تعمّد الروائي نزار عبدالستار في روايته «الأدميرال لا يحب الشاي» الصادرة عن «دار الساقي» إزاحة الكليشهات المتعارف عليها في الأعمال الروائية الدارجة، وتحقيق صدمة لمفاهيمنا الأخلاقية عن التجارة في موضوع يعد الأول من نوعه على مستوى الرواية العربية.
شخصية الأدميرال عزيز لانكستر، وهو من أصول عراقية وهندية، ولد وتربى في لندن ثم أرسله متبنيه الإنكليزي تشارلز لانكستر إلى الهند، كي يجني الثروات، باعتباره ابنا شرعيا لشركة الهند الشرقية البريطانية، التي بسطت نفوذها على منطقة البنغال في الهند، هذه الشخصية ذات الاطوار الغريبة، هي محور الرواية فبعد تاريخ طويل من الإجرام وقيادة تجارة الأفيون التي تصدّر خفية إلى الصين في خطوة لتدمير التنين النائم، نجد الأدميرال ينال عقوبة النفي إلى البصرة في جنوب العراق، ومن هناك تبدأ مرحلة جديدة في حياة الأدميرال، حين يقرر إجبار سكان البصرة على شرب الشاي بدل القهوة التي تحتكرها هولندا في العراق، ليحقق بذلك المكاسب المادية ويستعيد روحه الإجرامية التي تمسك بها لعقود خدمة للتاج البريطاني.
تكشف لنا الرواية عبر أحداثها الحقيقة الاجرامية في موضوع احتكار التجارة بين الشرق والغرب، وكيف أن شركة الهند الشرقية البريطانية كانت تجارتها الأساس زراعة وتصدير الأفيون، لا تجارة التوابل والمنسوجات. كل ما يتصل بعزيز لانكستر هو مزيف وخادع، فهو يقتل الأدميرال الفرنسي رينيه ديدور ويستولي على بدلته حبا بالرتبة العسكرية التي حرم منها، لأن أصوله عربية ونراه يتمسك بوهم إنكليزيته، فيمعن في الوفاء للتاج البريطاني ما دفع الملكة فيكتوريا إلى تخليصه من عقوبة الإعدام ونفيه إلى البصرة، التي هي موطن أصوله العربية. الرواية وهي تتبع عزيز في تحولاته، تعرف القارئ بالتاريخ الدموي للشركات التجارية، وكيف صنع الرخاء الأوروبي على حساب القهر الإنساني وعذابات الشعوب الآسيوية.
رواية «الأدميرال لا يحب الشاي» ليس فيها أي انتقاص أيديولوجي، بل إن جمالياتها اللغوية ومتانة سردها وتوازنها الموضوعي، يجعلها رواية على درجة عالية من الاتقان ومنفتحة على المعارف الإنسانية التي جاء بها القرن التاسع عشر. عزيز لانكستر وإن بدا شخصية كوميدية متعلقة ببدلة بحرية تحتاج لمن يهتم بها، هو اللاعب الحقيقي للجانب الإنكليزي، الذي يجسد دور التاجر الجديد. فعنوان الرواية يحمل في مدلولاته مسار الشخصية التي لا تحب الشاي، وبالتالي لا تحب الإنكليز رغم التأثير العالمي لتجارة الشاي الذي يشربه الإنكليز في الخزف الصيني، ضمن طقوس ما زالت تحمل الكثير من الولع البريطاني تحديداً، فما أهمية حرب الأفيون في رواية تُبرز الوجوه السياسية المخفية في تجارة تحمل في طياتها البُعد المأساوي، ألا وهو تجارة الشاي؟ أم أنه يُقدم وجها تاريخيا لحروب ربما تُشن علينا الآن من حيث لا نشعر، وكأننا نحتسيها مع كوب من الشاي، أو فنجان قهوة تمثل نوعا من الكفاح ضد الأفيون، الذي يسعى من خلاله عزيز لانكستر فتح أبواب صراعات الماضي، في حاضر ما زال يستكمل هذه الأنواع من الحروب.
يتساءل الأدميرال عزيز لانكستر في حوار مع تاجر جاء يشتري منه الشاي: أليس لديكم في أصفهان السيوف والبنادق والجيوش؟ كيف تتركون السوق على العرض والطلب؟
هذه الرواية يتطلع كاتبها للوصول إلى الداخل الشرقي عبر قصة الخارج في صراع له ما يبرره من الجانب الإنكليزي الذي يسعى من خلال لانكستر لإعادة الهيبة للتاج بعدما طغت لعبة شد الحبل التجاري بين الصين والهند وبريطانيا التي اعتبرت أن التاج اُهين، بعدما تم إيقاف السفن البريطانية في ميناء كانتون الصيني ونشوب حرب الأفيون الأولى، فهل خرج عزيز لانكستر بطل هذه الرواية ولاعبها الرئيسي من الجانب الإنكليزي، وهو من اب عراقي وأم هندية برصاصة من مسدس كولت، في نهاية مأساوية بعد أن استمتعنا في رحلته الحياتية، التي تشبه رحلة بحرية على باخرة تجارية؟ وهل حرب الأفيون كانت لتُغرق الصين ومعها الشرق في قرن جديد من العنصرية والإذلال، والقضاء على الإمبريالية في آسيا؟ أم أن النساء بوجوههن المتعددة في الرواية سمحن بالولوج لحرب من نوع آخر مغايرة عن حرب الأفيون وغيرها؟
شركة الهند الشرقية البريطانية تمثل في الرواية عزيز لانكستر الموظف المرموق في هذه الشركة، وأخطر رجل، بل داهية أسقط الحرف الأول من اسمه العربي ما إن وصل إلى البصرة ربيع عام 1843 منفياً من كلكتا، حيث كان يزرع الأفيون. القارة الهندية الزاخرة باحتياجات العالم آنذاك، ومنها التوابل والأقمشة بأنواعها والملح الصخري، تشكل نسبة كبيرة من الاستثمارات التي ترتكز على المنتجات الصناعية، فخط سير التجارة كان من المشرق العربي إلى الغرب، لذلك فالصراع الدولي التجاري معقد وكبير في رواية تحمل في طياتها شخصية تمثل الأهداف الحقيقية لهذه الشركة التي تسعى لدحر نوايا الأتراك والهولنديين والاستيلاء على مسارات الطرق البحرية، رواية «الأدميرال لا يحب الشاي» تتعلق بأعظم قضية مرتبطة بالتاج البريطاني، وما يُسمى بالتجارة الحرة فقد استخدم نزار عبدالستار تاجر الأفيون المُتخفي أو المتسلح بتجارة الشاي، دون أن يضيع علينا التفاصيل الدقيقة المذهلة، لتذكيرنا بحرب شُنت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحتى عام 1840 بحنكة مصقولة بالأحداث الحقيقية التي تسببت بها هذه الشركة. الرواية رغم متعة القراءة التي تتشكل من الأحداث إلا أن وظيفتها المبطنة ليست تسلية القارئ فقط، لكن ليدرك أن الروائي يكشف للعالم خفايا الأمور التي جرت على الكوكب، من وجهة نظر يتركها للاستكشاف الحر بتأويلاته المختلفة بين قارئ وآخر، أو حتى بين باحث تاريخي وآخر مهتم بقضايا سياسية. في هذه الرواية جماليات سردية محبوكة بدقة متناهية، وهي بهذا تشبه إطلاق رصاصة وسط حفل موسيقي، كما يصف ستندال، وكما حدث في نهاية الرواية، فهل «الأدميرال لا يحب الشاي» بعنوانها المجازي هي استحضار لدسائس سياسية ما من هروب منها في التاريخ الأفيوني، المُتشكل من إرادة فردية قادها نزار عبدالستار بواسطة الشخصية الروائية القوية عزيز لانكستر بواقعية مفادها أن كل شىء سياسي حتى روايات الحب. هذه الرواية تشد القارئ وتدخله عنوة إلى أجواء وحقائق التجارة العالمية في القرن التاسع عشر، وربما يقصد نزار عبد الستار تذكيرنا بمرجعيات عالمنا الحالي وإن ما صرنا عليه الآن لم يأت إلا من هدر الدماء.
يتساءل الأدميرال عزيز لانكستر في حوار مع تاجر جاء يشتري منه الشاي: أليس لديكم في أصفهان السيوف والبنادق والجيوش؟ كيف تتركون السوق على العرض والطلب؟
٭ كاتبة لبنانية