هل بوسع الدبلوماسي أن يكتب أدبا؟ في الماضي عرفنا الكثير من الكتاب الذين شغلوا مناصب سفراء أو قناصلة، من بينهم أوكتافيو باث، سان جون بيرس، بابلو نيرودا، وكذلك سامي الدروبي ونزار قباني، وكلهم اشتغلوا في سلك الدبلوماسية، لكن في السنين الأخيرة لم نعد نصادف هذا النوع من الكتاب، وهذا هو السؤال الذي ينطلق منه ميلان يازبيس، في كتابه «قوس القزح ما بعد الروح»، وهو الذي شغل منصب سفير لبلده سلوفينيا في أكثر من بقعة في العالم، كما خاض الكتابة في الأدب. وفي هذا الكتاب، الذي يجمع بين التخييل والتخييل الذاتي، يحاول المؤلف المقارنة بين العمل في الدبلوماسية والتفرغ ـ بالموازاة ـ للأدب، وكيف يمكن الجمع بين الطرفين. يكشف فيه أعباء العمل كسفير أو قنصل، وكيف يمكن ابتكار وقت من أجل التحرر من أعباء الإدارة، وتكريس الجهد في كتابة الأدب.
ويعرّف المؤلف عمله الدبلوماسي بأنه «ديناميكي جدا، متوتر ومثير»، ويضيف: «لكنه ممل في بعض الأحيان». بشكل يقلب الصورة التي ترسخت عن العاملين في الدبلوماسية، حيث يسود اعتقاد أن حياتهم يملؤها شغف وترحال في الأمكنة، وأن الضجر لا يتسلل إلى يومياتهم. لكن ميلان يازبيس يقلب هذه الصورة، ويقدم كشوفات مغايرة عن وظيفته ووظيفة أمثاله، حيث إن الملل واحد من أعمدتها. والسبب فيه هو تكرار الأنشطة نفسها كل مرة، حيث يقضي الدبلوماسي وقته في ممارسات الأفعال ذاتها كل مرة، من لقاءات واجتماعات، ومخالطة مسؤولين، أو أناس عاديين، بشكل يجعله يشعر بأن الوقت يتبدد في أمور متشابهة.
هذا الروتين يؤدي به إلى الكتابة، وهناك عامل آخر ينبه إليه المؤلف هو، أن الدبلوماسي عليه أن يقرأ كثيرا. كلما انتقل إلى بلد جديد، فلا بد أن يتعرف إليه من خلال القراءة. فلا تكتمل معرفة بلد من غير القراءة عنه، أو قراءة ما كتبه المنتمون إليه. بالتالي فإن فئة الدبلوماسيين هي أكثر الفئات نشاطا في القراءة. والملل تنضاف إليه كثرة القراءات، ما يحرض صاحبها على الكتابة، هذه هي المغامرة التي يحكي عنها المؤلف، الذي ينصح زملاءه بكثرة القراءة، إلى درجة التماثل مع البلد الذي يذهبون إليه، إلى درجة «ينتعلون أحذية أناسه»، كما كتب. وهذه القراءات من شروط الدبلوماسي الناجح، من أجل أن يفهم مخيلة البلد الذي يعمل فيه، «كي يصير قادرا على التنبؤ بالأحداث التي تؤثر على أفعالهم».
يتيح لنا ميلان يازبيس في كتابه طوافاً في حياة الدبلوماسيين، كيف يقضون يومهم وليلهم، كيف يعيشون في الخفاء والعلن، وكيف يقضون وقتاً طويلا في اجتماعات، في الغالب هي اجتماعات تتجاوز الوقت المحدد لها، لأن الوقت هو عدو العامل في هذا المجال، يستنزف طاقته، ويجعله غير قادر على التفرغ إلى شؤون الكتابة والأدب. هذه الاجتماعات من شأنها أن تستنفد طاقة صاحبها، وتبدد جهده في أمور هو في غنى عنها. ينصح المؤلف زملاءه في سلك الخارجية بإعادة النظر في تنظيم وقتهم، وعدم الانزلاق إلى مشاغل تترتب عليها مضيعة في الوقت والجهد. كما إن الدبلوماسي يواظب على مهنة أخرى، لا نراها بالعين المجردة، ولا يعرفها الشخص العادي، وهي وظيفة كذلك من شأنها أن تبتلع ما تبقى من أوقات فراغ، ونقصد منها كتابة تقارير، حيث يعلق المؤلف: «لا توجد دبلوماسية من غير كتابة تقارير».
هكذا تسير حياة العاملين في سلك الدبلوماسية، يقضون وقتا آخر في تدوين تقارير وإرسالها. وينصحهم يازبيس بتقارير قصيرة وموجزة، كي لا تخرج عن سياقها، ولا تصير عبئا على صاحبها. وكي لا تتحول مهنته إلى ملل، مع أن الملل شرط من شروط الانخراط في القراءة ثم الكتابة. الملل هو المحرك في العملية الإبداعية، شريطة ألا يتحول بدوره إلى عامل ضغط، بل أن يصير عاملاً منشطاً في العملية الإبداعية. لذلك على الدبلوماسي أن يكون حريصا في كتابة تقارير بما يفيد، من غير أن تتحول إلى مشقة، بالتالي مصدراً للتوتر وإلى استنزاف الوقت. ومن مهام الدبلوماسي الأخرى، التي يتغاضى عنها البعض، هي الاعتذارات. فليس من المعيب أن يعتذر عن حضور نشاط، أو يعتذر عن خرجة ميدانية، ما دام في الأمر منفعة من ورائها، وهي تكريس الوقت في شؤون الأدب والكتابة. فالاعتذار ليس عيباً، في حال الخروج في مهام لا يقتضي مصلحة.
فهذه وغيرها من توصيات ترد في كتاب «قوس قزح ما بعد الروح»، وهو كتاب ينفع كل المشتغلين في حقل الدبلوماسية، والباحثين في آن عن تفرغ إلى حياة أدبية، والراغبين في الفرار من أعباء المشاغل الإدارية، لأن الكتاب يوفر لهم ما يشبه الدليل، الذي يتيح لهم تفرغا من أجل موهبتهم أو من أجل من يحترف الأدب، في عالم تحكمه كثرة المشاغل، قلق ونرفزة، والقليل جدا من الوقت من أجل التفرغ للكتاب والكتابة.
وللعلم فإن ميلان يازبيس من أكثر الأسماء الدبلوماسية خبرة وتمكنا من شؤون الخارجية في أوروبا، فهو بروفيسور في الدبلوماسية في جامعة ليوبليانا (سلوفينيا)، تخرج من جامعة بلغراد من مدرسة الدبلوماسية، كما سبق أن عمل سفيرا لبلده سلوفينيا في جمهورية مقدونيا، وقبل ذلك فقد كان قنصلا في النمسا، وقضى سنوات موظفا ساميا في وزارة الخارجية، كما عمل نائبا للسفير وقائما بالأعمال في عدد من الدول الاسكندنافية، وخدم كذلك سفيرا لبلده في أذربيجان (وهي سفارة ضمت إليها تمثيلا في العراق، لبنان وسوريا وإيران)، وتجربته في الشرق الأوسط كانت من أخصب التجارب الدبلوماسية في حياته، مثلما ذكر، ولكن قبل ذلك كله، فقد عمل صحافيا، كما لديه مؤلفات أدبية، وأخرى علمية، فقد نجح في التوليفة بين الدبلوماسية والأدب، ما يؤهله لأن يقدم خلاصة هذه التجربة، ووصفات من شأنها مساعدة الدبلوماسيين الآخرين، في حال اطلعوا على كتابه «قوس القزح ما بعد الروح».
كاتب جزائري