تونس ـ «القدس العربي»: يشتكي التونسيون هذه الأيام من الارتفاع المشط جدا، وبشكل غير مسبوق، في أسعار أضاحي العيد التي بلغت معدلات قياسية لم تعرفها البلاد من قبل، وهي أسعار لا تتماشى بالمرة مع الدخل الفردي للمواطن من الطبقة الوسطى فما بالك بمن هو دونه مقدرة. ويبدو أن ذلك سيؤدي إلى عجز عائلات كثيرة عن شراء الأضاحي وعدم قيامها بالشعيرة الدينية في أجواء من البهجة والسرور والدفء العائلي مثلما هو معتاد كل عام في تونس منذ أن استقر الإسلام بهذه الديار قبل أكثر من أربعة عشر قرنا. والحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي ترتفع فيها أسعار الأضاحي في البلاد، وليست المرة الأولى أيضا التي يجد فيها تونسيون من الطبقة الوسطى أنفسهم عاجزين عن شراء أضاحي العيد، لكن ارتفاع هذا العام لا مثيل له، وأعداد الذين يُتوقع أن يعجزوا عن شراء الأضاحي كبير جدا. وبعيدا عن الشعيرة الدينية سيجنح كثير من التونسيين مضطرين كدأبهم في السنوات الأخيرة إلى المحافظة على العادات لا غير وذلك من خلال جمع أفراد العائلة حول حفلة شواء بعد شراء القليل من اللحم.
أسباب عديدة
ومن بين الأسباب التي أوصلت تونس إلى هذا الوضع الغريب، وهي بلد الفلاحة التي نشأ فيها هذا العلم مع عالم الفلاحة والجينات ماغون القرطاجي صاحب المدونة الشهيرة التي حملت اسمه واقتبسها الرومان والإغريق وأقوام عديدة ووصلت إلى زمن الإسلام في الأندلس، الجفاف الذي ضرب البلاد في السنوات الأخيرة وتسبب في تراجع مساحات المراعي. ومن الأسباب أيضا ارتفاع أسعار العلف بسبب عدم توفر المواد الأولية التي يصنع منها هذا العلف المركز في تونس، رغم أن هناك وعودا للفلاحين من قبل الدولة بزراعة هذه المواد الأولية ومنها نبتة الصوجا وعدم الاضطرار إلى استيرادها من الخارج.
كما لعب تهريب الأغنام والأبقار من تونس إلى دول الجوار، التي تعاني بدورها نقصا فادحا ولا تهتم للنقص الحاصل في تونس، دورا في تراجع أعداد القطيع وهو ما أضر بمنظومة اللحوم الحمراء التي شهدت تراجعا كبيرا لم يعرفه البلد من قبل. كما أدى التهريب إلى الإضرار بمنظومة الحليب حيث أصبحت تونس التي كانت تصدر الحليب في الماضي القريب تستورد كميات من هذه المادة في بعض الأحيان من بعض البلدان الأوروبية من دون أن يتم التحرك لإيقاف هذا النزيف من حدود تبتلع المواشي والأبقار وترسل المهاجرين غير الشرعيين من جنوب الصحراء الأفريقية بتدفقات كبيرة.
فالفلاح التونسي وجد نفسه في السنوات التي تلت الثورة وحيدا فاضطر إلى التفويت في مواشيه وأبقاره بأبخس الأثمان للمقبلين عليها من دول الجوار وذلك لعدم قدرته على توفير العلف الذي ارتفع سعره بشكل كبير وهو ما يتم استغلاله الاستغلال الأمثل من قبل المنتفعين خاصة من الجزائر. وبالتالي يرى البعض أنه لا لوم على المزارع البسيط أو مربي المواشي إذا اضطرته الأوضاع إلى بيع قطيعه، بل أن اللوم، حسب هؤلاء، يجب أن يسلط على الدولة التي لم تقم بإيجاد حلول لمربي المواشي وتتصدى لمن يستغلون الوضع في الجوار رغبة في الربح السهل من مآسي الآخرين.
وقد أدت كل تلك الأسباب إلى تراجع قطيع الأغنام في تونس خلال هذه السنة بنسبة 16 في المئة مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية. حيث استقر العدد في حدود مليون و50 ألف رأس مقابل مليون ومئتي ألف خروف منذ عام تقريبا.
الحد من الواردات
ومن الأسباب أيضا عدم القيام بتوريد الأضاحي من الخارج للضغط على الأسعار حيث يرى البعض أنه كان على الدولة أن تستورد الخرفان من بعض البلدان مثلما فعلت في السابق وتقوم بتعديل الأسعار في السوق إلا أنها لم تقم بذلك. وبالتالي فلا هي منعت التهريب إلى دول الجوار ولا هي عدلت السوق واستوردت من الخارج بحثا عن حلول لمواطنيها، وكل ما في الأمر أنها استمرت في سياسة الضغط على الميزان التجاري من خلال الحد من الواردات قدر المستطاع.
لقد قامت الدولة بتحديد سعر الخروف قبل ذبحه بـ 21.900 دينار للكيلوغرام الواحد وذلك بمقر شركة اللحوم التابعة لها حرصا منها على أن تعرض أضاحي العيد مستجيبة للشروط الصحية والشرعية المطلوبة، بأسعار قال الرئيس المدير العام لشركة اللحوم أنها مناسبة في الظرف الراهن بينما رآها كثيرون مشطة ولا تراعي المقدرة الشرائية. ويبدو أن هذا السعر الذي تم اعتماده تمت فيه مراعاة مصلحة الفلاّح الذي لم يجد المراعي واضطر إلى شراء العلف المركز بسعر مرتفع، بينما لم تقع مراعاة المستهلك المغلوب على أمره والذي يمني النفس بالحصول على أضحية بسعر مقبول يناسب ميزانيته المحدودة.
وللإشارة فقد فاقت أسعار الخرفان في البلاد هذا العام الألف دينار وهو ما يفوق رواتب شريحة هامة من التونسيين في ظل وجود فواتير كهرباء شديدة الارتفاع وأخرى متعلقة باستهلاك الماء وثالثة تخص الخدمات البلدية المسداة من تنظيف ورفع فضلات وإنارة وغيرها.
ومع مصاريف الأكل والتنقل ودراسة الأبناء، يجد الكثير أنفسهم عاجزين عن توفير ثمن أضحية العيد التي تفوق الألف دينار أو حتى تلك التي يقل سعرها عن هذا المبلغ ولا يجوز شرعا أن تقدم كأضحية للعيد.
ظروف صعبة
وفي هذا الإطار يقول عامر بن سليمان وهو موظف بإحدى الإدارات في حديث لـ«القدس العربي» بأنه موظف ودخله في حدود ألف وخمسمئة دينار شهريا وسعر الخروف هذا العام هو بحجم راتبه أو يزيد أو يقل حسب الحجم، أو حسب مزاج الباعة. ويشعر محدثنا بألم كبير بما أنه لن يستطيع شراء أضحية لهذا العام وسيضطر لإيجاد حل وسط وهو شراء كميات من اللحم والاحتفال بمعية أفراد العائلة بالعيد للحفاظ على الاجتماع العائلي السنوي بهذه المناسبة لا غير.
ويقول محدثنا في هذا الإطار: «كنت أتمنى أن أقوم هذا العام بشراء أضحية استجابة للسنة النبوية ولكنني أجد نفسي عاجزا مع فواتير الكهرباء المرتفعة التي ضيقت على معيشة التونسي ومع ارتفاع أسعار الغذاء والدواء والمصاريف الدراسية للأبناء. هذا العام أجد نفسي عاجزا – كما غيري من المواطنين -ف علا مع هذا الارتفاع الكبير في أسعار الأضاحي، لقد تداينت سابقا لأشتري أضحية العيد لكن حتى التداين أصبح هذا العام غير ممكن بما أنني مدين للبنك بمبلغ كبير نتيجة لغلاء المعيشة وارتفاع مصاريف دراسة الأبناء».
من جهتها تعتبر فضيلة الحمروني وهي أرملة وعاملة بمصنع وتسهر على تربية أبنائها، بأن موضوع شراء أضحية للعيد ليس في أجندتها منذ سنوات فما بالك بهذا العام الذي فاق فيه سعر الأضحية راتبها الشهري. لقد اعتادت محدثتنا على شراء كميات من اللحم في السنوات الأخيرة للاحتفال بالعيد مع أبنائها لكنها هذا العام تجد صعوبة حتى في توفير مبلغ مالي لشراء لحم ارتفع ثمنه بشكل جنوني ووصل إلى خمسين دينارا أي ما يقارب 20 دولارا في حين أنه كان في حدود العشرة دنانير فقط عند اندلاع الثورة.
وفي خضم هذه الأوضاع الصعبة يجد العديد من المواطنين أنفسهم عاجزين عن شراء أضاحي العيد في بلد الفلاحة والفلاحين أو حتى شراء كميات من لحم الخروف للمحافظة على العادات والتقاليد والشعائر الدينية.
سعر خروف العيد في معظم الدول العربية (بما فيها الدول المنكوبة بالحروب مثل سوريا واليمن وليبيا) أغلى من كل سعره في أمريكا وكل دول اوربا بمرة ونصف إلى مرتين .. مع العلم أن الراتب في اوربا يقارب عشر إلى عشر أضعاف الراتب في تلك الدول !!!
سعر خروف العيد في معظم الدول العربية (بما فيها الدول المنكوبة بالحروب مثل سوريا واليمن وليبيا) أغلى من سعره في أمريكا وكل دول اوربا بمرة ونصف إلى مرتين .. مع العلم أن الراتب في اوربا يقارب عشر أضعاف الراتب في معظم الدول العربية (عدا دول الخليج) !!!
التهريب هو العنصر الأول لِغَلاء اسعار الأضاحي في تونس و غلاء الأسعار بصفة عامة في البلاد ، لدينا للأسف دول جوار بارازيت ، الحل هو فرض التأشيرة او حتى غلق الحدود، لكى تتعافى تونس من هذا النزيف المستمر، ليس من اليوم فقط، بل منذ السبعينات و حتى قبل ذلك…