نواكشوط ـ «القدس العربي»: في خطوة غير مسبوقة أثارت الارتياح الممزوج بالجدل، وعكست روح التسامح والمصالحة الوطنية، شهدت الساحة السياسية الموريتانية تطورًا جديدًا أمس، حيث قدم النائب بيرام الداه اعبيد صاحب الرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وأبرز معارضي الرئيس الموريتاني، اعتذارًا علنيًا للرئيس ولحرمه عن تصريحات جارحة صدرت قبل أيام عن النائبتين البرلمانيتين مريم الشيخ وقالو عاشور التابعتين لحركة “إيرا” التي يتزعمها ولد اعبيد.
ووصفت النائبتان البرلمانيتان الرئيس وحرمه ورئيس الوزراء بأنهم “صراصير”، وهو ما كاد أن يدفع السلطات القضائية لطلب نزع الحصانة البرلمانية عن النائبتين المذكورتين تمهيدًا لتقديمهما للعدالة تنفيذًا لحيثيات قانون الرموز، المعروف رسميًا باسم القانون رقم 2021-021، الذي أقرّه البرلمان الموريتاني في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ودخل حيز التنفيذ في 15 كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه.
ويهدف هذا القانون إلى تجريم الأفعال التي تُعتبر مساسًا بسلطة الدولة ورموزها، أو بالأمن الوطني، والسلم المدني، والتماسك الاجتماعي، والحياة الخاصة، وكرامة المواطن.
وخصص النائب بيرام الداه اعبيد ليلة الخميس بثًا مباشرًا مطولًا على صفحة المدون المعارض سيدي اكماش، لتقديم اعتذار رسمي نيابة عن النائبتين البرلمانيتين مريم الشيخ وقالو عاشور عن التصريحات الجارحة التي وجهتها ضد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، معتبرًا أنها “تجاوزت الحدود”.
وأكد النائب بيرام “أن اعتذاره موجه كذلك للسيدة الأولى مريم بنت محمد فاضل التي وجهت لها العبارات الجارحة، مشيرًا إلى “أن ما صدر عن النائبتين كان “غير ضروري ومبالغًا فيه”.
وتقدم الداه اعبيد أيضًا في البث المباشر، باعتذار منفصل للوزير الأول المختار ولد أجاي وأسرته ومؤيديه.
ودعا النائب بيرام، مع تقديم اعتذاره، الجميع “إلى تجاوز الاصطفافات السياسية والوقوف صفًا واحدًا في صلاة جامعة، يُرفع فيها الدعاء لموريتانيا، وذلك بحضور علماء نزهاء منزّهين عن ميول الانحياز، توحيدًا للقلوب وتضرعًا لله من أجل الوطن”.
وردًا على هذا الاعتذار، نشرت النائب مريم الشيخ على صفحتها بفيسبوك تأكيدًا على التزامها “بتنفيذ أوامر رئيس الحركة”، فيما كتبت النائب قامو عاشور في تدوينة لها: “ما قاله زعيمنا على العين والرأس”، مؤكدةً انصياعها الكامل لما أعلنه زعيم الحركة.
وجاء اعتذار بيرام الداه للرئيس تاليا لنداء وجهته حرمه ليلى أحمد خليفة، في تسجيل صوتي متداول، لمناضلي الحركة دعتهم فيه إلى “التوقف عن السب والشتم والتجريح”، معربة عن “رفضها لخطاب الكراهية”.
وأكد في اعتذاره على احترام قانون حماية الرموز “ما دام ساريًا”، رغم دعوته إلى إلغائه، داعيًا الموريتانيين إلى “الوحدة وترك الصراعات”، التي وصفها بـ”المُشغلة”.
ويأتي هذا الاعتذار في سياق تصاعد كبير لتجاذب سياسي شهدته موريتانيا في الأيام الأخيرة بين التيار المعارض الذي يتزعمه النائب بيرام ونظام الرئيس الغزواني بل وبين مجموعة “الحراطين”، المكون الأسمر لعرب موريتانيا وعرب موريتانيا المعروفين بمسمى “البيظان”، وذلك وسط جدل مشتعل حول حدود النقد المسموح به تجاه الرموز الرسمية للدولة.
وأثار اعتذار النائب ولد اعبيد ردود أفعال متباينة جمعت بين الارتياح والتشكيك في استمرارية النائب في موقفه هذا، وفي قبول مجموعته التي توصف ب “التطرف”، بهذا التنازل.
وعلق الإعلامي محمد عبد القادر على اعتذار ولد الداه مرحبًا بقوله: “اعتذار الرئيس بيرام الداه اعبيد للرئيس والسيدة الأولى ورئيس الوزراء يؤكد حرصه على نهج التهدئة وسعيه الدؤوب من أجل المصلحة العامة؛ فهو اعتذار لكل الغيورين على الوطن من حلف الحكمة والحنكة في النظام ممثلًا في رئيس الوزراء المختار ولد اجاي المؤمن بموريتانيا للجميع وبالجميع؛ وستثبت الأيام وقوفه رفقة الرئيس بيرام في وجه دعاة التأزيم والإقصاء”.
وعلق المدون الوالد أباه على هذا الاعتذار قائلًا: “على النائب بيرام الداه اعبيد أن يقدم اعتذارًا شاملًا ومفصلًا عن كل ما بدر منه طيلة فترة نضاله من أقوال أو أفعال اعتبرها غالبية هذا الشعب إساءة عليه، كما أن عليه فك الارتباط مع الحركات العنصرية التي جعلته وسيلة لتحقيق أهدافها”.
وكتب الإعلامي علي اماهن: “المعني بهذه القضية هو قائد الحركة بيرام الداه اعبيد، ورئيس حزب الصواب عبد السلام حرمه، فعليهما أن يقدما اعتذارًا للرئيس وللسيدة الأولى عن الإساءة الوقحة من طرف النائب قامو، والنائب مريم الشيخ، كبحًا لسلوك الإساءة، فهذا الأسلوب لا بد من محاربته من طرف نبذه من المجتمع ومحاسبة الجمعية الوطنية عليه بالطرد”.
أما منصة “الشلخة أونلاين” فقد أكدت “أن النائب بيرام ولد الداه ولد اعبيد يرتكب الجرم ذاته الذي سبق أن ارتكبه البعض في حق قانون الرموز، ثم يقدم اعتذاره، كما لو أنه يفتح الباب لتسوية لا يسبقها اعتراف صريح بالخطأ؛ فهل بعد الاعتذار أعذار؟
وأضافت المنصة في تعليق لها على حادثة الاعتذار: “لقد وصل الهدف، وبلغت الرسالة، وبدأت ترتسم معالم تسوية؛ ورغم خصوصية القاعدة القانونية، ومهما كانت وجاهة الاعتراضات عليها، فإنها تظل قانونًا نافذًا أقره المشرع الموريتاني، ويجب احترامه”.
وزادت: “لكن الأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل يجوز، في سياق لعبة “ليّ الأذرع”، أن يُكسَر القانون علنًا باسم التسويات؟
وهل يكفي أن يعتذر شخص عن فعل مجرّم قانونًا؟ وهل يُقبل منه ذلك؟
إنها استباحة لهيبة القانون، قد تفتح الباب أمام فوضى تتجاوز هذا الحدث بعينه، وتضرب صورة الدولة في العمق”.
“وبين هذا وذاك، تضيف المنصة، ستتحدد ملامح شخصية الدولة: هل هي دولة قانون ومؤسسات، أم دولة تُدار بالتدخلات والتسويات على حساب النصوص؟
أما الرئيس بيرام، فقد قدّم اعتذاره بعد تدخلات، لكنه اعتذار جاء ممزوجًا بتكرار الجُرم ذاته”.