«أين أنتم يا عرب، أين أنتم يا مسلمون»، هكذا تتردد هذه الجملة على ألسنة الغزاويين وهم يخرجون من محنة ليدخلوا في أخرى أفظع منها، وصولاً إلى حرب الإبادة الحالية التي تشكل مأساة طاغية مستمرة لم تسمح ولو بفرجة لرؤية بصيص نور، لشم الأنفاس وجمع الشتات. مثيرة هي هذه الجملة التي تتردد حسرة على ألسنة الغزاويين وتقع كليشيهياً على آذان العرب والمسلمين، ترن وكأنها ضربة يد على طبل مشدود، يُسمع لحظة ويختفي في تاليتها. تتوالى المشاهد وتتردد الجملة ذاتها: «يا عرب، يا مسلمون» دون وعي من أصحابها أن الانتماء القومي والإخلاص الديني قد انتقلا إلى رحمة الله، أنهما مفهومان يرقدان الآن في أرشيف التاريخ بعد أن أكلهما الزمن واستبدل بهما مفاهيم أكثر حداثة و«إفادة».
ولطالما عملت البشرية على اختراع المزيد من الأطر التي تقسمها إلى طبقات وأنواع وملل، لتأتي معظم هذه التقسيمات إما كاذبة علمياً أو مطروفة نفسياً، وذلك حتى يسهل تجييرها لصالح أقوياء العالم البشعين. الانتماء العرقي على سبيل المثال بكل التقسيمات اللاحقة التي تُعلى أصلاً على أصل ونقاء دم على نقاء دم آخر، ما هو في الحقيقة إلا أكذوبة كبرى واختراعاً بشرياً عشائرياً يتباهى به قوم على قوم دون أي حقيقة علمية تسنده أو دراسة أنثروبولوجية تعطيه قيمة، حيث من أجل هذا المفهوم العشائري البائد اقتتلت «أسماك الأمس» إثباتاً لنسبها وعراقتها اليوم.
وحتى التقسيمات التي تحمل الكثير من القيم والمبادئ الإيجابية التي تضيف للبشرية، تم أخذها لأقصى درجات التطرف حتى تحولت سلاحاً يقتتل البشر به. فها هي الأطر ذات الأسس الأخلاقية والقيمية، مثل القومية والدينية، ينالها التطرف البشري لتزج هي كذلك بكل مناحيها الأخلاقية والمبادئية في حروب بشرية الهدف منها حوز الأرض والمال والسلطة. هذه الأيديولوجيات التقسيمية التي كان يمكن لها أن توحد فئات البشر بطرق أخلاقية وتمكنهم من التعايش مع المختلف معهم بسلام، وبعد طول سوء استخدام، هي كذلك أصبحت «قديمة»، عفا عليها الدهر ليستبدل بها البشر مفاهيم أكثر قوة وتسلطاً وتحكماً وتقسيماً، مفاهيم تسهل استعباد الناس وتجييرهم تماماً مثلما استخدم الدين لذات الأهداف وصولاً للدفع بالبشر للتضحية بحيواتهم.
فمع التطور الزمني والعلمي والفكري، ضعفت التطرفات العرقية والدينية، ولم يعد بالإمكان استغلالها لتجيير البشر وتحريكهم لتحقيق مصالح النافذين، خصوصاً في المنطقة الغربية من الأرض. وهكذا، ومع نشوء فكرة الدولة المدنية وتحديد حدودها، تبدت فرصة جديدة للإمعان في تقسيم البشر وتجييرهم وتحريكهم كما حطب الشطرنج، وبما قد يتنافى أحياناً والقيمة الأخلاقية والإنسانية بل والفطرية، حيث تقول بعض النظريات إن البشر الحديثين استبدلوا في الواقع الانتماء الديني بالانتماء المدني، وفكرة الإخلاص للدين والموت من أجله بفكرة الإخلاص للوطن والموت من أجله. وهكذا تضاءلت مساحات الاحتواء البشرية وصغُر حيز الانتماء أكثر فأكثر، حتى أغلقت الدول حدودها على جنسياتها، وأصبح الإخلاص للبقعة الجغرافية وحكومتها وجنسيتها يَجُب ما قبله وبعده، لتتحول هذه البقعة الجغرافية لدين جديد يتعنصر الناس من أجله ولا يرون أبعد من حدوده.
وهكذا استخدم الانتماء الوطني في آخر قرنين من تاريخنا البشري للتحكم في الناس وتأليب بعضهم على بعض، بل واستعبادهم وتجييرهم لصالح الأقوياء. هكذا تستبد شعارات مسؤولية المواطن وإخلاصه لموطنه وأحقية بقعته الجغرافية بكل مشاعره وإخلاصه، بل وحتى بحياته بنفوس البشر، حتى تصبح الأرض السياسية أهم من القيمة البشرية، بل والأخلاقية كذلك. هذا التطرف القوي في الشعور الوطني لا يكتفي بتملك ضمائر الناس ومصائرهم وأرواحهم، ولكنه يعزلهم كذلك عن محيطهم الإنساني الأوسع ويرفع عنهم مسؤولية الغير من البشر، الذين لا ينتمون لذات البقعة الجغرافية. إنه، هذا الانتماء الوطني، القيمة الأخلاقية الأرفع في عالمنا المعاصر، إلا أنه القيمة الأخطر كذلك من حيث عزل البشر بعضهم عن بعض، وأحياناً تأليب بعضهم على بعض.
لهذا لا يجد الفلسطينيون استجابة لا لنداء الإسلام ولا لنداء العروبة، فكلاهما ما عاد لهما التأثير ذاته في وجود الانتماء المدني الحديث. لست ها هنا أبرئ الأيديولوجيات الدينية والقومية، فتلك كانت لها تطرفاتها القاتلة، كما أنني لا أدين الانتماء الوطني، فهذا له فضائله العظيمة وقيمه الأخلاقية الرفيعة، إنما أنعى كل إطار تقسيمي جديد يخترعه البشر، ذلك لأن اختراعه غير معني باستغلال فضائله والاستفادة من فوائده، إنما هو معني باستغلال تطرفاته والاستفاده من الانقسام الذي يوقعه إضعافاً للقيمة الإنسانية الأعلى وتحقيقاً لهدف «فرق تسد» الذي بدوره يزيد الأغنياء غنىً، والمتسلطين سلطة، والضعفاء ضعفاً، والفقراء فقراً وعوزاً.
لذلك، أيها الغزاويون، لا رجاء من استدعاء عروبة ولا أمل في إحياء رميم نخوة دينية، ولربما هذا أفضل وأوقع؛ ذلك أنه لا يجدر بالنداء أن يحدد مسؤولية القضية الفلسطينية بانتماء قومي أو ديني، فهذه قضية العالم أجمع بكل أديانه وتوجهاته وتقسيمات وموحداته. وها أنتم تشهدون تفاعل الشعوب «الغريبة» قبل القريبة، ها أنتم ترون فاعلية المنطق الإنساني في مقابل ضعف واستحياء المنطق القومي والديني. لقد نسيكم العرب وأهملكم المسلمون ذلك لأن انتمائهم والتزامهم غيرا الوجهة، تضاءلا حد حدود خرائطهم الجغرافية، وأي شيء خارج هذه الخطوط لم يعد في إطار مسؤوليتهم أو مقدرتهم، والعين بصيرة واليد قصيرة، وليس بالإمكان أفضل مما كان.
اصرخوا عبر البحر الأبيض المتوسط، لا يوجد الكثير من المسلمين أو العرب، ولكن توجد بعض الأخلاق والقيم الإنسانية، راهنوا عليها، لربما تستطيع أن تتغلب على التقسيم وتتخطى الحدود وتفعل شيئاً، أي شيء.
مغنّي العُمُرْ، ضيّعتَ العُمُرْ
في أناشيدَ تُغَنَّى للبشرْ
ليس في الأحياء مَن يسمعُنا
ما لنا؟ لسنا نغنّي للصخر
للجمادات التي ليست تَعِي
والرّميمات البَوَالي في الحُفَرْ
غنِّ لها، سوف تراها إنتفَضَتْ
ترحَمُ الشّادي وتبكي لِلوَتَرْ…
!!!
من قصيدة الأطلال للشاعر إبراهيم ناجي…
هل من ينتمون لهذا العالم الواسع، يستمعون ويرون؟!، أم يسمعون وينظرون، وليس كل من ينظر فهو يرى؟!!…
هناك قيمة سامية ممتدة في الإنتماء لسؤال الضحية… هناك مجتمعات تدرك هذه القيمة، بينما هناك مجتمعات في غفلة طويلة عنها…
شكرا للسيده ابتهال على هذا المقال اللطيف .
قبل 100 عام لو سألت اي شخص من المحيط الى الخليج ما انت : لكان الجواب مسلم .
خطة تقسيم العرب نفذت بكل مهاره . لم نصبح دولا عديده ولكن هناك العديد من الهويات الفرعيه داخل كل دوله .
انا دائما اقول اولويات العرب بالترتيب : عشائريا ثم مناطقيا ثم وطنيا ثم دينيا !!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اصرخوا عبر البحر، يجب على أحرار العالم أن يصرخوا مع هذا الشعب العظيم (الشعب الفلسطيني) ولا نتوقف عن الصراخ حتى يسمع من لا يسمع.
“ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولَّوا وهم معرضون”
إذًا، من الأفضل أن نصرخ نحن معهم، ويكفينا أن يسمعنا الله ونحن نصرخ، حتى لو كانت الأعداد بسيطة جدًا، وحتى لو كان الصارخ كبير السن وغير قادر على رفع صوته فربما يكون صوته عند الله أقوى من المدافع والقنابل التي تُلقى على أطفالنا ونسائنا وشبابنا وشيوخنا، ليلًا ونهارًا، أمام عالم فاقد للإنسانية،
ومتعلق بحياةٍ ونعيمٍ زائفين، مليئين بالكذب والخداع، ودفن الرأس في رمال الخزي والعار.
واليوم الذي سيندم فيه الجميع… قريب، وليس ببعيد إلى المحترمة د. ابتهال الخطيب، تحياتي لحضرتك، وتحياتي لصحيفة القدس العربي،
“والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.”
هل نراهن على الإنسانية والأخلاقية والحرية والكرامة الإنسانية،، تجمعنا،،