ازمة المرور يمكن ان تسقط الحكومة

انتهت لجنة الخمسين من إعداد مسودة الدستور المصري النهائية في ثوبها الجديد وطرحتها للتصويت العلني على مستوى اعضائها، عبر شاشات التلفزيون، لكي تطلع فئات الشعب المصري بمختلف مشاربها على فحوى كل مادة من ناحية، وتتابع النقاش الدائر حولها ومدى القبول الذي تعكسه بين أعضاء اللجنة.
اقول ..
رغم الاختلاف والتضاد في ما بين اعضاء اللجنة في بعض الاحيان، والتناحر بينهم وبين قطاعات كثيرة من أبناء المجتمع من ناحية، والتشكيك في نواياهم من جانب وسائل الاعلام من ناحية اخرى.. إلا ان المتابع المنصف يجد لزاماً عليه ان يعترف بان هذه اللجنة منذ اول اجتماع لها في الثامن من شهر ايلول/ سبتمبر الماضي، وحتى بداية الاسبوع الحالي بذلت كل ما في طاقة اعضائها للقيام بمهمتها التاريخية خير قيام، سواء ضمن جلساتها العامة أو جلسات لجانها الفرعية الخمس. ويجد لزاما عليه أيضا أن يعترف بأن المناقشات التفصيلية لكل مادة على حدة ومنهجية التصويت عليها، ربما اكثر من مرة في بعض الاحيان، تعكس نموذجا من الأداء الجاد الملتزم بواحدة من أهم القضايا التي تمثل انعطافة ذات وزن في ما يتعلق بمستقبل النظام المصري الحاكم.
صمدت اللجنة بقوة أمام دعاوى انها لا تمثل القوى والهيئات الاجتماعية بالدولة خير تمثي .. وصمدت أمام إدعاءات ان من تمثلهم عمل منذ اليوم الأول على الاحتفاظ بما له من امتيازات، وحرص على عدم التنازل عن أي منها لقوى أخرى احق بها منه.. وصمدت امام ما وصفت به من أنها تحولت إلى ساحة للصراع بين اصحاب المصالح، من دون الاهتمام بمصلحة الوطن العليا.
اكثر ما تعرضت له اللجنة من اختبار وقيل وقال، عندما ناقشت إسلامية الدولة ومدنيتها ومادة الهوية.. وبان الامر كأن التعديل الدستوري هو الذي يصنع هوية مصر من جديد! وكأنما هناك من يريد ان يصطنع الهوية في ثوبها الجديد لخدمة فئة واحدة من بين فئات المجتمع، وعاش الوطن كأن مصر ولدت من جديد، وتذكرنا جميعا ما قاله أحد اقطاب جماعة الاخوان بعد فوز مرشحها في الانتخابات الرئاسية حزيران/يونيو 2012 من ان مصر فتحت من جديد.
واكثر ما تعرض له الإنسان المصري البسيط الذي يحلم بغد اقل ضغطا واكثر أمنا، هو صراع القوى المجتمعية والمؤسساتية لأجل وضع مواد دستورية خاصة بها تتميز عن طريقها على غيرها وتتحصن بها ضد غيرها وتتحصــــل بها على امتيــازات لم تعرفها من قبل، مما هدد بأن يولد الدستور وهو يحمل في طياته عوامل الفرقة الطائفية الفئــــــوية وربما الانعــزالية على المستوى الجغرافي والبيئي.. وذلك بالمخالفة للقاعدة الدستورية التي تؤكد على ضرورة ان يصبغ في نهاية المطاف المجتمع كله بصبغة واحدة، تؤكد التساوي في الحقوق والواجبات بعيدا عن كل ما يميز او يفرق بين فئات المجتمع، وكل ما يقصي او يعزل أيا منهم على اي مستوى او لأي سبب أو ذريعة عرقية او جنسية او ثقافية.
وأيضا تعرض لموجات متعاقبة من الشائعات وحملات التشويه، خاصة في الأسبوعين الأخيرين، التي ادعت ان لجنة الخمسين انتهت من ‘سلق الدستور’ وأن الكثير من اعضائها غير راض عما تم التوصل إليه.. مما وسع من دائرة المخاوف وزاد من خشية البعض من ان يأتي الدستور موصوما بالعوار الذي قد يصيبه بالوهن فور صدوره.
لا ينكر أحد ان هذا التشكيك تقف وراءه جماعة الإخوان والتيارات المتعاونة معها، والذين يحاربون بشتى السبل ان تتم خارطة الطريق مسيرتها، كما يقف وراءه بقايا الحزب الوطني الذين يعانون من عقدة الاقصاء، وكذا بعض الشخصيات القانونية التي لم تضم إلى عضوية اللجنة. هؤلاء وهؤلاء على يقين من أن إتمام الدستور وطرحه للاستفتاء، في ظل رقابة دولية واقليمية ومحلية، لن يوفر لهم الفرص التي كانوا يحلمون بها ، لذلك لجأوا إلى سلاح الإشاعات باعتباره خط الدفاع الأخير.. ومن سوء حظهم انه لم ينجح بالقدر الذي كانوا يتمنونه.
القضية المحورية هنا هي ..
الدستور ليس مجموعة منفصلة من المواد التي ترص بعضها إلى جانب بعض، بل هو بناء قومي مجتمعي لا بد من أن يشيد بتوازن وتناسق بين جميع مكوناته.. وعلى الرغم من ذلك عاش الشعب المصري لأيام طوال في دوامة المواد المعدلة والمواد المحذوفة، وتلك التي لم يتم الاتفاق عليها، وتابع عن كثب النيران المجتمعية التي اشعلتها مواد الهوية ومواد محاكمة المدنيين امام محاكم عسكرية، وحزن بسبب صراع القضاة وخلافهم العلني مع اللجنة حول أمور ما كان يحق لهم نشرها على العلن، وتأثر مجتمعيا بمواد حقوق المرأة ونسبة الاعضاء المعينين.. ناهيك عما اســـتقر عليه رأي غالبية لجنة الخمسين حول الفصل في اختصاصات الهيئات القضائية وتعيين 5′ من اعضاء المجلس النيابي وإلغاء نسبة الـ 50′ للعمال والفلاحين، وغيرها من مواد ذات صلة بحاجة المجتمع إلى قدر من التغييرات الدستورية يناسب ثورتي 25 يناير و30 يونيو.
أما ما عرفناه عن مواد الحقوق والواجبات والحريات العامة فيكشف عن قدر كبير من النجاح يحسب من الآن للجنة، لأن اعضاءها نجحوا في التوصل إلى احكام متقدمة وجديدة في نفس الوقت، وهذا لا يمنعنا من التحذير من أن هذا الاجتهاد المشهود له لن يؤتي ثماره، إن لم ترق المواد الخاصة بالمرأة والأقباط والانسان المصري بصفة عامة إلى مستوى علاج القصور الذي شاب علاقاتهم جميعا بالمجتمع وبالسلطة على إمتداد سنوات طويلة، وما أوجعهم وألم بهم من ممارسات تطبيقية لمجموعة من القوانين والاحكام الظالمة التي ارتكزت في المقام الاول على دساتير سابقة.
الشعب المصري يتطلع لأن يحظى بدستور يحقق المساواة التي من خلالها يبدأ خطواته غير المتراجعة في طريق الانتاج والتنمية المستدامة.. دستور يوفر ركائز اقتصاد يحقق امكانيات العيش الكريم لكل فرد من إبنائه، من دون ان يعاني أي منهم من قيود قانونية أو ممارسات حقوقية تحرمه من هذا الحق اليوم او غدا.
الشعب المصري يتطلع إلى بناء نظام دولة مستقر وآمن يحقق اهداف ثورتيهم ويبني المؤسسات التي تضمن مواصلة مسيرة الإصلاح والتطوير والتحديث.
ارفض مع آخرين مفهوم عدم ‘نضج الشعب’ الذي يتبناه البعض، معبرين عن مخاوف لا مكان لها حول عدم توافر البيئة الثقافية والتنويرية التي تفرز قواعد ممارسة الحرية على مستوى اطياف الشعب وفئاته المختلفة، لأن الشعب المصري بكل ألوان طيفه السياسي والحزبي والثوري سار خطوات واسعة في طريق الحرص على المعرفة والمشاركة.. لذلك رأيناه على امتداد أيام طوال متابعا بشغف للكثير من المواد التي ثار حولها جدال، ورأيناه مشاركا في الجدل المجتمعي الذي دار حول مواد أخرى كان أهمها الهوية ومدنية الدولة.
مصر ومجتمعها يمران هذه الايام بمرحلة شديدة الصعوبة في ظل النقاش الدائر حول مسودة الدستور الجديد الذي هو حجر الزاوية لتحقيق خارطة الطريق.
مصر ومجتمعها كله مطالبان بالتعاون معا لكي يصدر الدستور الجديد في ظل قاعدة التوافق، لذلك لا بد ان نحتشد كلنا وراءه، لأن هذه مسؤوليتنا جميعا بلا استثناء او اقصاء او تهميش.. مسؤولية المجتمع المدني والحركات الشعبية ووسائل الاعلام والحركات الثورية.
مسودة الدستور ليست فقط وثيقة صاغتها لجنة الخمسين وصوتت عليها على مرأى ومسمع من فئات المجتمع بكل اطيافها، بل هي أساس لإعادة تنظيم المجتمع بما يحقق مصالح كل ابنائه بلا تفرقة، ويوفر لهم الاطار القانوني لممارسة كافة حقوقهم وللمشاركة في صنع قراراتهم والحفاظ علي مصالحهم العليا، والمشاركة الإيجابية الواعية في اختيار ممثليهم على كافة المستويات الرئاسية التشريعية والتنفيذية.
الأهم عندي ان تكون لدينا بعد الاستفتاء على الدستور آليات صالحة لتفعيل القانون ومجتمع مدني قادر على حماية مكتسباته ويملك مقومات تقويم أي اعوجاج يظهر في افق حياته، ونخبة تنويرية قادرة على القيادة والتطوير.

‘ إستشاري اعلامي مصري مقيم في بريطانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية