تختلف الحضارات في مقومات قيامها، وما تعتمد عليه من عوامل لتصير إلى طور النضوج والازدهار؛ إلا أنها تتفق في النهاية في النتاج المادي المفيد الذي يتولد عنها، بغض النظر عن شكله وطبيعته؛ لكن هل يعود هذا النتاج من علوم وفنون في مختلف هذه الحضارات بالنفع على عامة البشر؟ أم أنه في بعض الأحيان لا يُكَرَّس سوى لخدمة صانعيه، ولا يعود على الآخرين سوى بالوبال، يتغذى على أجسادهم ويسلب أرواحهم؟
هنا علينا النظر في ظاهرة التنوع والتعدد في أوجه الحياة البشرية كافة، من العرق واللون واللغة، إلى المعتقد والثقافة وأساليب الحياة، وكيف أن هذه الظاهرة كانت في بعض الأحيان سببًا في التمايز والصدام، وأحيانًا أخرى لم تكن سوى سبيل إلى التقارب؛ ففي الحضارة الإسلامية، لم تكن الوحدة والتعدد أبدًا قضبين متنافرين، بل كان التنوع هنا ركيزة أساسية من ركائز الازدهار، فلو اقتصرت الحضارة على العرب وحدهم دون سائر الأمم، التي دخلت في الإطار السياسي لدولتهم الأولى، لَمَا وجدنا بعد أقل من ثلاثة قرون هذا النتاج الحضاري الهائل، الذي تفوق فيه كثير من الأعاجم على العرب، حتى في أصل الأصول التي خرجوا ليحملوها إلى الأمم، ألا وهي علوم الدين، التي تقوم أساسًا على اللغة العربية، ولنا في البخاري ومسلم خير شاهد ومثال؛ وكذلك لَمَا تنافست المدن الإسلامية المختلفة في المشرق والمغرب على السبق والريادة، بغض النظر عن مكانها أو من يسكنها ويحكمها، إذ لم يقتصر الاهتمام على العواصم العربية الأولى، فما بين بخارى وسمرقند وبغداد والقاهرة وإسطنبول وقرطبة وفاس، نرى ذلك الرباط الوثيق والقواسم المشتركة التي لا تخطئها عين، رغم الاختلاف الجذري بين مكوناتها؛ هكذا أدرك المسلمون الحكمة من التنوع، فظل ركيزة حقيقية تقوم عليها دولهم وحضارتهم.
لكن مع انتقال زمام السبق الحضاري إلى الغرب، إبان القرن التاسع عشر، بدأت تظهر معالم حقبة جديدة يدرك أبعادها من يتتبع جذور النهضة الغربية وعلاقاتها مع أمم وشعوب العالم، منذ انطلاقتها الأولى نحو الاستكشاف في القرن الخامس عشر؛ فقد بدت الفجوة هائلة بين الرجل الأوروبي الأبيض ومن تعامل معه، أو وقع تحت حكمه من الشعوب «الملونة»، فلم تغب أبدًا نظرة الاستعلاء والشعور بالمركزية والتفوق، حتى في المصطلحات التي نحتها ليميز بها بين «المدنية» التي من المفترض أنه يمثلها و»البربرية» المتمثلة في الآخر، بغض النظر عن لون ذلك الآخر ومعتقده وثقافته. ولنا أن نتتبع ذلك التاريخ الطويل المغرق في التوحش للأوروبي، الذي أباد ملايين البشر وسخر واستعبد مثلهم، ليقيم على أشلائهم عالمًا متحضرًا تَعَدَّى، حسب زعمه، مرحلة حقوق الإنسان إلى حقوق الحيوان، ومع ذلك لم يستطع إلى وقت قريب أن يساوي – حتى في داخله – بين أبيض وأسود، ولو من الناحية الشكلية. لقد طَوَّر الغرب أكذوبة «العالم المتحضر» الذي يمتلك الوصاية على الأمم، وصَدَّرها إلى شعوب الأرض مع ما يُصدره من آلات وتكنولوجيا متطورة، فغابت الحقائق في ظل القوة من ناحية، وإغراء البريق الزائف لذلك العالم الحداثي من ناحية أخرى.
عندما يحاول الغرب الآن الاستفادة من التعددية بالترويج لها باعتبارها قاعدة أساسية للحرية والليبرالية الحديثة في العالم الغربي، يعمل دائمًا على تصدير صورته باعتباره حاميًا لهذه القاعدة في العالم أجمع، على اعتبار أنها نابعة من قيمه، وأن ما عداه من الأمم لا يعنيه الأمر من قريب أو بعيد، لكن في الوقت نفسه لا نرى بريق التعددية يشع لدى الغرب إلا حين تلوح المصالح في الأفق، فأهلاً بالتعدد حين نستفيد من هذا العَالِم أو هذا العبقري الأجنبي، فلماذا لا نعطيه حق المواطنة من دون عوائق، ونسمح له بالعيش من دون تفرقة تذكر، إذا كانت المنفعة التي ستعود علينا تستحق، ولماذا لا نتدخل في شؤون الدول الأخرى بأي حجة إنسانية، كحماية الأقليات والتعدد العرقي والديني، إذا كان ذلك سيعود علينا بالربح الوفير، أما إذا ارتفعت النبرة العنصرية ضد المسلمين، أو حدث اضطهاد ومذابح في الصين أو بورما إلخ، فلا معنى للقيم أو للحديث عن التعددية وحقوق الإنسان وما شابه، فهي في ذلك الوقت لا تعدو أن تكون مجرد شعارات وترهات منعدمة القيمة.
طَوَّر الغرب أكذوبة «العالم المتحضر» الذي يمتلك الوصاية على الأمم، وصَدَّرها إلى شعوب الأرض مع ما يُصدره من آلات وتكنولوجيا متطورة
إن تَعَمُّد الغرب وضع حاجز بين المسلمين وباقي الأمم، خاصة الأوروبية، والسماح بالترويج لخطاب الكراهية والعنصرية، ما هو في الحقيقة إلا نبذ لهذه التعددية، التي طالما تشدق بها، مدعيًا أن عدوها الأول هو الإسلام. فها هو برنارد لويس يستدعي أحداث التاريخ ويُنزلها على الواقع في خطاب قروسطي بامتياز، يكشف عن الخلفية الفكرية لأحد أهم منظري السياسة الغربية، حينما صَرَّح بأن المسلمين حاولوا مرتين فتح أوروبا، في الأولى كانوا العرب وفي الثانية كانوا الأتراك، والآن بدأت بوضوح الموجة الثالثة من الهجوم على أوروبا، فيجب ألا نخدع أنفسنا في ماهية هذه الموجة، وفي ما تعنيه، فهي تأخذ اليوم أشكالاً أخرى، اثنتان منها على وجه الخصوص: الإرهاب والهجرة.
إن خطاب الغرب المناهض لهجرة المسلمين لأوروبا وقبولهم كغيرهم في المجتمعات الأوروبية يُظهر الوجه الحقيقي لقيمه التي ينعتها بالليبرالية. وبمقارنة سريعة مع هذه الأوضاع نفسها قبل عدة قرون، حينما كان العالم الإسلامي في ظل العثمانيين هو الذي يحتضن اللاجئين والمُهَجَّرين والفارين من القمع الديني والمذهبي في أوروبا، سنرى الصورة الحقيقية لمعنى التعدد، فلا تمايز بين الفئات ولا تحديد لحركتها أو أنشطتها داخل الدولة؛ فلم تمر سوى فترة يسيرة من الزمن بعد تهجير المسلمين واليهود من إسبانيا إلى الأراضي العثمانية، أوائل القرن السابع عشر، حتى رأينا امتزاجًا كاملاً بينهم وبين النسيج الأصلي للمجتمع من دون عوائق تذكر؛ وفي المقابل رأينا كيف رفض الأوروبي هذا التعايش نفسه بالعنف الوحشي المناقض للمدنية المدعاة، حينما لاحت له فرصة الانقضاض على المسلمين في أوروبا الشرقية، فيما أُطلق عليه مسمى حرب البقان الثانية (1912- 1913)، لنرى في هذه الحرب أن وجود القوة العثمانية في أوروبا لقرون كانت هي الضامن الوحيد لبقاء المسلمين هناك، وعندما زالت لم يستطع الغرب الانتظار مطلقًا من أجل السماح بشن حرب التطهير كما شنها على المسلمين في الأندلس قبل أربعمئة عام.
ولنا أن نرى كيف كان المسلمون يشكلون غالبية السكان قبل تراجع الجيوش العثمانية من البلقان، فتبعًا للإحصاءات كان هناك حوالي مليونين وثلاثمئة ألف مسلم يعيشون في المناطق التي انتُزعت من العثمانيين في هذه الحرب، غاب منهم مليونان وأربعمئة ألف عند انتهائها، أي 62% منهم، من هؤلاء ظل حوالي ثمانمئة ألف على قيد الحياة لاجئين، وتم قتل حوالي ستمئة ألف، أي حوالي 27% منهم. وتحدثت بعض التقارير الغربية عن فظائع هذه الحرب، بما في ذلك حرق الفلاحين المسلمين وهم أحياء في مخازن محاصيلهم وفي المساجد، وتدمير القرى بشكل كامل، فضلاً عن الاغتصاب والنهب، حتى أن تراقيا الغربية هُجرت تمامًا من السكان. هذا بالطبع بعد التصفيات الهائلة التي شهدها المسلمون هناك إبان الحرب العثمانية الروسية (1877- 1878)، عندما تمت تصفية أكثر من مئتين وستين ألف مسلم، وطرد حوالي نصف مليون من بلغاريا وحدها، أي ما يعادل أكثر من 55% من مسلمي بلغاريا. وبعد هذا يأتي الغرب ليقود العالم عبر منظمات دولية كانت له اليد الطولى في إنشائها، وعبر نظام دولي فَصَّلَه تبعًا لمنهجه، واجهته التعدد والمساواة، وحقيقته تتبدى من تاريخ لايزال يرمي بظلاله في كل حدث من أحداث واقعنا المعاصر.
كاتب وباحث مصري