الأبعاد الرمزية في مجموعة «الحياة وقصص أخرى» لعبد الأمير المجر

لعلنا ومن خلال نظرة بسيطة لمسيرة الإبداع السردي في العراق، نستطيع أن نتلمس مدى هيمنة القصة القصيرة على تلك المسيرة، حتى ليكاد يصعب حصر كتابها منذ أول ظهور لها إلى ما بعد عام 2003، حيث شهدت هذه المسيرة تحولا مفاجئا نحو كتابة الرواية، حتى أن سدنة القصة القصيرة ـ أن جاز لي الوصف- انحازوا إلى عوالم الرواية وفضاءاتها الشاسعة، ربما استجابة للذائقة العامة، التي ترى في أجواء الرواية أكثر متعة وإغراء، أو رغبة في تجربة ارتياد تلك العوالم الشاسعة، القادرة على استيعاب متغيرات الحياة بمختلف إرهاصاتها. وما أوردته ليس القصد منه التعميم ولا الحصر الزمني، فبعض مبدعي القصة القصيرة، قد دخلوا عوالم الرواية قبل هذا الزمن، وتميزوا فيها كتميزهم في جنس القصة القصيرة أو اكثر. ولا يعني ذلك أن القصة القصيرة قد تبخر ماء بحرها، واستحالت أرضها يبابا، فما زال لبحرها أمواجه التي تغري الراغبين بالسفر إلى جماليات عوالمها بركوبها.
ولعل مجموعة «كتاب الحياة وقصص أخرى» لعبد الأمير المجر، تمثل قاربا فارها ومغريا للسفر عبر أمواج بحر القصة القصيرة للوصول إلى موانئ الجمال والمتعة والدهشة.
في هذه المجموعة المتكونة من ثماني قصص، الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2018، يضعنا عبد الأمير المجر، أمام مشاهد صادمة، مفعمة بالكثافة الرمزية التي تفتح ذهن القارئ للبحث عن دلالاتها، وكشف مقاصدها، وربما دعته إلى إعادة قراءتها مرة وأخرى؛ للإمساك بالإشارات التي ترشده للوصول إلى متعة الكشف.
لجأ عبد الأمير المجر في قصصه هذه إلى تقنية (الصدمة) أو كسر أفق التوقع، إذ نلاحظ أنه يسترسل في السرد بلغة واضحة، يتخللها بين حين وآخر حوارات أو انثيال مونولوجي، ثم تنتهي قصصه بخاتمة محملة بدلالات رمزية، تنعطف بالحدث نحو اتجاه خارج التوقع.
وتكاد تتفق أغلب قصص هذه المجموعة على ثيمة رئيسية، هي تعرية وإدانة الواقع المؤلم الذي يعيشه الإنسان (العراقي على الأخص)، في ظل هيمنة اللصوص والفاسدين على نواحي حياة هذا الإنسان، وتواشجهم مع جميع مفاصلها، ولكننا نلحظ كما في أولى قصص المجموعة الموسومة بـ»العراة» أن القاص يفتح نافذة من الأمل لإمكانية كشف مخططات هؤلاء اللصوص، وتعريتهم بفعل جمعي قادر على كسر ما يتدرعون به من قوة.

الأجواء الغرائبية التي رسمها المجر في قصته هذه، تحمل الكثير من الجماليات التي تشد القارئ إلى مجريات أحداثها، وتحفزه للبحث عن الأبعاد الدلالية لكل مشهد من مشاهدها التي تحفل بالكثير من الدلالات الرمزية المغرية.

وفي قصة «دعوة لحفل المجانين» يضعنا القاص أمام عدة مشاهد تستبطن دلالات مختلفة، لعل أحدها هو ظاهرة (الانصياع للعقل الجمعي) أو ما يعرف (بسلوك القطيع) إذ نرى تفاعل المدعوين ومن ضمنهم (كتاب المقالات السياسية ورؤساء تحرير الصحف) – الذين يُفترض أنهم يمثلون العقل الواعي- مع مجريات الحفل رغم غرابة ما يجري فيه، في حين يوحي مشهد تفاعل واندماج كتاب المقالات مع ممثلي الأحزاب، الذين تبنوا مقالاتهم وقدموها على أنها تعكس توجهاتهم، وقدرة تلك الأحزاب على كسب هؤلاء الكتاب إلى صفهم، من خلال تملقهم، أو الإيحاء لهم بأنهم يمثلون أفكارهم، وانخداع هؤلاء بذلك الادعاء الكاذب، بينما تعكس صورة تلك المقالات، وهي ملقاة على الأرض بعد انتهاء الحفل، زيف ادعاءات تلك الأحزاب.
إن الأجواء الغرائبية التي رسمها المجر في قصته هذه، تحمل الكثير من الجماليات التي تشد القارئ إلى مجريات أحداثها، وتحفزه للبحث عن الأبعاد الدلالية لكل مشهد من مشاهدها التي تحفل بالكثير من الدلالات الرمزية المغرية.
في حين نرى أن عبد الأمير المجر في قصته الثالثة، بعنوان «مسبحة أبي»، يجعل من تلك المسبحة عامل كشف لطبيعة التحولات والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تجري في المجتمع والبلد، فبعد أن كانوا منشدين إلى تلك المسبحة التي يجهلون أسرارها، والتي ظهر على خرزها ذات يوم نتوءات تشبه الدبابيس، أخذت تصيب يد الوالد بالجروح، قبل أن تهب العاصفة وتتناثر حبات الخرز تلك، فتمتصها العقارب والديدان، ثم تمتلأ الشوارع (بوجوه بشر على شكل عقارب كبيرة وأفاع يمسك كل واحد منه بمسبحة من لون مختلف يداعبونها بأصابع كالمخالب ويوزعون على المارة ابتسامات صفراء). لقد مثل الوالد في هذه القصة صورة البلد بينما مثلت المسبحة التي كانت تحمل رائحة طيبة صورة أبنائه بمختلف طوائفهم حينما كان يربطهم خيط واحد، بينما كانت تلك العاصفة المظلمة هي محنة اختلال الموازين الذي أصاب البلد بعد الاحتلال، وهيمنة تلك العقارب والأفاعي على البلد، التي جعلت من كل فرقة مسبحة ذات لون مختلف تديرها بأصابعها ذات المخالب. إن هذه الصورة المرعبة التي يرسمها القاص تعكس قدرته الخلاقة على توظيف الأشياء بنسق إبداعي محملا بالجمال والإدهاش.
وبعكس ما احتوته القصص الأولى من فضاءات واقعية، جنحت آخر القصص نحو فضاءات الخيال العلمي لتبحر بالقارئ عبر سفينة خيال القاص عبد الأمير المجر نحو حياة كواكب أخرى، في الوقت الذي تضمحل الحياة في كوكب الأرض نتيجة هوس الإنسان ورغباته الجامحة بالسيطرة والتملك لكل ما يمكن تملكه، غير أن الشابين اللذين أرسلا إلى الفضاء يعودان إلى الأرض مرة أخرى عن طريق كائنات فضائية؛ ليبعثا الحياة على سطح الأرض من جديد، وكأن القاص أراد من ذلك أن يعيد دورة الحياة عبر آدم جديد وحواء جديدة، ولم يكتف القاص باختيار منطقة أور كمركز لانطلاق الحضارة الجديدة، بل جعل (آدمه) الجديد الذي وقع عليه الاختيار لرحلة الفضاء، ينحدر سلاليا من أور أيضا، وهي إشارة واضحة إلى انحياز المجر إلى القيمة الاعتبارية لما قدمه إنسان هذه الأرض من قيم حضارية عظمى.
إن قصص هذه المجموعة بمختلف ثيماتها تعبر عن سعة خيال عبد الأمير المجر، وقدرته على توجيه مساراته السردية باتجاهات مختلفة، وبلغة شفافة، تحمل الكثير من عوامل التشويق الفني، والإغراءات الجمالية، مع استبطانها للأبعاد الرمزية التي تمنح القارئ فضاء واسعا للتأويل، وإذا كانت المتعالية النصية تمثل مرآة تعكس للقارئ شيئا من محتوى النص، فإن قصص هذه المجموعة تمثل بصدق صفحات من «كتاب الحياة»، ولكنها حياتنا نحن التي تحفل بالكثير من المتناقضات، وهي بعد ذلك بحاجة إلى عملية تقويض وإعادة خلق تخرجها من دائرة التيه والعبثية والأفق الغائم.

٭ شاعر وكاتب من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية