لا يعرف تاريخ الأدب الروسي والعالمي إلا قِلة من الكُتّاب الذين تأججت حولهم المشاعر ـ سواء أثناء حياتهم أو بعد مماتهم ـ بقدر ما تأججت حول حياة تولستوي وإبداعه وآرائه ومواقفه. وظل في قلب الحياة الفكرية في عصره نصف قرن، واستمر في إثارة عقول وقلوب النخب الثقافية في العالم حتى يومنا هذا. لا يزال مؤلف «الحرب والسلام» و»آنّا كارينينا» كاتبا معاصرا ـ فالعديد من وجهات نظره حول المشكلات الاجتماعية والثقافية والفكرية الأساسية، تبدو كما لو كانت مكتوبة اليوم.
صدر خلال السنوات الأخيرة العديد من الكتب المكرسة لسيرة تولستوي، لعل أهمها كتاب الناقد والمؤرخ الثقافي الروسي أندريه زورين الأستاذ في جامعة أكسفورد «ليف تولستوي: حيوات عصيبة» الصادر عام 1920 باللغة الإنكليزية، وقد ترجمه المؤلف إلى اللغة الروسية في العام ذاته، وصدر تحت عنوان «ليف تولستوي: تجربة قراءة». لقي الكتاب صدى واسعا في الأوساط الأدبية الغربية والروسية على حد سواء. كتاب زورين محاولة لاستكشاف مناطق جديدة تماما لقول شيء أصيل حول موضوع يبدو أنه تمت دراسته من جميع الجوانب.
هذه السيرة الجديدة الموجزة والجذابة – التي تقع في حوالي 200 صفحة ونيف – تجسّد ببراعة التطور الأدبي لتولستوي، وتحدد أوجه تشابه مثيرة للاهتمام بين رواياته والحياة الخاصة للكاتب. ويتكون من أربعة فصول موثقة على نحو كثيف ومكتوبة بشكل جميل: يتيم طموح، عبقري متزوج، مرشدٌ ديني وحيد، شخصية شهيرة هاربة .
رمزيا، يبدأ السرد بذكرى تولستوي الأولى ـ وهو يكافح في القماط الذي يمنعه من الحركة ـ وتختتم بكلماته الأخيرة: «سأذهب حيث لن يجدني أحد أو يزعجني». وبين البداية والنهاية يتجلى مصير رجل يتميز بالرغبة في تحرير نفسه – وتحرير الآخرين – من القيود المختلفة التي تكبحه: الشهوة، وحب الذات، والالتزامات بجميع أنواعها، والأعراف الاجتماعية، والاغتراب الاقتصادي، والشكليات الجمالية، إلخ. هذا الصراع مع النفس، يتخذ شكل رحلة مرهقة، «حياة دموع ورحيل ورفض». يميز زورين بين ثلاث حقب في حياة تولستوي – العازب (1828-1862)، الزوج (1862-1879)، مسيحي متحول (1879-1910). ضمن الفصول، يواصل المؤلف السرد دون الالتزام بالترتيب الزمني من أجل إعطاء لمحة موجزة عن العالم الداخلي للكاتب. يروي زورين في «يتيم طموح»، قصة وفاة والدي تولستوي بعد سنوات قليلة من ولادته، حيث تولت «عماته تربيته. انتهت مراهقته في قازان بتعلم الحياة الجنسية، وهو موضوع يؤكد زورين أهميته طوال الكتاب. حدث أول تحول في حياة تولستوي في عام 1847، عندما ترك الجامعة لتولي إدارة ممتلكاته في ياسنايا بوليانا، التي يعيش فيها بعض الوقت من حين إلى آخر. وبقية الوقت يلهو ويقامر في موسكو. وعندما تراكمت عليه الديون، هرب من دائنيه، والتحق بجيش القوقازعام 1851، حيث عاش الحرية الكاملة لمدة عامين.
بعد نشر ثلاثية « الطفولة والصبا والشباب»، أصبح تولستوي كاتبا معروفا في الأوساط الأدبية في العاصمة، وقد أصابته هذه الحياة بالملل، فقام بتغييرها هذه المرة ليكرس نفسه لتعليم الفلاحين في أرضه. في نهاية خمسينيات القرن التاسع عشر، بدأ نمط يتكرر في حياة تولستوي: التعاسة، هجر الأدب، النشاط التعليمي، بداية رواية أخرى.. وقد أسيء فهم موقفه، وبلغ هذا ذروته عندما غادر إلى أوروبا عام 1860 لدراسة طرق التدريس فيها. وبعد عودته، أغضبت مجلته التعليمية «ياسنايا بوليانا» الراديكاليين والمحافظين على حد سواء. وخضعت المجلة للرقابة، وتم تفتيش منزله في غيابه، وهي تجربة كان لديه ذكريات مريرة عنها. حتى أنه فكر في الهجرة، لكنه غير رأيه في ما بعد.
يبدأ الفصل الثاني «عبقري متزوج» بسرد لقاء تولستوي وزواجه من صوفيا بيرس. ويقارن زورين قصة هذا الزواج – التي تميزت بتبادل الرسائل المشفرة والقراءة المتبادلة لمذكرات الزوجين – مع بداية الحياة الزوجية لليفين وكيتي في «آنا كارنينا». ومن خلال هذا التوازي لا يسعى المؤلف إلى تفسير الرواية من خلال التجربة المعاشة، بل إلى قراءة التجربة المعاشة في الرواية. يبين لنا كاتب السيرة هنا تحت أي ظروف، وإلى أي مدى يمكن عكس العلاقة المعرفية بين الحياة والإبداع. يؤكد زورين الدور المحفز للزواج في العودة إلى الأدب، الذي منح تولستوي الاستقرار العاطفي والانضباط اللازمين، لإكمال مهمة طويلة الأجل. الزوجة الملهمة، المتعاطفة، حاضرة طوال فترة كتابة «الحرب والسلام»، وكذلك شقيقتها تانيا، إحدى نماذج شخصية ناتاشا. وقد وفرت «الحرب والسلام» للزوجين الاستقرار المالي.
في «مرشد ديني وحيد»، يتحدث زورين عن انغماس تولستوي في الأمور الدينية بعد نشر رواية «آنا كارنينا» قبل العودة إلى قضية الشعب. لا يركز زورين كثيرا على التسلسل المنطقي الذي يقود تولستوي من المسيحية إلى «الشعبوية»، ويعتقد أن الدافع الذي سبق كتابة «ماذا علينا أن نفعل» يكمن في ظرفين ملموسين ـ اغتيال القيصر الكسندر الثاني، واقتناء الزوجين منزلا في موسكو ـ وليس في حرصه على التوفيق بين عقيدته الاجتماعية ومذهبه اللاهوتي. ومن ناحية أخرى، يلاحظ الباحث وجود استمرارية نفسية بين رواية تولستوي «الحرب والسلام» ومناشيره السياسية: «عندما كان يجلس إلى مكتبه، طور قدرة فريدة على تقمص شخصية إنسان آخر وفهم روحه». هذه القدرة نفسها شلت فيه عمل آليات الدفاع المعتادة التي تجعلنا غير حساسين لمحن الآخرين. وهذا الضعف عزل الكاتب عن عائلته. توترت العلاقات مع زوجته عندما وقف تولستوي في كتبه ضد مؤسسة الزواج، ودعا إلى العفة التي لا يستطيع تطبيقها على نفسه.
نهج جديد
صاغ المؤلف منهج بحثه الخاص، الذي يختلف تماما عن منهجية أسلافه – المتخصصين في سيرة تولستوي وأدبه – من رافائيل لوينفيلد مرورا بفيكتور شكلوفسكي وحتى بافل باسينسكي- حيث يقترح اعتبار حياة تولستوي وعمله حبكة واحدة أو قصة واحدة بطلها هو الروائي. ويكتشف منطقا صارما في الأحداث التي تبدو عشوائية في سيرته. يؤكد زورين في الديباجة «أن أعمال الكتّاب والمفكرين العظماء لا تعكس حياتهم كثيرا بقدر ما تشكلها». ومن خلال اختيار الحقائق والاقتباسات بمهارة من نثر تولستوي ومذكراته، يبني المؤلف صورة حية للغاية للشخصية الرئيسية – الأخلاقي الذي قضى حياته كلها في محاولة كبح حياته الجنسية، والمفكر الذي خالف القواعد دائما وأصبح الأكثر تأثيرا في عصره. كتاب زورين عرض متماسك لشخصية تولستوي بأكملها. ولا يعود إلى الثنائية المألوفة عند النقاد، التي تفصل بين تولستوي الفنان وتولستوي المفكر. كان تولستوي نفسه مدركا تماما لهذا الصراع الداخلي بين الفنان والمفكر، وحاول بعد ذلك التوفيق بينهما. وعلى خلاف العديد من النقاد الذين كانوا مهتمين للغاية بتكييف هذا النموذج الثنائي، يتجنب زورين ذلك من خلال تقديم تولستوي كمجموع لجميع أنشطته المتنوعة – الروايات والمقالات والمراسلات، تعاليمه الشفهية، وكتاباته الدينية، وسلوكه وأفعاله المباشرة، وحتى مشاحناته العائلية – التي تم دمجها بسلاسة في سيرة حياته.
إذا كان مسار تولستوي يبدو مليئا بالمنعطفات غير المتوقعة من طرف إلى نقيضه، فإن كتاب زورين يظهر أن كل منعطف لم يكن سوى مظهر من مظاهر المنطق الداخلي لوجوده. وفي ضوء ذلك، فإن الأزمة الروحية التي عاشها تولستوي عام 1878، عندما رفض كل قيمه السابقة تقريبا، ليست مفاجئة: فقد كان هذا التحول تتويجا للبحث المستمر عن معنى الحياة والموت، والتأمل العميق في الذات.
هل كان تولستوي مفترسا جنسيا؟
يعد الانشغال بالجنس والموت جانبا مهما في سيرة تولستوي، ويصور زورين الكاتب باعتباره مفترسا جنسيا يكره نفسه بسبب شهوته الجنسية، ويبذل قصارى جهده للقضاء عليها. لم يخف تولستوي أبدا علاقته المعقدة برغباته الجنسية، وتروي مذكراته كل ذلك بالتفصيل. انتهت التجربة الجنسية الأولى للكاتب المستقبلي بالدموع. ويتذكر قائلا: «عندما أحضرني إخوتي إلى بيت الدعارة لأول مرة، وارتكبت هذا الفعل، وقفت بجانب سرير هذه المرأة وبكيت».. بعد مغادرة قازان، في سن التاسعة عشرة، انغمس تولستوي الشاب في مغامرات غرامية. «لا أستطيع التغلب على الشهوانية، وعندما كان في الرابعة والعشرين اعترف الكاتب في مذكراته «أحتاج إلى امرأة»، ثمّ كتب لاحقا «لم يعد هذا مزاجا، بل عادة من الفجور. كنت أتجول في الحديقة بأمل غامض ومثير للرغبة في الإمساك بشخص ما في الغابة». قبل الزواج، تمكنت الخادمات والفلاحات وسيدات المجتمع والنساء المتزوجات من التعايش في قلب تولستوي الشاب، ولكنه بعد اقترانه بصوفيا أندرييفنا أصبح زوجا مثاليا مخلصا وعاش معها ما يقرب من نصف قرن. ويطرح زورين موضوع افتتان تولستوي بالرجال من خلال سطور مزعومة من مذكرات الكاتب، ويقول إنه في نهاية حياته، اتهمت صوفيا زوجها العجوز بإقامة علاقة مثلية مع سكرتيره الشخصي فلاديمير تشيرتكوف. ولكننا، لم نجد أي مؤشر على مثل هذا الارتباط في يوميات تولستوي نفسه ويوميات زوجته صوفيا ومذكرات المقربين منهما. ومن المعروف أن علاقة صوفيا بتشيرتكوف باتت متوترة للغاية في السنوات الأخيرة من حياة تولستوي. وحاول تشيرتكوف بكل الطريق الممكنة تقويض سلطتها، داعيا تولستوي إلى كتابة وصيته وحرمان زوجته وأولاده من ميراثه المادي والفكري، وأقنعه بالهروب من منزله وهو ما حدث في الواقع، ما أدى إلى وفاته على نحو دراماتيكي.
«ويبدو أن تولستوي كان مفتونا بسر الموت. ففي رسالة إلى سيرغي، شقيقه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، وصف انطباعه عن «التعبير المبهج والهادئ «للوجه الساحر» لأخيه المتوفى، الذي تحرر أخيرا من معاناة لا تطاق. في ضوء ذلك، يصبح من الواضح أن الإبداع بالنسبة لتولستوي كان نوعا من محاولة العيش. ومع وجود القلم والورق بين يديه، كان بإمكانه دائما إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستعادة الأحداث التي كانت مهمة بالنسبة إليه. هذه القدرة ترجع فقط إلى مهارات الكتابة الفعلية التي واصل تولستوي صقلها. سيتم تقديم الموت أكثر من مرة كأعلى نقطة في الحياة، لكن هذا لا يلغي الخوف من الفناء. «وفقا لتولستوي، فإن قدرة الكائن الحي على قبول الموت والتصالح معه تتناسب عكسيا مع وعيه بتفرده». ويقتبس زورين فقرات من كتّاب سيرة تولستوي الذين وصفوا زواجه بالمأساة، وكأنه طاغية في منزله، وركزوا على مواقفه المزعومة الكارهة للنساء، وإصراره على الولادة الطبيعية والرضاعة الطبيعية، ورفض تخدير زوجته التي كانت تتألم أثناء الولادة، والتي أنجبت له ثلاثة عشر طفلا. ودافع البعض عن صوفيا أندرييفنا، في حين أشار آخرون إلى حقيقة مفادها أنها في وقت لاحق من حياتها لم تعد تحتفظ بصورتها الملائكية التي بدت عليها في حفل زفافها في سن الثامنة عشرة، وأنها أصبحت أكثر تعصبا وتحكما مع مرور الوقت. وكانت صورة «الزوجة المثالية للكاتب العظيم من صنعها إلى حد كبير». ولكن الحقيقة ليست بهذه البساطة، بل أعمق وأعقد من ذلك بكثير.
تزوجت صوفيا أندرييفنا بيرس ليف تولستوى عام 1862 رغم الفارق الكبير في السن – في ذلك الوقت كان عمر العريس ضعف عمر العروس، التي كان عمرها 17 عاما- نشأت صوفيا بلا هموم فى كنف أبيها أندريه بيرس طبيب الأسرة القيصرية الذي عاش مع أسرته في شقة حكومية داخل الكرملين. بعد الزفاف، انتقلت صوفيا أندريفنا من موسكو إلى ياسنايا بوليانا. بدت الحياة الريفية مملة للفتاة النشيطة، لذلك وجدت أنشطة لنفسها – العزف على البيانو والقراءة والرسم.. خلال هذه الفترة، تواصل الزوجان كثيرا مع بعضهما بعضا. وفقا لمذكرات صوفيا أندرييفنا نفسها، كانت تحت تأثير زوجها تماما – «نظرت بعينيه وفكرت بأفكاره». لم يعجبها ذلك دائما، وحاولت الدفاع عن شخصيتها المستقلة. ومع ذلك، كانت هذه الفترة هي الأسعد في علاقتهما. بالتوازي مع الأعمال المنزلية، قامت صوفيا أندرييفنا بنسخ أعمال زوجها. كان حجم العمل هائلا – فقد أجرى تولستوي تصحيحات منتظمة على مخطوطاته. في وقت لاحق، أصبحت صوفيا أندرييفنا مدققة لغوية ونوعا من الوكالة الأدبية لزوجها، حيث كانت تتواصل مع لجنة الرقابة ودور النشر والطباعة. يتفق العديد من الباحثين على أنه من دونها لم يكن الكاتب ليتمكن من العمل بشكل مثمر. وفي الوقت نفسه، عانت صوفيا من عدم تحقيق ذاتها، كما يتضح من مذكراتها. وقامت بتأليف قصص وقصائد نثرية.
حتى إنها نشرت البعض منها في إحدى المجلات الأدبية في العاصمة تحت الاسم المستعار «متعبة». ومع ذلك، لم يكن لديها ما يكفي من الوقت والطاقة لتنغمس بالكامل في إبداعها، الأمر الذي كانت قلقة للغاية بشأنه. كلما زادت المسؤوليات التي تحملتها صوفيا لإدارة شؤون زوجها الأدبية، زاد ابتعاده عن الحياة الأسرية والكتابة. انغمس تولستوي تماما في خلق تعاليمه الدينية والفلسفية الخاصة، التي أطلق عليها أتباعه «التولستوية». لم يكن لدى صوفيا وقت لهذه الأمور، التي كانت منفصلة تماما عن حياتها الحقيقية، المليئة بالعمل، والكتب ورعاية الأطفال والأحفاد. أزعج هذا تولستوي، الذي أخذ أفكاره على محمل الجد للغاية. لكن زوجته لم تفهم بعض أفكاره، ولم تقبل بعضها الآخر، وقابلت نيته في التخلي تماما عن الملكية والعيش على العمل البدني حصريا برعب واضح. تدريجيا، تدهورت العلاقة بين تولستوي وزوجته تماما – كانت وجهات نظرهما مختلفة جدا. ونتيجة لذلك، قرر الكاتب أن يعيش حياة العزلة والنسك.
في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1910، في الساعة الخامسة صباحا، هرب تولستوي من منزله ليلا – برفقة طبيبه الخاص، ثم انضمت إليهما ابنته ألكسندرا تولستايا. ترك تولستوي رسالة موجهة إلى زوجته: «رحيلي سوف يحزنك، يؤسفني ذلك، لكن أفهمي وصدقي أنه لم يكن بإمكاني فعل خلاف ذلك. وضعي في البيت أصبح لا يطاق. وإلى جانب كل الأشياء السيئة، لم يعد بإمكاني العيش في ظروف الرفاهية التي عشت فيها. إنني أفعل ما يفعله كبار السن عادة: يغادرون الحياة الدنيوية ليعيشوا في عزلة وصمت آخر أيام حياتهم.
دامت رحلة تولستوي لمدة أقل من أسبوعين – وفي الطريق أصيب بنزلة برد، وتطور المرض إلى التهاب رئوي حاد، ما أدى إلى وفاته في محطة أستابوفو الصغيرة، في منزل رئيس المحطة.
كاتب عراقي