الآرليزية: عنوان واحد وإلهامات فنية متعددة

الآرليزية عنوان لأكثر من عمل إبداعي في فنون مختلفة، ومعناه المرأة من آرل، أو المرأة التي تنتسب إلى مدينة آرل الواقعة في جنوب فرنسا على نهر الرون. آرل هي عاصمة كامارغ وتعد من المدن الجميلة ذات الطبيعة الخلابة، حيث النهر والسهول وجبال الألب، كما أنها تحتوي على مجموعة من الآثار الرومانية المهمة، وقد صنفها اليونسكو كتراث عالمي للإنسانية. تتميز آرل بالزراعة وتربية الخيول، ولديها سلالة خاصة من أقدم وأجود سلالات الخيل في العالم، تُعرف هذه السلالة المتميزة باسم خيل كامارغ.
كانت مدينة آرل ملهمة للكثير من الفنانين من داخل فرنسا، وكذلك لمجموعة من الفنانين من خارج فرنسا، الذين قاموا بزيارة هذه المدينة، ومنهم من أقام فيها لبعض الوقت وقضى فيها فترات طويلة، وأبدع أثناء وجوده هناك أعمالاً فنية من وحي المدينة.

القصة والمسرحية

من أقدم الإبداعات التي تحمل عنوان الآرليزية، قصة «الآرليزية» للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه، الذي عاش في الفترة من عام 1840 حتى عام 1897، كتب دوديه هذه القصة سنة 1869 ثم حولها بعد ذلك إلى مسرحية ميلودرامية من ثلاثة فصول. تروي القصة حكاية جان المزارع الشاب في العشرين من عمره، الذي يصفه الكاتب بصفات الوسامة والقوة والأخلاق الرفيعة والمشاعر الرهيفة. يعيش جان بطل القصة مع أمه وأبيه وشقيقه حياة هانئة وديعة مستقرة تخلو من المشاكل والأحزان، وفي أحد الأيام يرى فتاة آرليزية ويقع في هواها على الفور، دون أن تربطه بها علاقة مباشرة، يصارح جان أمه وأبيه بحبه لهذه الفتاة وإعجابه بها ويعلن عن رغبته في أن يتقدم لخطبتها، يتوجس الأب والأم في بداية الأمر بسبب بعض الأقاويل التي تتعلق بسمعة الفتاة، وبعض الأمور الخاصة بعائلتها، لكنها كانت مجرد هواجس قلقة دون وجود أدلة ملموسة على شيء يؤكد ما لديهما من مخاوف. استمع جان إلى ما قاله أبوه وأمه، لكنه أصر على أن يخطب الفتاة الآرليزية وقال إنه سيموت إن لم يتزوجها. وافق الأب والأم وقررا أن يزوجاه إياها، بعد جني المحصول. وفي يوم من الأيام جاء رجل إلى والد جان وقال له كيف تزوج ابنك من ساقطة كانت خليلتي لمدة عامين؟ وقدم له الرسائل والأدلة على العلاقة التي جمعته بالفتاة الآرليزية، وأخبره كذلك أن أهل تلك الفتاة كانوا على علم بهذه العلاقة، لكنهم تنكروا له بعد أن علموا برغبة ابنه جان في التقدم لخطبتها وفضلوا جان عليه، لذلك جاء الرجل لينتقم لنفسه وليفسد الزيجة المخطط لها. بعد أن أخبر الأب ابنه جان بالحقيقة المؤلمة وجعله يرى الفتاة الآرليزية وذراعها في ذراع رجل آخر، صمت جان ولم يذكر الفتاة الآرليزية مرة أخرى، وانغمس في عزلة كبيرة، كان ينهك نفسه في العمل والزراعة لساعات طويلة، ثم يذهب في المساء إلى مدينة آرل يقضي هناك بعض الوقت، حيث يجلس حزيناً صامتاً ثم يعود إلى بيته. عندما رأى الأب والأم ابنهما على تلك الحالة عرضا عليه فكرة الرجوع إلى الفتاة، وأبديا استعدادهما لأن يخطبا له الآرليزية من جديد، لكن جان رفض الفكرة تماماً وأخذ يغير أسلوب حياته ويجعله أكثر نشاطاً واختلاطاً، فصار يذهب إلى مواسم الخيل ويرقص ويشرب، حتى ظن أبوه أنه نسي آلامه وشفي من هذا الغرام، لكن أمه كانت تشعر بخوف كبير على ابنها المرهف الحس، وكانت تراقبه وتنام بالقرب من غرفته. وفي ليلة عيد أحد القديسين رقص جان كثيراً وطلب من أمه أن ترقص معه، احتفل جان مع المحتفلين في تلك الليلة البهيجة، وفي منتصف الليل بعد أن ذهب كل إلى فراشه سمعت الأم صوت خطوات متوترة مسرعة، كانت هذه الخطوات خطوات ابنها جان، تبعته الأم فزعة خائفة، لكنه صعد بأقصى سرعة إلى أعلى البيت وأغلق الباب من خلفه، أخذت الأم تصرخ وتصيح وتنادي عليه، وترجوه أن يفتح ذلك الباب المغلق، إلى أن سمعت صوت جسده يرتطم بأرض فناء البيت، تنتهي القصة بمشهد الأم وهي مرتمية على الأرض تبكي وتنوح وبين ذراعيها ابنها الصريع.

الموسيقى والفن التشكيلي

ألهمت مدينة آرل العديد من الفنانين، لكنها ارتبطت بشكل خاص بالرسام الهولندي فنسنت فان غوخ، حيث أقام فيها خلال الفترة بين عامي 1888 و1889، وأنتج أثناء إقامته في ذلك العام مجموعة من اللوحات الجميلة، التي تعكس أجواء المدينة ورؤيته الخاصة لها، وتأثيراتها على فرشاته وكل ما أراد أن يحتفظ به من هذه المدينة في أعماله. من أشهر هذه اللوحات لوحات الآرليزية، وهي سلسلة مكونة من ست لوحات، رسمها فنسنت فان غوخ عندما كان مقيماً في مدينة آرل. يقال إن السيدة الآرليزية التي تصورها هذه المجموعة من اللوحات، هي امرأة تدعى مدام جينو، زوجة جوزيف ميشيل جينو، صاحب أحد المقاهي التي كان يرتادها فان غوخ في مدينة آرل. في هذه اللوحات نرى امرأة جالسة تسند ذراعها على منضدة وتضع يدها على خدها، ونجد على المنضدة في بعض النسخ من اللوحات كتاباً، وفي نسخ أخرى نجد مظلة وقفازين، ترتدي السيدة ثياباً تعبر عن الحقبة الزمنية التي رُسمت فيها اللوحات، ويختلف اتجاه الوجه ونظرة العينين من لوحة إلى أخرى وكذلك ألوان الخلفيات. تبدو السيدة على قدر من الهدوء والرزانة مع لمسة من الحزن والتأمل، وإلى جانب لوحات الآرليزية رسم فان غوخ مجموعة من اللوحات الأخرى بإلهام من مدينة آرل، كلوحة «ليلة مرصعة بالنجوم فوق نهر الرون»، التي تصور منظراً ليلياً لنهر الرون في آرل حيث المياه الهادئة والأضواء المنعكسة تحت سماء تمتلئ بالنجوم. وكذلك لوحة «غرفة النوم في آرل» التي تصور غرفة فان غوخ في آرل وبساطتها في تلك المدينة الهادئة، ولوحة «سيدة كبيرة من آرل» ويقال إن هذه اللوحة بورتريه لحماة صاحب الفندق وكانت آنذاك في الثامنة والستين من عمرها، وإن منديل الرأس الأسود الذي تضعه فوق شعرها يشير إلى أنها أرملة. كما رسم الفنان الفرنسي بول غوغان أيضاً مجموعة لوحات تحمل عنوان الآرليزية.
وفي عالم الموسيقى نجد الآرليزية عنواناً لمتتاليتين موسيقيتين للموسيقار الفرنسي جورج بيزيه، كانتا في الأصل الموسيقى الخاصة بالعرض المسرحي، عندما حول ألفونس دوديه قصته إلى ميلودراما من ثلاثة فصول، وفيهما مقطوعات موسيقية بحتة ومقطوعات أخرى كورالية. تتكون كل متتالية من أربع حركات، ومن أشهر هذه المقطوعات رقصة الفراندول، وقد وظف بيزيه الألوان البروفنسية في ألحانه، واعتمد على الفلوت والبيكولو والتامبورين وآلات الإيقاع البروفنسية. وفي الباليه الذي يحمل عنوان الآرليزية أيضاً، تجتمع موسيقى جورج بيزيه مع قصة ألفونس دوديه في باليه من فصل واحد، صممه رولاند بيتي سنة 1974 ومن خلاله نستمتع بالموسيقى والقصة التي تسردها الرقصات الرائعة.

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هيثم:

    مقالة رائعة عن القصة والمسرحية L’arlesienne للكاتب الفرنسي Alphonse Daudet الذي نبغ في مجال القصة القصيرة . الجميل أيضا في المقال إبراز مدينة Arles في جنوب فرنسا التي نالت شهرة واسعة في المجال الثقافي و السياحي تعزى إلى استقرار الرسام الهولندي الشهير فان غوغ بها خلال فترة من حياته و رسم بعض لوحاته الفنية الشهيرة. لا يسعني إلا أن أشيد بالدكتورة مروة على المستوى الثقافي و الفكري و الفني الذي تمتلكه و تمتعنا نحن القراء بالاستفادة منه و ها هي مرة أخرى تبهرنا بطول باعها في مجال الثقافة و الأدب الفرنسي. تحية مودة وتقدير لها و سلام مبارك من المغرب لحضرة اللواء المحترم الخال العزيز.

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      تحياتي أستاذنا الغالي.. شكرا جزيلا على الكلمات الجميلة المشجعة.. المقال القادم سيكون مع فرنسا أيضا.
      سيادة اللواء سوف يسعد بقراءة تعليقك وهو يهديك السلام دائما ويحب قراءة كل ما تكتبه هنا ويعتز بحضرتك جدا.. وللمغرب مكانة كبيرة في نفسه وتربطه به صلة وجدانية لا تنقطع.

  2. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    شكرا لك الأخت صلاح متولي على البحث الدي تقومون به ولا فخر وبتواضع كبير لكي يستفيد القارئ والمحب للفن في كل الوانه المتميزة بل على درجة عالية من الأمتياز وشكرا لك ثانية على التنوع في الكتابة الفنية .

  3. يقول الدكتور جمال البدري:

    تحياتي: لقد كتبتي اليوم عن مدينة فريدريك ميسترال شاعر آرل؛ حيث يوجد نصب له في ساحة الفوروم…وهناك الكثير
    من تماثيل أخرى في مدينة الموسيقى والشعر والحبّ والجمال التاريخيّ والمعاصر؛ التي جمعت بين التراث اليونانيّ
    والرومانيّ واللاتينيّ؛ الذي عانق نهر الرون في تلك المدينة التي زرتها قبل سنين.ولا تزال بيوتها والكنائس والأديرة الحجريّة ذات الأبواب الملوّنة وأزقتها الضيقة الدالة على هندّسة غير معاصرة في القسم القديم من آرل التي يقسمها النهر إلى قسمين متناظرين؛ منها أسقفيّة سان تروفيم ودير مونماجور…وهناك رأيت بقايا الجمال المكنون بالشعر الأحمر كحناء
    مدينة الفاو في جنوب العراق,الشعر الأحمر أراه من شلالات الآلهة يصعقني من دون صواعق قوم ثمود.شكرًا دكتورة
    مروة التي تعيدنا إلى ذكريات العقل الباطن؛ لتخرج كالشّمس تضيء عتمة الكون.

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا على هذه الإضافة الجميلة والمفيدة دكتور جمال.. تحياتي لك

  4. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    ا أعود لهد ا الموضوع الفني الجامع ان صح التعبير ادا سمحتم لنا شكرا لكم وكدالك الكاتبة الباحثة نحن قلنا كلمة قصيرة جد ا من باب المشاركة ولنا الحق في هد ا ولا فخر فا فرنسا لها تاريخ وبصمات متنوعة في فضاء الفن ونحن ليست لنا ثقافة عامة بل متواضعة ومازلنا نقرأ ونتعلم وسنظل شكرا

  5. يقول قلم المداد:

    تذكر بالمدينة الأندلسية الجميلة «إشبيلية» التي ألهمت الشاعر الإسباني غارثيا لوركا –
    وقد كتب فيها من روائع شعرية خالدة تستحق في هذا عين الاسم «الإشبيليات»، وذلك
    على غرار القصة / المسرحية L’arlesienne للكاتب الفرنسي Alphonse Daudet، فيما يبدو
    مع التقدير

  6. يقول قلم الرصاص:

    قامات فنية عالية مرت من هذه المدين الملهمة و غرفت من سحرها. ارل بهذه الميزة تذكرنا بمدن ارتبط اسمها بكوكبة من المبدعين العالمين و كانت مصدر إلهام كبير لهم كطنجة التي ظلت محجا نشطا على مدار عقود لمبدعين عالميين . شكرا على تنويع المواضيع دمت متألقة تحياتي

  7. يقول محمود خميس الديري:

    مقال قريب للقلب والعقل كمقالاتك الحلوة
    يا اخت مروة..حفظك الله.

اشترك في قائمتنا البريدية