مدريد-“القدس العربي”: تودع اسبانيا سنة 2019 على إيقاع مضطرب مثل الطقس إبان أيام فصل الخريف والشتاء، وتستقبل السنة الجديدة بإيقاع أكثر اضطرابا، وذلك بسبب ملفين شائكين وهما غياب الاستقرار الحكومي ثم مطالب الحركات القومية التي تهدد وحدة البلاد ونظامها الملكي. علاوة على ملف آخر بدأ يأخذ بعدا مقلقا وهو ملف اليمين القومي المتطرف الذي يحيي أحقاد الماضي التي تتجاوز السياسة إلى ما هو ديني بسبب التواجد السابق للمسلمين في هذا البلد الأوروبي.
غياب الاستقرار الحكومي
تعيش اسبانيا تغييرا في الخريطة السياسية بعدما انهارت القطبية الحزبية بين الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي المحافظ اللذين تناوبا على الحكم طيلة الأربعة عقود الأخيرة، وذلك بعد ظهور حزبين جديدين وهما اسيودادنوس الليبرالي ثم بوديموس المنتمي إلى اليسار الراديكالي وأخيرا الحزب اليميني القومي فوكس.
ونتج عن هذا التغيير في الخريطة السياسية اضطراب في الحكم، حيث أصبح على الحزبين الكبيرين ضرورة التحالف مع هذا الحزب أو ذاك لتشكيل الحكومة. وبدأت سنة 2019 بشبح إسقاط الحكومة الاشتراكية بزعامة بيدرو سانتيش نتيجة ضعف الأغلبية ومطالب الحركات القومية، وهو ما أدى إلى إجراء انتخابات تشريعية مرتين، الأولى خلال نيسان/أبريل الماضي ولم تسفر عن أغلبية واضحة رغم تقدم اليسار عموما، وجرت الثانية خلال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي ولم تفرز أغلبية واضحة رغم تقدم اليسار مجددا. وستنتهي سنة 2019 بحكومة مؤقتة في انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات من نتائج.
وكانت إيطاليا هي الدولة التي تشهد غياب الاستقرار الحكومي، لكن العدوى انتقلت إلى اسبانيا، فخلال الأربع سنوات الأخيرة شهدت أربعة انتخابات برلمانية، ومن استحقاقات إلى أخرى يزداد المشهد السياسي تفتتا وبلقنة. ويؤكد أكثر من خبير في الشأن الإنساني أن زمن وعهد الأغلبية المطلقة كما حدث إبان رؤساء حكومات سابقين مثل فيلبي غونثالث وخوسي ماريا أثنار قد انتهى وولى بدون رجعة على الأقل خلال العقدين المقبلين. كما لا يتورعون في وصف حالة اسبانيا السياسية نتيجة البلقنة بأنها أشبه بملوك الطوائف إبان الحكم الإسلامي.
اليمين القومي المتطرف
من أبرز المحطات السياسية التي شهدتها اسبانيا خلال سنة 2019 ارتفاع ظاهرة اليمين القومي المتطرف. وكانت اسبانيا من الدول الأوروبية القليلة التي لم يسجل فيها اليمين القومي المتطرف حضورا سياسيا. ويعود ذلك إلى احتضان الحزب الشعبي المحافظ مختلف التيارات اليمينية من الليبرالية إلى المتطرفة. لكن هذا اليمين لم يعد قادرا على استيعاب مطالب التطرف. وكما حدث في باقي الدول الأوروبية، انتهى المطاف بظهور حزب فوكس. وكانت بداية فوكس في انتخابات الحكم الذاتي في الأندلس سنة 2019 وخلال سنة الانتخابات البرلمانية خلال نيسان/ابريل الماضي، حصل على 24 مقعدا وأصبح القوة الخامسة في البرلمان الإنساني. لكن المفاجأة جاءت خلال انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حيث تحول إلى القوة الثالثة بـ 52 مقعدا متفوقا على حزبي اسيودادانوس وبوديموس. وأصبح رقما صعبا في المعادلة السياسية الإنسانية.
ويبني حزب فوكس خطابه السياسي على نقطتين أساسيتين وجدتا تجاوبا وسط الكثير من الاسبان خاصة القوميين منهم، وهما:
في المقام الأول، الدفاع عن وحدة اسبانيا في مواجهة الحركات القومية في كل من إقليمي الباسك وكتالونيا. ولا يتردد زعيم الحزب أباسكال في اتهام رئيس الحكومة “بأنه يمهد لانفصال الكتالانيين بسبب غياب سياسة حازمة” وفي أكثر من مرة أدلى بتصريحات خطيرة منها دعوة الجيش إلى التدخل. ولهذا ليس من الصدفة انضمام عدد من الضباط الكبار المتقاعدين إلى هذا الحزب. وبلغ بقائد القوات البرية سابقا الجنرال فولسنيو كول بوشر إلى المطالبة بمحاكمة رئيس الحكومة المؤقت بيدرو سانتيش بتهمة الخيانة.
في المقام الثاني، إرساء خطاب سياسي وتاريخي مقيت ضد الهجرة ومنها الإسلامية وبالأخص المغربية. ولا يمكن فهم صعود نجم فوكس في المشهد السياسي الإنساني بعيدا عن مناهضته للهجرة. فقد حقق أعلى الأصوات في المقاطعات التي فيها نسبة كبيرة من المهاجرين مثل ألمرية في إقليم الأندلس أو إقليم مورسية برمته. ويعتبر فوكس نفسه وريث إيزابيلا الكاثولية، ويخوض غمار السياسية بمفهوم حرب الاسترداد. وكان أول شريط فيديو إشهاري لحملته الانتخابية في الأندلس هو ركوب الخيل وحمل رايات حرب الاسترداد. وليس مفاجأة أنه يطالب بجعل سقوط غرناطة يوم 2 كانون الثاني/يناير من كل سنة العيد الوطني الرسمي لاسبانيا بدل اكتشاف القارة الأمريكية الذي يصادف 12 تشرين الأول/أكتوبر. ويؤكد أباسكال ضرورة القضاء على مختلف مظاهر الحضارة الإسلامية. ومن الطرائف السياسية، لكن التي لا تحمل الود للتاريخ، وهو قيام هذا الحزب عندما تولى رئاسة بلدية صغيرة وهي كادريتي في إقليم سرقسطة على إزالة تمثال أول خليفة في تاريخ الأندلس عبد الرحمن الثالث.
كتالونيا
كانت السياسة الإنسانية فيما يتعلق بمطالب القوميات تسير على ملف بلد الباسك بسبب العمليات الإرهابية التي كانت تنفذها منظمة إيتا المسلحة، لكن الآن أصبحت تسير على إيقاع مطالب الحركة القومية الكتالانية. ومنذ إجراء كتالونيا استفتاء تقرير المصير منذ سنتين، والعلاقات بين الحكومة المركزية وحكومة الحكم الذاتي في كتالونيا متوترة سواء كان اليمين أو اليسار في الحكم. وتميزت سنة 2019 بتأييد المحكمة العليا السجن ضد زعماء الحركة القومية ومنهم أوريول جونكراس.
لقد شهدت كتالونيا خلال سنة 2019 ما يشبه التمرد والعصيان المدني، فقد رفضت حكومة الحكم الذاتي تنفيذ عدد من المقررات الخاصة بالحكومة المركزية، بينما ينزل إلى الشارع بين الحين والآخر عشرات الآلاف للتظاهر من أجل الاستقلال. ورغم كل محاولات الحكومة بتقليص دور القوميين إلا أن استطلاعات الرأي تمنحهم المرتبة الأولى في كتالونيا دائما.
لقد صرح زعيم القوميين الكتالان أوريول جونكراس المعتقل في السجن أن الاعتقالات لن توقف قطار القوميين نحو الاستقلال. وتفيد كل المؤشرات أن سنة 2020 ستكون سنة القوميين الكتالان، فهي تنتهي بحادثين، الأول هو صدور حكم المحكمة الأوروبية الذي يطالب اسبانيا بضرورة الإفراج عن هذا السياسي، وفي الوقت ذاته، صدور حكم للقضاء الإنساني يحرم رئيس حكومة كتالونيا كيم تورا من تولي مناصب رسمية لمدة سنة ونصف.
الانتحار على أبواب اسبانيا البحرية
من الأحداث الاجتماعية التي ميزت اسبانيا سنة 2019 ولكن سلبا هو عودة ظاهرة قوارب الهجرة من المغرب وسواحل موريتانيا نحو شواطئ اسبانيا سواء الأندلس أو جزر الكناري في المحيط الأطلسي.
وبدأت بعض وسائل الإعلام تصف قوارب الهجرة بعمليات الانتحار الجماعي على أبواب اسبانيا البحرية. ويعود هذا إلى ارتفاع نسبة الغرقى خلال السنة التي نودعها، 2019. وأوردت منظمة الهجرة العالمية في تقرير لها منتصف ديسمبر/كانون الأول بوجود المئات من الغرقى بين الذين جرى انتشال جثثهم وبين أولئك الذين ابتلعهم البحر إلى الأبد، وأكدت مقتل 665 شخصا موزعين على الواجهة المتوسطية لإسبانيا والواجهة الأطلسية. ومن المظاهر الأكثر مأساوية لهذه الظاهرة هو أن ثمانية من أصل عشرة لا يتم انتشال جثثهم ويبتلعهم البحر إلى الأبد، وهو ما يزيد من معاناة الأهل والأقارب. ويبرز التقرير غرق 425 شخصا خلال مغامرة العبور من شواطئ المغرب والجزائر نحو شواطئ اسبانيا في البحر الأبيض المتوسط، بينما لقي 240 حتفهم في مياه المحيط الأطلسي خلال مغامرة الوصول إلى شواطئ جزر الكناري الإنسانية. واستقت المنظمة هذه الأرقام من مصادر متعددة، منها البيانات الرسمية وعائلات الضحايا والجمعيات الحقوقية.
تنتهي سنة 2019 وتبدأ 2020 على الإيقاع نفسه في اسبانيا، الهجرة وكتالونيا والاستقرار الحكومي، إنها قضايا السنوات الأربع التي مرت وربما النصف الأول من العقد الذي يبدأ.