أذكر أن الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله قال في إحدى إطلالاته التلفزيونية ما معناه إنه يبدو أن الرياضة هي الأمر الوحيد الذي تُشحذ له العزائم وتتعلق به الهمم عند كثير من الأمم، بحيث يبدو كما لو أن اللعب هو الأمر الوحيد الذي يأخذه البشر مأخذ الجد!
والأكيد أن هذه الملاحظة تنطبق على معظم التاريخ المعاصر، إلا أنها على واقعنا الحالي أقوى انطباقا. وما هذا الواقع إلا نتيجة للقفزة النوعية التي حصلت في مجال الهوس الشعبي والرسمي بالرياضة منذ أن انتقلت معظم الرياضات من نطاق الهواية المتجرّدة من الحسابات والمصالح (أي الهواية التي تأتي في مرتبة ثانوية بعد معظم مناشط الحياة) إلى دنيا الاحتراف المصلحي الذي حولها إلى بزنس يخضع لكل شرور الرأسمالية والمضاربة والدعاية والنجومية المُشطّة إلى حد الشبه بالوثنية.
ولكن طغيان بزنس الرياضة حاليا، بسلطان المال الوفير والمشهد الأخاذ، لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة أصيلة، هي أهمية الرياضة في تجربة الوجود الإنساني، وجاذبية المنافسات والمسابقات الرياضية في حياة الجماعات والأمم منذ قديم التاريخ. وما النجاح الجماهيري الكبير الذي حققته الألعاب الأولمبية في باريس هذا الشهر إلا أحدث مثال. بل إنه يجوز القول إن الرياضة قد تكون هي الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يشيع في الجماهير روح الفرح العفوي. وينطبق هذا الأمر على جميع الأمم، سواء منها المحظوظة بنعمة الديمقراطية الليبرالية أم المنكوبة ببَلِيّة الظلم والاستبداد. بل إن الفرح في الحالة الثانية ألح وأقوى. ذلك أن ثمة من الأمم من ليس في حياتها إلا القهر والفقر والخوف واليأس. خذلها أهل السياسة والاقتصاد، فلم يبق لها من عزاء إلا في بعض أهل الرياضة يشيعون أملا ويَعِدون بنصر. فإذا جاء النصر كان جامعا للشمل الوطني، كأنهم ينتصرون لشعبهم قبل انتصارهم لأنفسهم.
ما النجاح الجماهيري الكبير الذي حققته الألعاب الأولمبية في باريس هذا الشهر إلا أحدث مثال. بل إنه يجوز القول إن الرياضة قد تكون هي الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يشيع في الجماهير روح الفرح
ولكن الحقيقة الملازمة لاحتمالات الفرح الشعبي هي أن الرياضة قد تحولت إلى مشهد على الشاشة، فانتقلت عموما من عالم الجهد البدني إلى عالم الثقافة الجماهيرية. وتتجلى هذه الحقيقة أقوى التجلي في كرة القدم. ولهذا فإن باحثي علم الاجتماع يسمونها بـ«الواقعة الاجتماعية الكلية». ومن أبرز تناقضات الرياضة المشهدية الفُرجوية أنه لم يسبق للرياضة أن بلغت في كامل تاريخ الإنسانية ما بلغته في عصرنا هذا من أهمية وشعبية، ولكن رغم ذلك فإن عدد المصابين بالسمنة وما يتعلق بها من أمراض، خصوصا بين المراهقين والشباب، هو اليوم أعلى من أي عصر مضى! وهذا من العلامات على أن الرياضة الفرجوية تلبي حاجة مركزية لدى مجتمعاتنا الحضرية الخاملة، حيث لا تتيح مشاغل العمل ومقتضياته للإنسان المعاصر مجالا واسعا للنشاط البدني.
وفي خضم هذه الشروط الاجتماعية الحديثة نسبيا (لأن ظهورها بدأ في مطلع القرن العشرين) يبقى السؤال المهم: لماذا تميل الجماهير العريضة إلى مشاهدة عدد قليل من الأفراد يمارسون الرياضة؟ سؤال تصدى له المفكرون والفنانون منذ القديم. إذ يرى الشاعر الروماني جوفنال أن الرياضة هي أفضل أداة بيد النخبة السياسية للحفاظ على الحكم ومنع التحركات الشعبية، وهكذا فإن شعب روما، الذي كان الملوك في الماضي يأتمرون بأمره، قد ارتضى أن يصير عبدا للملذات المفسدة. وهو صاحب القولة الشهيرة: كل ما تحتاجه العامة هو «خبز ومصارعون!». ويرى برغسون أن مشاهدة الأحداث الرياضية هي تأمّل في قدرتنا على التحرر من الإكراهات الجسدية، بينما يقول دوريان أستور إن افتتان الناس بالأحداث الرياضية (العقدة) إنما يعزى إلى اللا-يقين بشأن نتيجتها (الحل). إذ يتألم المشاهد في انتظار النتيجة ولكنه يعرف أنه سيكون لهذا اللا-يقين نهاية في وقت معلوم، بحيث تكون الرياضة بهذا المعنى أداة لبث الطمأنينة في الوجود الإنساني المبتلى بالقلق والحيرة. أما أندري كومت-سبونفيل فيقول إن الأحداث الرياضية تمثل مواجهة بين أخلاقيتين: أخلاقية القدماء الأرستقراطية التي تمجّد الأفضلية والامتياز، وأخلاقية المعاصرين الديمقراطية الحقوقية التي تكرس المساواة بين الجميع. ولكن إذا كان البشر متساوين، فما هو معنى الشعار الرياضي «ليكن الفوز من نصيب الأفضل»؟ الجواب هو أن البشر متساوون في الحقوق والكرامة، ولكن ليس في الفعل والقيمة. وميزة الرياضة أنها مجال لتفاعل الأخلاقيتين، حيث يتواجه المتنافسون على قدم المساواة لتحديد من هو الأفضل. ولهذا فإن روح التنافس الرياضي إنما هي أخلاقية أرستقراطية و«نخبوية جمهورية» متاحة للجميع.
كاتب تونسي
bravo bon article