اعترافات

منذ صار عقلي مرهفا
ومتعِبا ومتطلبا
ومرهقا في دلاله
صار عدوانيا في التأفف من الشر والقبح والعادي
الذي يختفي خلف الألوان
فأفسد عليّ التلذذ بتلك المتع العابرة
التي كانت ترضي الوهم القابع في جمجمتي يوماً.
أدقق في كلمات أغنية لفيروز
حملتني يوما على جناحيها
فأقهقه ساخرا من ذوقي الذي كان،
وأقرأ نصا يذكرني بمراهقتي البركانية
وأعتب على نفسي
كيف سحرتها تلك الكلمات الجوفاء.
أنظر إلى صورة المخلص
الذي كانت صورته تتصدر جدار غرفة الضيوف
وعقولنا الطفلية
وتدهشني براءتي المدرسية.
استجمعت كل أنواتي ورحت أدقق في عيونها
بعضها أطرق خجلا
وبعضها الآخر حدّق فيّ بكل إباء
السناءات التي فاضت
وحدها تجلت لي بكبريائها الهيراقليطي
وأجنحتها الديونسيوسية.
ما كان الوجود يوما من رحم العدم
بل العدم ما كان معششا في قلب الوجود
ممحاة في القلب وفي الذاكرة
حتى لا تبقى أسطر باهتة
في كتاب السيرة
ليولد الجديد باسما
متخففا من أطلال الحياة.
البكاؤون على الأطلال
كذابون
لم يكن الطلل ليغريهم
وإنما حبيباتهم اللواتي كُتبت لهن القصائد
فاطمة ومية وخولة
خلدتهن الكلمات الموزونة
والشعراء أحياء في اللغة التي لا تموت.
البكاؤون على جثث الأقدمين
أموات ينامون مع الجثث في الكهوف
والعقول الكهفية تحذر النور .
أنت الوجود الحق يا طرفة
والعمامة سوداء كانت أم بيضاء هي العدم الأشر
والطاقية التي يختفي فيها
حراس الإله شر مطلق.
النصوص التي أغرتني بالفضول يافعا
لم تكن إلا حطباً رطباً
تعافه النار ومواقد الفقراء.
بعض الشعراء الذين زحفوا من قراهم
إلى مدينة الشعر
وتبعثروا في خمارات المدينة
لم يكونوا صعاليك يا ابن الورد
كتبوا أحقادهم والْتَهَمَ هراءهم العدمُ
وغاروا في جرف الهباء.
النجوم التي لمعت في عيوننا
ورفعت الرايات الحمراء
صرنا نرى صدأها من بعيد
ونشم رائحة الدم الذي سال من أياديها.
كم كان الكهف مليئا بالأشباح يا أفلاطون
وكم كانت الشمس وراء ظهورنا.
أدخل غابات اللغة
لأقع على ما يضيء عتمتي
وأشرع بالقطاف
فأنسى العودة منها إليّ
فنتحد.
أتوه في عالم بلا جهات
وتنمو على جانبي روحي أجنحة الرحلة
وحين أقيم، أقيم في بيت بلا جدران
يتراءى لي بأن نفسي تحمل الحصاد
فانتبه إلى أنني محمول على راحتيها
كما تحمل الأم رضيعها
طفل لا يعرف الفطام
وأم لا تدري ما الإفطام
وأنا في الرحلة
أنسج من العدم وجوداً
وحده هذا العدم هو الموجود يا هيدجر.
وقالت لي المدينة التي تشع بأضواء
صيادي النفوس الفارغة
وأجساد النساء المتعبة
من أثوار آخر الليل
ما الذي يحملك على الحزن
والمتع مرمية على الأرصفة
قلت:
يغريني المستحيل
وماذا بعد: سألتْ.
أجبتُ:
أغراني المستحيل وخانني
أدار ظهره لي ومضى
ورحت أبحث عنه في الآفاق
ضحكت أفواه المدينة المليئة بالأنياب فقط
وقالت:
المستحيل لا يكون ولا يخون
لا دروب إليه ولا صوى
قهقهتُ وسخرتُ من العيش مع كائنات
لم تعرف يوما لذة الرحلة إلى المستحيل.
أفلوطين يا من استبد بك الواحد
ورحت ترسم مسار الفيض للناس
يا لخيالك الفقير
الذي ألهم الفارابي وابن سينا
وطرحت السؤال الأحمق
كيف يصدر الكثير عن الواحد؟
لماذا لَم تسأل:
كيف يصدر الواحد عن الكثير
وكيف فاض الواحد عن خيالك
أيها الحكيم الذي مجّد الخلق
كأنك لم تقرأ الشاعر الذي تشرّد في الصحارى
يا الأحيمر السعدي
يا من استأنست بعواء الذئاب
وحدك قبل الفيلسوف
من نطق بالحقيقة العارية
كل أصوات الخلق بعد الطفولة مخيفة
ويا نابغة الشعر العظيم
لا عيب في ريشتي
سوى إن بها فلولاً من قراع المقدس .

أكاديمي فلسسطيني/ سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية