بوالده إلى الانتحار سنواتٍ قليلة بعد تقاعده، تجنباً لمحاكمته عن تهم أيسرها التزوير وأبغضها القتل». لكنّ عبد المؤمن يفقد زواجه وابنه الوحيد، عند اكتشاف عائلة زوجته تاريخَ عائلته الملوّث. ويبلور الكاتب بطله بعد هذه السيرةِ شخصيةً معقّدةً، متجاذَبَةً بين الاستكانة والطموح، الحلم والانتقام، والنظافة والفساد، في ذات الوقت.
وحيث أنَّ البنية العميقة في رواية قسيمي تقوم على تلاقي المصادفات، وتأطير البشر لها بالمشيئة غير المفَسَّرة؛ تتقاطعُ شخصية عبد المؤمن في عالم البشر، بشخصية الفرنسية الجزائرية الأصل ياسمين نايت خوجة، التي يكتشف من عثوره على اسمها في سجلّ الجزائر لدى البوليس الفرنسي بعد تسليمه للجزائر، أنها كانت جاسوسةً مزدوجةً للثوار وللفرنسيين، خلال إدارتها لماخور في بيتها بالجزائر، وأنها تعيش في مارسيليا. ويقابلها بعد جهدٍ وتهرّب منها، كصحفي يعمل في صحيفة مغمورة، مسجّلاً لها ما يعتقد أنه فضيحةٌ لرجال السلطة التي دمّرت حياته، وعلى رأسها الشخصية الممثلة لها، السيد صالح برجيل.
في شخصية برجيل، يبلور قسيمي تحليله لرجال السلطة، الذين عبروا الجسر خارج الإنسانية: «حتى بالكاد صاروا يشعرون بما يشعر به الأحياء من خوف وجزع ورعب وأمل وحب». مع إضافته إلى هذا الخواء طيفَ حنين قد يستمر قليلاً لديهم، لكنهم يستغلّونه كذلك في اختبار ما وصلت إليه أحوال ضحاياهم، وأزلامهم الذين صنعوهم، مثل عبد المؤمن الذي أوهموه أنهم خضعوا لابتزازه، وحوَّلوه، كما يفعل رجال السلطة الأساسيين، بصنعِ حيتان اقتصاد من الحضيض، إلى أغنى رجل في الجزائر يملك الشركات والبنوك. وذلك قبل ان يراهنوا وفقَ طيف الحنين الذي ينتابهم عليه، ككلبٍ صنعوه، على إثبات صحةَ أو خطأ معتقدهم بأن الكلاب لا تأكل بعضها، وقبل أن يؤدبوه بتحطيم الأدلة التي يملكها ضدهم، وإحضارِه من بريطانيا، ومحاكمته التي أرادوه أن يعرف فيها: «أن الكلب الذي ينسى النباح ولو سهواً لمرة واحدة تأكيداً لسيده أنه السيد، لا بدّ أن يؤكل لسانه تأديباً إلى أن يتأكد السيد أنه فهم الدرس».
وفي تلاقي المصادفات التي يكتمل بها بناء الرواية، يُدخل قسيمي منذ بداية جريانها، بطلة عالم الإيديولوجيا الدينية: المعمّرة المعجزة «تيموثي القديمة»، ويطلقها في مجرى التشويق جسراً يشابك العالمين، كما لو كانت صانعةَ النبوة. وذلك بإيحائها للكلب الوحيد الذي بقي معها، وسمّته تيموثاوس اشتقاقاً من اسمها، وتعبيراً عن القديس الذي أرسله بولس الرسول للتبشير بدعوته؛ خلال هذيانات احتضارها أنه نبيٌّ، وقادته هلاوسه بعد موتها إلى بلورة معتقدات نبوته، والإيعاز لصاحبه الأول فأر الماء يحيى المعمدان، بنشرها، والندم على ذلك إذ اكتشف بعدها أنها لم تكتمل، مثلما اكتشف تحريفَها من قبل الدعاة اللاحقين من القوارض.

أسلوب تحريك العوالم:

بفانتازيا متفردة وعميقة في مداخلتها للعوالم، واعتمادها العلم في تشكيل بنيتها العميقة، يُكوِّن قسيمي بنيةَ روايته ببساطة جريان عشرين فصلاً مرقمةً بدون عناوين، ومنظومةَ سرده المعتمِدة على راوٍ عليم يختزله بأنه هو الكاتب نفسه، وثيمةَ تحذيره من الكلاب التي تتحوّر في عالم البشر، من المثل المعروف بـ «هل أكلت القطّة لسانَك» كنايةً عن سوط عقاب البحّارة المخطئين المسمَّى القطة، ذي الذيول السبعة، إلى « هل أكلت الكلابُ لسانك»، مجازاً عن إخراس المَسُوط به من شدة أذاه. ثم تسير كمماثَلةٍ لكلاب السلطة الكبار التي تصنع كلباً أدنى تُربّيه بالإخراس حين يقوم بمجرد التفكير في التصرف خارج إرادتها؛ والكلاب التي تأخذ مرتبة الحيوانات الذكية في عالم الحيوان الموازي، ويخلق فيها الكلبُ تيموثاوس الذي علّم نفسَه وأوحت بذلك له المعمِّرة تيموثي، كنبيٍّ، ديانةَ الحيوانات التي لا يصل إدراكُها إلى غير طاعةِ ما يقدَّم لها.
وفي هذا التكوين، يستخدم قسيمي أسلوبَ تشويقٍ جريء وخطر، دون خوف على تماسك الرواية التي يتداخل فيها التاريخ بالحاضر، والثقافة التاريخية والفنية التي تمتد من سفينة الشبك إلى لوحة الرسام الهولندي/ الفرنسي آري شيفر «فاتنة الميناء»، إلى تدوينات المؤرخ المزيِّف للتاريخ إليوت موريسون، إلى مجزرة الأعيان والتفاصيل المهمة في تاريخ احتلال واستقلال الجزائر وخيانة ثورتها بإزاحة نبلائها واستيلاء أوغادها عليها وعلى البلد بالحيلة والدين وما لا ينتهي من أساليب الفساد.
وفي عَقْد ارتباطات الرواية هذا، يستخدم قسيمي أسلوب إنباض المصادفات والمشيئة، واتباع أسلوب تشويق تعليق القارئ لكشف الغامض بما سيأتي، حتى الوصول إلى النهاية التي يعرف فيها مآل إخراس الكلاب وحفاظها على بعضها.
وتجدر الإشارة هنا، إلى مشابكة قسيمي لعالَمَيْه المتوازيين، بثقافة مبسّطة عن العلم في صنعهما وربط آفاق فيزياء الكوانتوم بالشطح الصوفي دون تضييع القارئ بالمفاهيم.
والإشارةُ إلى ما يميّز أسلوب قسيمي، ويدفع القارئ لمتابعته بمتعة، في إنباض روايته بالسخرية العميقة من الإيديولوجيا، ومن أفعال صانعيها وناشريها ومحوِّريها ومزيِّفيها ورواةِ أحاديثها المتواترين الذين يخترع لهم أسماءَ حيوانية مناسبة، لكونها تجري في عالم الحيوان الموازي، بكشفٍ لا ينقصه البعد الثقافي والتحقيق الدقيق المستند إليها نفسها.
ولا تغيب عن القارئ في هذه السخرية إرجاعات قسيمي لمصادر الألقاب، مثل فأر ماء المختبر جون/ يحيى، الذي أطلق عليه المختبرون لقب المعمدان حين جرى على غير سلوك فئران المخابر إلى الماء بعد إطلاق سراحه، كما لو كان قد تعمد فيه. ولا تغيب كذلك تبريرات المفسّرين المضحكة، كأمثلةٍ، لقصة غياب الآية التي تتحدث عن الرجم ورضاعة الكبير، بأكل داجنٍ لها، واسترضاء وشراء الولاء بالمال، وفق مبدأ الإغداق على «المؤلفة قلوبهم» لتمتين الدعوة.
ولا ينسى قسيمي في النهاية أن يتحدث بسخرية عميقة كذلك، من خلال محاولات الكلب تيموثاوس في التعلّم والفهم، عن الأدب بما يتكامل ويتناغم مع روايته.

سمير قسيمي: «احذر دائماً من الكلاب»
منشورات تكوين، الكويت 2024
152 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية