«اسمي بغداد»: أغنية فرنسية تبكي أطلال الجمال في العراق

من أشهر أعمال المغنية الأسترالية تينا أرينا أغنية اسمي بغداد Je m’appelle Bagdad، صدرت الأغنية عام 2006 في وقت عصيب من تاريخ العراق، كان خلاله لا يزال تحت وطأة الحرب والاحتلال والفوضى والاضطرابات السياسية العنيفة. بكلمات وتعبيرات فرنسية نستمع إلى بكائية مؤثرة تأتي على لسان بغداد التي تتحدث بنفسها كمدينة، أو كامرأة أو كالمرأة المدينة، وهذا ما يمنح الأغنية بعضاً من أسرار جمالها وعوامل تميزها، فكثيراً ما يتم تناول انهيار المدن واندثار الحضارات في الأعمال الفنية من خلال البشر، الذين عاصروا تلك الأحداث الجسام، وشهدوا بأعينهم الزوال والفقد في أصعب أحواله وأشد وجوهه تجهماً، أو حتى من خلال البشر، الذين لم يعاصروا حدثاً بعينه، لكنه ترك أثراً فاعلاً في حاضرهم، وغرس حزناً هائلاً في أعماقهم وأشعل حسرة لا تهدأ، فنراهم يصيغون الأعمال الفنية على اختلاف أجناسها وأنواعها، يعايشون تخيلاً هذا الحدث، أو ذاك ويستحضرون مشاعر الفقد بأثر رجعي كنوع من المحاكاة، لكن قليلة هي الأعمال الفنية التي تتناول ذلك الألم من خلال المدينة نفسها، ذلك المكان الذي سقط وفقد حضارته ومجده وعز أيامه وأبهاء زمانه، ذلك المكان في مخيلة كاتب الأغنية تحول إلى كائن حي يروي قصة انهياره ويصف مشاعره الخاصة وآلامه الرهيبة وجروحه الغائرة، كتب المؤلف كلمات أغنيته على لسان بغداد وجعلنا نستمع إلى صوت تلك المدينة/المرأة/الأميرة التي تبوح بالألم وتحكي ما جرى لها، كيف كانت وكيف أصبحت، وتصف مدى قسوة تقلب الزمان، وتبدل الأحوال.

درامية الأداء وتوظيف العناصر الشرقية

أول ما نستمع إليه في أغنية «اسمي بغداد» هو صوت الأذان مردداً «الله أكبر»، ثم نستمع إلى بعض الكلمات أو الهمهمات العربية الأخرى، ثم تدخل الموسيقى تدريجياً وتبدأ تينا أرينا في الغناء، كأنها تحكي حكاية وتستهلها بالعودة إلى الماضي ووصف ما كان والإخبار عنه. لحن الأغنية غربي بطبيعة الحال لكن تم توظيف بعض العناصر الشرقية بين مقاطع الأغنية، لإضافة المزيد من التأثير ومواكبة الكلمات التي تذهب بالسامع إلى بغداد وأجواء الخيال الشرقي، فكما أن هناك بعض الكلمات العربية في الأغنية، نستمع أيضاً إلى أنغام عربية خاطفة وبعض ضربات الإيقاع الشرقية. تغني تينا أرينا هذه الأغنية بأسلوب درامي مؤثر، والمعروف أن تينا أرينا مغنية أسترالية ذات أصول إيطالية، وأنها تغني باللغة الفرنسية إلى جانب اللغة الإنكليزية، وقد حققت من خلال بعض أعمالها شهرة عالمية واسعة كأغنية I Want to Spend My Lifetime Loving You التي غنتها مع مارك أنطوني وتعد من أشهر أغاني التسعينيات الرومانسية، وتعرف تينا أرينا بقدرتها على الأداء الدرامي ما مكنها من لعب دور ازميرالدا على المسرح في النسخة الإنكليزية من غنائية نوتردام دو باري، وكذلك لعب دور إيفيتا بيرون في غنائية إيفيتا على مسرح أوبرا سيدني. في أغنية «اسمي بغداد» تعبر تينا أرينا بصوتها عن معاني الكلمات المؤثرة والصور الدرامية المرسومة بعناية، ويتراوح الأداء بين النعومة الحزينة الهادئة في المقاطع التي تسرد الماضي الجميل، ويتصاعد الصوت مع المد الذي يوحي بالألم كصرخات نابعة من الأعماق في المقاطع التي تتناول الحاضر المفجع، وتصف الأهوال التي وجدت المدينة نفسها في وسطها محاصرة.
تتجاوز هذه الأغنية مجرد كونها عملا فنيا يتناول بغداد بشكل مباشر، وكيف عصفت رياح الدهر والأحداث السياسية في دورة تعيسة من دورات الزمن بعاصمة من أهم عواصم العالم، وأقدم وأرقى حضاراته الإنسانية. فالأغنية يمكن إسقاطها على الكثير من المدن والبلدان الأخرى، بل يمكن إسقاطها على الأشخاص أيضاً، فهي تتناول شعور الفقد بشكل عميق والانتقال العنيف من حال إلى حال مناقض له تماماً، والعجز أمام قوة قاهرة، سواء كانت قوة الزمن، أو قوة الحروب والدمار.

بغداد في مخيلة العالم

بغداد من أجمل مدن الدنيا وترتبط في مخيلة العالم بالكثير من الصور المثيرة المدهشة وبالعديد من الحكايات، حيث القصور والجنان والثراء والبذخ والأنهار والشعر والقصص اللانهائية، وفي أغنية أجنبية عن بغداد مكتوبة باللغة الفرنسية، كان طبيعياً أن نجد بعضاً من الصور الراسخة عن تلك المدينة الباهرة في مخيلة العالم، كما نجد إشارة إلى ألف ليلة وليلة في صورة شعرية مؤلمة، حيث تقول بغداد إن شهرزاد قد نسيتها. تتحدث المدينة وتقول اسمي بغداد، تعلن عن وجودها وسط الدمار وتؤكد أنها لا تزال حية، رغم كل هذه الأهوال التي تحيط بها من كل جانب، أو كأنها تذكر العالم بها وبحضورها لشعورها بأنها قد نسيت ولم تعد تذكرها شهرزاد.
تعتمد الأغنية على مجموعة من الصور المتناقضة أشد التناقض، التي تذهب من أبهى درجات النعيم إلى أعنف وأقسى درجات الدمار، من القصور الفخمة الشامخة والأنهار المتدفقة والنعم الغامرة، ومن المدينة المزدهرة التي كانت تسمى عاصمة النور، يتدافع عليها الخلفاء ويتنافسون عليها كامرأة جميلة يرغب كل منهم في أن يفوز برقصة معها، تلك المدينة/ الأميرة التي كانت تحيا سعيدة في قصورها من الذهب الأسود والأحجار الكريمة، بينما يتدفق نهر دجلة على الأرضيات الكريستالية، أصبحت تعيش على أراضيها كمتسولة فقيرة تختبر مشاعر الخجل والانكسار بعد العز والمكانة الرفيعة، تروي المدينة أمجادها وتقول، إنها كانت تسمى عاصمة النور والنعم الوفيرة، وتتوجه إلى الله متعجبة متسائلة كيف ذهب كل ذلك وفقدت كل شيء، كيف تحولت إلى أميرة مشوهة سقطت تحت جحيم الدبابات والمدرعات ولم تعد بطلة في حكايات شهرزاد، تبكي جمالها الذاهب المنقضي وروحها التي يغتالونها، وحكاياتها في ألف ليلة وليلة التي لم تعد تثير اهتمام أحد بعد أن تم تدمير كل شيء. تصف الأغنية الدمار المادي والمعنوي الذي طال بغداد، لكنها في الوقت نفسه تقدم صوت المدينة التي تعلن عن وجودها رغم الألم وترفع الصوت مرددة اسمها.

 كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    كلمة أخف من ظل الطائر المهاجر المتميز عن الطيور سرعته تضاهي البرق أو أكثر تحت ظل هد ا الموضوع الفني الموسيقي الغنائي ادا سمحتم وكدالك الكاتبة المحترمة صلاح متولي شكرا لكم ولها كدالك العراق مر من محن عدة متنوعة ومختلفة ولازال والشعر لازال يضع عنه النغمات الموسيقية التي تجلب السامع ومن أي جنسية كان وان للفنانة الراحلة أم كلثوم أغنية عن بغداد أ يقاع موسيقي حماسي ان صح التعبير

  2. يقول أفانين كبة - كندا:

    لقد دُمرت وأحترقت بغداد مرات عديدة في التأريخ وتعرضت للغزوات والحروب والخراب والنهب والانقلابات العسكرية ، لكنها تبقى شامخة كما عهدناها لأن روح بغداد أصيلة وقوية تشربت بالتأريخ المتميز بها .

    أذكر كم تأثرت في حينها بهذه الأغنية الحزينة المملوءة بالإحساس والجمال بصوت المغنية ( تينا ارينا ) العذب ، واستوحيت منها رسم لوحة زيتية سنة 2011 أطلقت عليها اسم “ شهرزاد “ .

    شكرا للكاتبة الباحثة مروة صلاح متولي على هذا الاختيار المميز لمدينة بغداد التي مازلت احتفظ بصورتها الجميلة في ذاكرتي منذ ان غادرتها سنة 1980 ولم أعد اليها لحد هذا اليوم ، لأنه يحز في نفسي وفي قلبي أن أراها وكما جاء في الأغنية ( أميرة مشوهة ) .

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا جزيلا سيدتي الفاضلة.. إن شاء الله ستعود بغداد أجمل وأبهى.. مشاعر الحسرة على الأوطان مؤلمة للغاية. وأظن أن معظمنا يختبر تلك المشاعر بشكل أو بآخر.
      من أجمل ما قرأت عن العراق كتابات الدكتور زكي مبارك.. كتاب ليلى المريضة في العراق وغيره من الكتب
      خالص المودة والتقدير

  3. يقول عبد الرحيم المغربي.:

    عندما سقطت بغداد في يد الجيش الأمريكي..المتبوع بمليشيات الافك السياسي..قبل أكثر من عشرين سنة..عمت الفرحة والحبور..كل قلب حاقد على أمة قدمت للناس إحدى أعظم الحضارات على مر التاريخ….وكانت بغداد رمزا لذلك التاريخ المجيد..والحضارة الخالدة..مثلها في ذلك مثل أخواتها …دمشق والقاهرة وفاس وصنعاء..؛ ورثاء بغداد هو حلقة من سلسلة مراثي عكست حقبات واحداثا مأساوية..من تاريخ الأمة..كانت من أبرزهامرثية شمس الدين الكوفي بعد مجازر المغول في بغداد…ومرثية أبي البقاء الرندي بعد سقوط أغلب حواضر وثغور الأندلس..؛ وقد أحسنت الدكتورة مروة في اختيارها لهذا الاستثناء الفني الرائع..كتزامن موضوعي مع ما نشهده من تدمير وتنكيل بغزة ولبنان في حلقة تكميلية لما حصل من قبل في بغداد..التي صورتها أغنية المغنية تينا ارينا في شكل خطاب من المدينة المنكوبة..تتحسر فيه على حضارات وامجاد..كان اشعاعها لكل البشر…وما كانت لتستحق كل هذا الغدر..وهذه الهمجية..مع تحياتي للمتألقة دائما د / مروة متولي..

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      تحياتي أستاذ عبد الرحيم وشكرا جزيلا لك
      كانت فترة حزينة جدا وصدمة كبرى لا تنسى ونحن نشاهد ما كان يحدث للعراق في ذلك الوقت.. وفوقها كما ذكرت شماتة الحاقدين الطامعين..

  4. يقول ابن الوليد. المانيا. (على تويتر ibn_al_walid_1@):

    لكن بغداد ستنهض من جديد..
    .
    لابد ان تنهض..
    .
    بدون بغداد سيبقى الجسم العربي بدون روح..
    .
    قومي.. ننتظرك يا بغداد..
    .
    وكلنا حنين فيك لشهرزاد..

  5. يقول هيثم:

    مقال ممتع؛ لكن متعته تحمل في طياتها الألم و المرارة. بغداد المدينة الجميلة و العاصمة الحضارية العظيمة ذات التاريخ العريق و الماضي الحافل بالأمجاد، بغداد بيت الحكمة و العلوم و الآداب، بغداد البحتري و أبي تمام و الجاحظ و الكندي و ابي حيان التوحيدي. بغداد التي نتحسر حاليا على مآلها و آلامها و نبكي أحوالها و أوضاعها… سبق أن قرأت منذ فترة قريبة ردا للدكتورة مروة على تعليق أحد القراء تأسف قيه على مزايا و ايجابيات واقع الأمة خلال الماضي القريب مقارنة مع المآسي التي نعيشها و نشهدها في الوضع الحالي حيث لا حياة لمن تنادي… و مع ذلك رغم الحزن و الأسى لا بد من التشبت بالأمل مهما كانت الظروف. مع التحية والتقدير.

  6. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    سيدتي صلاح متولي أعود لهد ا الموضوع الفني لكي أقول كلمة أخرى ونحن ولا فخر مع الفن وعلى أي صورة كان شرط التميز ان صح التعبير الموضوع واضح وضوح الشمس أو القمر في ليلة مظلمة أو مثل نجمة الصباح والمعنى كدالك نعم بغداد العاصمة قديما وحديثا وقلنا ان أم كلثوم لها أغنية فأنت أعلم منا بهد ا تحت عنوان بغداد قلعة الأسود وأن هد ا لصحيح نعم سيدتي لكل قارئ محب أسلوبه الفني الخاص وفهمه كدالك

  7. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    سيدتي أعود لهد ا الموضوع الفني المتميز لكن ادا سمح لنا المنبر وشكرا على سعة الصدر وكدالك القراء حيت ماوجدوا نعيد السمع لأغاني أم كلثوم وبالأخص الأغنية التي أشرت أليها نغمة موسيقية رائعة وكلمات كدالك بغداد قلعة من قلاع الشعر ومن قلاع المسرح ومن قلاع السينما ومن قلاع التشكيل في كل صوره .

اشترك في قائمتنا البريدية