■ وضعت فنجانَ القهوةِ أمامَه ومضت بدون أن تنبسَ بحرف، فهزَّ رأسَه بأسى ليقولَ لنفسِه: «تتصرّفُ كأنّها لا تراني، «رشفَ القليلَ من قهوته ليضيفَ بعد تنهيدةٍ طويلة: «حتى هذه باتت باردةً مثلها».
خرجت إلى الشّرفة لتشرعَ في سقاية نباتاتها وهي تُغمغم: «حتى كلمة شكراً لا ينطقُها، صامتٌ طوال الوقت، متأفِّفٌ طوال الوقت، لم يعد يُرضيه شيء، وجودي وعدمه لديه سيان، «ثمَّ مدّت يدها إلى ورقةٍ صفراءَ ذابلة، وقصفتها بحنق وهي تشعرُ بأنَّ الأفقَ أمامَها يطبقُ على الأرضِ وعلى روحها في آنٍ معاً، وأنَّ الشّمسَ التي تتوارى ببطءٍ في البعيد، هي شمسُ عمرِها الذي بدأ بالانطفاء مع جفائه المستمرّ معها.
كان يُراقبها من وراء زجاج الشّرفة وهو يقول: «ليتها تهتمُّ بي مثل ما تهتمُّ بنباتاتها المُدلّلة، ألا أستحقُّ بعضاً من تلك الرّعاية بعد هذا العمر الطّويل معها؟ ليتها تشعر بوجودي، تعيشُ معي كأنّي مخلوقٌ غيرُ مرئيّ». ثمَّ نهضَ فجأةً، وسارَ على رؤوس أصابعه نحو غرفته، فغيّرَ ثيابه، وخرج من البيت بهدوء مقرّراً الاختفاءَ لساعات، علّها تفتقدُه، علّها تقلق، علّها تنشغل به. مشى في الطّريق على غير هدى حتى خطرَ له زيارةَ أحدِ الجيران، فدخلَ وهو يعتذرُ عن قدومِه بدون موعدٍ مسبق، لكنَّ الآخرَ استقبله بحفاوة، ومضيا في حديثٍ طويل انتهى بانهماكهما في لعب الطّاولة. في تلك الأثناء، كانت هي ما زالت على الشّرفة تحتسي الشّاي، وتتنّهدُ بضجر وهي ترقبُ العتمة ترمي بظلالِها على الوجودِ أمامها. ثمَّ وجدت نفسَها تنهضُ فجأةً وتُقرّرُ مغادرة البيت، والاختفاء لبعضِ الوقت، علّهُ يفتقدُها، علّهُ يهتم، علّهُ يقلق، دخلت بحذر وهي تتلفّت حولها، استعدّت بسرعة، وخرجت على أطرافِ أصابعها مقرّرةً التّوجّهَ إلى وسطِ المدينة للتّجوّل، وشراء أيّ شيء، المهم أن تختفي.
وظلّت تمشي وتمشي بلا هدف، إلى أن توقّفت عند أحد المحلات، وبدونَ أن تفكّـــر ابتاعت زوجاً من الجوارب الرّجـــاليّة لتمضي عائدةً وقـــد أرخـــى الليلُ سدولَه، وهي تقولُ لنفسِها بغبطة: «من المؤكّد أنّه قلِقٌ الآن، وقد أجده واقفــاً عند البابِ في انتظاري».
أمّا هو، فخلال عودته إلى البيت، كان قد صادف مشتلاً صغيراً، وبدون أن يفكّر، وجدَ نفسَه يبتاعُ أصيصاً لنبتةٍ صغيرةٍ يانعة، ليمضيَ عائداً وهو يقولُ لنفسِه: «لابدَّ أنّها افتقدتني، لابدَّ أنَّ القلقَ هدّها حتى الآن». دخلَ البيت، تلفّتَ حوله، فلم يجدْها، بحثَ في أرجائه، فلم يرَها، ثمَّ جلسَ مُنهكاً خائباً حائراً لا يدري ماذا يفعل، وصلت هي، فتصنّع اللامبالاة وظلَّ ساهماً مطرقاً بدون أن يعلّق بكلمة على غيابها… اجتاحها شعورٌ حارقٌ بالغيظ، فشغلت نفسَها بتحضير العشاء، وهي تُغمغمُ بكلامٍ بدون معنى.
أثناء تناولهما الطّعام، قالت بصوتٍ متردّدٍ خافت بدون أن تنظرَ نحوه: «ابتعتُ لك جواربَ دافئة، البردُ على الأبواب كما تعلم،» فكاد يبتسم فرحاً بما سمع، لكنّه ردَّ عليها قائلاً بجدّيةٍ مفتعلة: «أنا أيضاً أحضرتُ لكِ نبتةً جديدة» ضحكت ببساطة، وابتسمَ بدورِه، وقضيا السّهرة وهما يتحدّثان عن الذّكرياتِ والأبناءِ والأحفادِ بفرحٍ وحماسة وحبّ… وكلٌّ منهما سعيدٌ باختفاء مشاعرِه السّابقة تجاه الآخر.
٭ كاتبة أردنية ووزيرة سابقة
سيدتي الكريمة،حقا الصمت يزيد في فتور العلاقات بين الأزواج كما الثرثرة تجعلها متوثرة.
قصة قصيرة جميلة حبذا لو تم مراجعة الخاتمة.أرى أن نقطة النهاية أفضل بعد “وابتسم بدوره”.
لك مني كامل التقدير و الاحترام.