تَختلفُ ظروف الكتابة من كاتب إلى آخر، ومن نص إلى آخر. لكن عندما يتعلق الأمر بظرف عالمي، فإن كل كاتب يتعامل معه انطلاقا من تصوره ونظرته الخاصة. جائحة كورونا ستؤثر بشكل أو بآخر على الأدب، ستدفع الأدباء إلى خلق نصوص وشخصيات مسجونة بإرادتها في الحجر الصحي، لأن الأدب هو الوحيد القادر على رسم ملامح الجائحة ومعاناة الفرد بدقة متناهيةٍ. فروائع الرواية المعاصرة تقول الكثير عن الإنسان والطبيعة، أكثر من الأعمال الجادة للفلسفة والتاريخ والنقد، كما قال إميل زولا. نعيش اليوم ظروفا غير عادية، ربما تشكل إطارا مرجعيا فريدا من نوعه للكاتب، فلطالما كان الأدب يتطرق للأوبئة، وقد كُتبت روايات وبائية عظيمة مثل رواية «الطاعون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو. هذا الوباء سيعطي بالتأكيد روايات عالمية، فأي شيء يزعج العادات ويخلق نوعا من الاضطراب في الحياة اليومية للإنسان، جيد كمادة خامة للأدب.
إن الوباء، مثل الحرب، يعيدنا إلى التفكير في الإنسان، في الأساسيات التي تشكل نمط حياته، في سُبل النجاة من ظل الموت، الذي أصبح يخيم في عقولنا بطريقة لا إرادية. عندما يضرب الوباء، ينتهي زمن الترفيه والعبث، بالمعنى الذي حدده بليز باسكال: «كل شيء يبعدنا عن حالتنا الطبيعية». بالنسبة لنا كجيل لم يعرف الحرب، كما عَرفها كتاب من قبيل ألبير كامو، صمويل بيكيت، إرنست همنغواي، شلوخوف، جورج أورويل، كاميلو خوسيه ثيلا وغيرهم، فإن الوباء هو تذكير مؤلم بالواقع: إنه يذكرنا بالموت الذي واجهه هؤلاء الكتاب.
ربما تُصبح كورونا من العجائب التي ستميز القرن الواحد والعشرين، لأننا لم نشهد شيئا مخيفا مثل الذي يحصل اليوم، لذا، لدى الكاتب الفرصة للتفكير في الوفيات التي يحجبها العالم الحديث، لديه الفرصة للتعبير عن تصوره وفلسفته ككاتب يواجه الجائحة. قد تكون الجائحة فرصة لقراءة «البحث عن الزمن المفقود» لأن الرواية تشبه الحجر الصحي نظرا لطولها، وكما قال أناتول فرانس «الحياة قصيرة جدا وحياة بروست طويلة جدا، لذا علينا قراءة روايته لأنه ليس لدينا المزيد من الأعذار».
قد يكون الشعر دواء الخوف الذي يعيشه الإنسان اليوم، وقد تكون الرواية غرفة فرجينيا وولف السحرية، التي تنسيه كل المعاناة اليومية. للأدب القدرة على تحرير الإنسان، ومنحه سُبُل النجاة ولو بطريقة رمزية. فما الذي يدفع الإنسان للكتابة، إن لم تكن لديه رغبة في الانتصار على خوفه. الجائحة تشبه السراب الذي يُقيّدُ حركة مخيلة الكاتب، الضباب الذي يحجب عنه الرؤية لفترة من الزمن. وفي هذا السياق تعتقد الروائية سُعاد حمو عمر، أن وباء كورونا وما أحدثه في المجتمعات، سوف يفرض نفسه على سلوكنا مستقبلا. وتضيف قائلة:» إن الإبداع الإنساني لن يسلم من هذا التغيير، فكما يقولون الألم الذي تشعر به اليوم، سيصبح القوة التي تشعر بها غدا. هذه المقولة هي انعكاس لما يحدث معنا نحن الكتاب، إن لم أكن قد أقحمت نفسي في هذه الدائرة. فمن خلال تجربتي المتواضعة والبسيطة أستمد كتاباتي من رحم المعاناة ومعايشة المآسي، وكذلك من لحظات الفرح والسعادة، لأنها في نظري أحد أهم الدوافع لولادة الإبداع. وكما هو معلوم وملموس، فإن هذه الجائحة ستدفع بالأقلام إلى الخروج عن ما تعانيه من رتابة، والدخول إلى عالم جديد وأفق أوسع. ومن البديهي أن تصبح هذه الجائحة مدادا لكتاباتي، طالما أن الأدب والإبداع بكل أشكاله هو ابن واقعه وزمانه – وإن كان يحملنا أحيانا إلى الماضي، فإنه سيغلب على الإبداع بعد هذه الجائحة من الناحية النفسية، مسحة حزن، خوف وقلق، وربما سوداوية ناتجة عن الوحدة ونمط الحياة الجديدة».
الروائية محقة في تصورها، لأن الأدب يتأقلم مع جميع الظروف، ويصبح تلك المرآة التي تعكس هموم الإنسان، ولاشك في أن الروائيين والشعراء سيعملون على إنتاج نصوص مستوحاة من الجائحة. قد يأخذ أدب الجائحة بعدا فلسفيا، لأن الأمر متعلق بفعل التخيل الناتج عن واقع معيش. هناك من يجد في الحجر فرصة للكتابة، وهناك من يستغل الفرصة للتأمل في واقع الإنسان الحديث، تأمل ينطلق من تساؤلات فلسفية عميقة.
يعتقد أنطوان كومبانيون أن هذه الجائحة ستدفع الأدباء لخلق مختبر خيالي، يمكن من خلاله تحقيق تطلعات الفرد أو المجتمع الذي يتصارع مع الحاجة إلى تحقيق المثل الأخلاقي، مهما كانت الحقيقة المعيشية، المأساوية أو العادية. كيف يسمح لنا الأدب بتخيل مصير الإنسان في ظل الوباء الحالي؟ عندما يضرب الوباء، غالبًا ما يدعونا الكتّاب إلى إعادة رسم أفكارنا حول حدودنا، ولاسيما تلك التي تؤثر على الهيمنة السياسية على العالم. لا ينتشر الوباء فقط كفيروس، ولكن كجرثومة تسبب دمارا اجتماعيا عميقا. ويضيف كومبانيون أنه في الصفحات الأولى من «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» أكد الفيلسوف ميشيل فوكو، من خلال العديد من الأمثلة الأدبية، أن الأوبئة تشكل تلك الظاهرة القادرة على تحطيم أحلامنا الحداثية. لطالما كانت الوحدة والعزلة من أهم شروط الكتابة، بحيث كان ينعزل الكتّاب من تلقاء إرادتهم. أما الآن فهم في عزلة لاإرادية، فرضتها ظروف الحجر الصحي، هل ستكون الأزمة الحالية جزءًا من أعمالهم المستقبلية؟ هل ستغزو الأعمال الروائية حول الفيروسات التاجية المكتبات؟ مما لا شك فيه حسب كومبانيون، سيعتكف الكتاب على سرد أيامهم في ظل الحجر، سيخلقون نصوصا خيالية تعكس شعورهم وشعور من حولهم.
الأدب الذي يولد من صلب المعاناة، حسب نرجس العطار، ينير لنا شمعة في العتمة التي تلفنا ويعتقنا من القيود التي تكبلنا، ولا شيء أقسى على إنسان القرن الحادي والعشرين من أن تستلب حريته، وتضيق دائرة اختياراته، وتطوق عاداته.
لا يتوقف كومبانيون عند هذا الحد، بل يؤكد أنه إذا كانت هناك مهنة واحدة يبدو الحجر فيها شرطًا جوهريًا، فهي حالة الكاتب: هذا الكائن، بالنسبة لهمنغواي «ينجز عمله في عزلة» ينتقل إلى مكتب الكتابة الخاص به بمجرد الانتهاء من الترويج لآخر أعماله. هل ما زلنا نكتب بالطريقة نفسها خلال فترات الحجر المفروض، عندما يصبح الوصول إلى الخارج مجرد لمحة من النافذة، أو عبر وسائل الاتصال؟ العديد من الأعمال الأدبية كتبت في حالة من العزلة، فطوال الأربعة والسبعين عامًا من وجوده، أمضى ماركيز دي ساد سبعة وعشرين سنة سجينًا. فيلون، ثورو، أبولينير، دوستويفسكي وغيرهم، كتبوا أعمالهم في العزلة وأصبحوا من أهم كتاب العالم شهرة.
تشكل العزلة فرصة للكتابة والتأمل في أعماق الذات. الشيء نفسه ينطبق على الحجر الصحي، فهو نوع من العزلة غير المرغوب فيها، لكنه يقلل من الإغراءات ويجبر الذات الكاتبة على البحث عن سبيل لتجاوز ثقل الزمن، وبالتالي تصبح الكتابة المخرج الوحيد، والطريقة الأنسب للتأقلم مع أسلوب الحياة الوبائية (أنظر مقالة كومبانيون على موقع كوليج دو فرانس).
يرى الروائي الشاب عاصم العبوتي، أن المهمة المنوطة للكاتب هي طرح الأسئلة دوما في إنتاجاته الإبداعية، ويرزح كما غيره تحت وطأة العزلة، ولهذا تأتي الكتابة كخيار مهم. ففيروس كورونا الذي جثم كصخرة سيزيف على صدور الجميع، جعلهم يفقدون تلك القدرة التي تربطهم بالحياة. إن الكاتب ذات، كائن بشري يتفاعل هو الآخر داخل منظومة المجتمع، لذلك فهو الآخر يعيش عزلة؛ لكن هذه المرة ليست اختيارية، بل فرضها قانون الطبيعة، لذلك وجد نفسه فاقدا لحرية التنقل التي كانت تتيح له إمكانية أن يبدع بشكل أفضل. يُعَرّف عاصم العبوتي الكتابة على أنها: «سفر في الماضي والحاضر، واستفزاز للقديم ورؤية للمستقبل، وهي كذلك تحتاج إلى سفر جسدي، معه تتشكل الرؤى وتتغذى القريحة وتنساب الأفكار». ويضيف: «في زمن كورونا أشعر بأن الحياة قد توقفت وأضحت الكتابة بمثابة اجترار للمواضيع وسقوط في رداءة اللغة وفخامتها، لكنني مع هذا آليت على نفسي أن أستمر في تسلق جذوع كتابي الأول وقطف أغصان صفحاته، وتنقيتها من شوك الركاكة. إن الفيروس أقض مضجع البشرية، وغيّر عاداتهم وأثر في نفسياتهم، سلب مني حماس الإبداع الذي كان في مجالٍ وأفرغه في مجالٍ آخر».
في حين يعتقد القاص أحمد شرقي أن الطقوس المقدّسة في الكتابة تختلف من كاتب إلى آخر، فهو يرى في الاختلاء بالذات فرصة لإفراغ مكنوناتها، وإعادة تشكيل رؤية جديدة للعالم، بعيدا عن النمطية، قريبا من الجمال والتفرد. فهو على حد قوله، لا يستطيع الكتابة في الأماكن العمومية كالمقهى مثلا، ويفضل العزلة كشرطٌ أساسي للإبداع، مستندا إلى تصور فيرجينيا وولف. يستشهد أحمد شرقي أيضا بمجموعة من الكُتّاب العظماء، الذين كانت العزلة قسرية أو اختيارية، سببا في إنتاجاتهم، كفيكتور هوغو، الذي عاش سنوات الاغتراب والمنفى، هاربا من بلد إلى آخر في عهد نابليون، في ظل هذا الاضطهاد أبدع روايته «البؤساء» وغيرها من القصائد كديوان «التأملات» وديوان «أسطورة العصور» بالمقابل، نجد كُتّابا عاشوا عزلة اختيارية، كفرانز كافكا صاحب رواية «المسخ».. وفرجينيا وولف وغيرها من الأسماء. يقول ارنست همنغواي «ابتعادنا عن البشر لا يعني كرها أو تغيّرا، العزلة وطن للأرواح المتعَبة». هي بالفعل، نزوحٌ لأرواح متعبة إثر التكرار والاجترار والآلام التي يعيشها العالم، في اتجاه وطن اسمه العزلة، رديفة الإبداع. ويؤكد أحمد شرقي أن فيروس كورونا، أعاد الحياةَ لعلاقات العديد من الكُتّاب المبدعين بالكتابة والكتاب، وكان فرصةً لولادة مشاريع كتابية وقرائية ظلّت مؤجلة زمنا، وهو ما لا ينطبق على حالته؛ فقد ساهمت طبيعة عمله، بشكل يومي في الشارع العام، طيلة أيام الحجر في تأجيل كل تلك المشاريع، إذ واجه الكاتب صعوبة كبيرة في الجمع بين العمل اليومي والشغب القصصي.
أما الروائية نرجس العطار فهي تنطلق في تفسيرها لما يعيشه الكتّاب اليوم من سؤال ما الأدب؟ وتعتبره سؤالا يضرب بعمقه في جذور تاريخ الفلسفة ما إن نعرّفه بوصفه تجربة أنطولوجية ذاتية من جهة وكونية مشتركة من جهة ثانية، إذ تتبدى لنا قدرته العجيبة على التعبير عن مكنونات النفس البشرية، ذلك أن ما يجعل للأدب هذه الخاصية هو كونه محايثا لآلام وآمال الإنسانية في الوقت نفسه. فرواية «الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز مثلا، تأخذنا في رحلة متخيلة لزمن الوباء، لكننا رغم ذلك نخرج أحياء منها، و«طاعون» ألبير كامو لا يقتلنا، وفي «حرافيش» نجيب محفوظ أحدنا ينجو، لماذا؟ لأن الأعمال الأدبية بكل بساطة بمثابة اللقاح الشافي من الأسقام، وكما سائر اللقاحات فهي تهاجم مناعتنا العاطفية، لكنها في المقابل تبني مناعة فكرية منقطعة النظير.
إن الأدب الذي يولد من صلب المعاناة، حسب نرجس العطار، ينير لنا شمعة في العتمة التي تلفنا ويعتقنا من القيود التي تكبلنا، ولا شيء أقسى على إنسان القرن الحادي والعشرين من أن تستلب حريته، وتضيق دائرة اختياراته، وتطوق عاداته، لذلك تعتبر العطار أن المنفذ لا يكون إلا بالقراءة – قراءة الأدب والفلسفة على حد سواء، ما دمت لا تستطيع فصلهما عندما يتعلق الأمر بما هو وجودي في المقام الأول. كيف يمكن مواجهة الألم والخوف والقلق بالقراءة ؟ ترى نرجس العطار أنه عندما نقرأ مشاعرنا التي لم نقدر يوما أن نعبر عنها بين ثنايا كتاب، ولا حتى أفكار لم نستطع قط أن نفصح عنها. وتفسر هذا الأمر بقولها: «ذلك الغير الذي يشبهك عبّر عن تلك الأحاسيس، وأفصح عن تلك الأفكار المخيفة والمخجلة والتابوات والسياسية، بشجاعة، كتبها عوضك كي يريحك ويحررك، وستعلم في الأخير أنك لست لوحدك وهذا ما يعزينا جميعا».
٭ كاتب وباحث مغربي
مع كل التقدير للاديب و الادب الا ان الفاعل الاول في مسرح الانسان يبقى هو السياسي
–
منه تبعث الالم و اللذة الجائخة استاذ عثمان بوسطان في حاجة اكثر لرجل العلم و اقصد
–
المعني بالصحة و للاسف الفاعل السياسي ركل العالم للخلف مدفوعا بالجشع و الاقتصاد
–
الجائحة في حاجة لرد الاعتبار لبعض الاولويات منها قطاع الصحة في حاجة للقاح و دونه
–
سيظل الخوف و فقدان الايمان بالكل حتى الاديب و الادب فهل ينتهي الفاعل السياسي من
–
حمقه ليريح الانسان من حماقاته
–
تحياتي