من أقدم وأشهر العروض الترفيهية للأطفال في إنكلترا عرض «بانش آند جودي»، المقابل لعرض الأراجوز في مصر وبعض البلدان العربية، لذا يمكن تسميته بالأراجوز الإنكليزي الضارب بجذوره في عمق الثقافة الإنكليزية، الذي رافق نشأة ومخيلة الأجيال على مرّ القرون. يرجع ظهور «بانش آند جودي» إلى القرن السابع عشر، ولا يزال حتى اليوم رغم كل هذا التطور التكنولوجي الذي نعيشه اليوم يقدم للأطفال، ويستطيع أن يجذب انتباههم ويخلق لهم الفرجة المسلية الممتعة، ويرسم البسمات على وجوههم ويطلق ضحكاتهم العالية، ويحصل على تفاعلهم بالاندماج في العرض والمشاركة ببعض الاستجابات الحوارية مع مستر بانش، ومساعدته في مغامراته الفكاهية وما يقع فيه من مشكلات ومواقف. يرتبط عرض «بانش آند جودي» الإنكليزي بفن أوروبي أقدم، هو فن الكوميديا «ديللارتي»، الذي ظهر في إيطاليا في القرن السادس عشر، ويعد مستر بانش أحد تجليات الكوميديا ديللارتي/ وأثراً من آثارها الباقية بالإضافة إلى انعكاساتها على الكثير من الفنون.
كأحد الفنون المسرحية القديمة التي ربما كانت هي الأخرى امتدادا لأشكال مسرحية أقدم، لعبت الكوميديا «ديللارتي» دوراً كبيراً في ترسيخ بعض مبادئ الكوميديا، التي لا نزال نلمح أطيافها في الأداء التمثيلي الكوميدي بشكل عام. نشأ فن الكوميديا «ديللارتي» في إيطاليا معبراً عن الثقافة الإيطالية وتأثيرات من مدن ومناطق إيطالية مختلفة، فهو فن محلي في المقام الأول، لكنه اتخذ بعداً عالمياً إنسانياً، نظراً لما يقدمه من أنماط شخصية تحمل الكثير من الصفات العامة التي يمكن أن توجد لدى العديد من البشر. تعتمد الكوميديا «ديللارتي» في الأساس على الارتجال، وعلى الشخصيات النمطية التي يتخصص فيها الممثل ويظل يؤدي دوراً واحداً دون سواه، وهي شخصيات أيقونية مرسومة بعناية ومحددة الملامح بدقة وبشكل دال، من خلال الملابس التي تميز كل شخصية والأقنعة التي توضع على الوجوه بتعبيرات وتقاسيم معينة بارزة المعالم. تتنوع شخصيات الكوميديا «ديللارتي» بين العاشق المخدوع والخادم الماكر والسيد الأحمق والمحارب الجبان، وغيرهم من الشخصيات والأنماط، وبالإضافة إلى الأزياء والأقنعة يكون للتكوين الجسدي أهميته أيضاً من حيث امتلاء البطن مثلاً، أو طول وقصر القامة.
تعد شخصية بولشينيللا من أشهر شخصيات الكوميديا «ديللارتي»، هو الخادم الماكر الذي يتسم بالجرأة، لكنها جرأة تختبئ خلف الخداع، وهو شخصية ساخرة لا يسلم منها المجتمع أو الأفراد أو السلطة بمختلف أنواعها. كان لشخصية بولشينيللا العديد من التجليات في الفنون الأخرى، ويمكن تمييزه على الفور من خلال قناعه الذي يغطي نصف الوجه بملامحه الحادة وأنفه الطويل المعقوف، وقبعته الطويلة المنحنية التي تؤكد طبيعته الكوميدية، والهندام الأبيض الفضفاض الذي قد يبدو للبعض قريباً من هندام المهرج، وقد يبدو كملابس بسيطة لشخص عادي من عامة الشعب. يظهر بولشينيللا في مظهر الساذج، لكنه في حقيقة الأمر يتظاهر بالغباء بينما هو شديد الذكاء، ويمتلك دهاء كبيراً يساعده في التغلب على الشخصيات الأخرى والخروج من المآزق والمشكلات الصعبة، وهو لا يفعل ذلك عن طريق المواجهة المباشرة وإنما باستخدام الحيلة، ومن هنا تنشأ المواقف الكوميدية.
من بولشينيللا إلى مستر بانش
تقدم عروض «بانش آند جودي» كعروض الأراجوز التي تمثل الشكل القديم لمسرح العرائس، حيث الكشك المتنقل والعرائس المصنوعة من القماش التي يحركها صاحب العرض ويتقمص شخصياتها، وينطق بلسانها بصوت مصطنع عن طريق قطعة معدنية توضع داخل الفم، فيصدر الصوت مميزاً أشبه بالصفير ويكون رنينه القوي جاذباً للصغار والكبار. جاءت شخصية بانش كتطور لشخصية بولشينيللا بعد أن جاء من إيطاليا واستقر في إنكلترا باسم جديد وهيئة مختلفة، ولا تزال عروضه تلاقي الإقبال وتذكر بفن من أقدم الفنون الأوروبية. في عروض «بانش آند جودي» يلاحظ أن شخصية مستر بانش هي الشخصية الوحيدة التي تتحدث بصوت الأراجوز عن طريق القطعة المعدنية، أما بقية الشخصيات الأخرى فتتحدث بالصوت الطبيعي. يتضمن العرض مجموعة من المشاهد الأساسية وأحياناً تتم إضافة بعض المشاهد والشخصيات الجديدة المبتكرة، ويتكون العرض التقليدي لبانش آند جودي من عدة مشاهد مشتركة بين مستر بانش وزوجته جودي وطفلهما الصغير، ومع رجل البوليس والشيطان والتمساح والشبح. يقدم «بانش آند جودي» الأنماط والمواقف المضحكة وبعض مبادئ الكوميديا المؤداة بشكل بسيط للأطفال، وتعتمد على سوء التفاهم اللفظي والاستغفال والاختباء، والخوف والتعرض للخطر المضحك، والوقوع في المشكلات الصعبة والإفلات منها بسهولة.
وكذلك تعتمد الكوميديا على تكرار الحركة/ أو العبارة ذاتها مع ضمان استمرار الضحك أيضاً وتكراراه، بل إن التكرار في حد ذاته يكون أحياناً هو السبب الأساسي في الضحك. تظهر جودي زوجة بانش عادة في بداية العرض، يتبادلان القبلات أحياناً وفي أحيان أخرى يتشاجران أو يلاعبان طفلهما الصغير الذي تدور من حوله مجموعة من المواقف المضحكة، كأن تطلب جودي من بانش أن يعتني بالطفل الصغير لتستطيع أن تقوم بمهامها المنزلية، فتظهر عدم قدرة بانش على الاعتناء بالطفل إلى درجة أن تعود جودي لتسأل عنه فيخبرها بانش بأنه لا يعلم مكان الطفل، أو أن تسمعه يبكي طوال الوقت عندما يكون في صحبة بانش. إلى جانب مظهر بانش المميز وصوته الخاص الذي يختلف عن صوت الشخصيات الأخرى، تعد العصا الخشبية من أهم أدواته التي يضرب بها في أغلب الوقت، وأحياناً ينتزعها منه الخصم ويضربه بها، وتكون مشاهد الضرب من أكثر المشاهد المضحكة.
يسعى مقدم عروض «بانش آند جودي» دائماً إلى خلق التفاعل مع الجمهور الذي يكون معظمه من الأطفال إلى جانب بعض الكبار، ولا ينتظر مقدم العرض أن يحدث هذا التفاعل من تلقاء نفسه، بل إنه يدفع الأطفال دفعاً نحو هذا الأمر، فيطلب منهم أن يرفعوا أيديهم بإشارات معينة أو أن يصدروا بعض الأصوات ويرددوا بعض الكلمات عند حدوث موقف ما، كما يوجه إليهم بعض الأسئلة، ويستعين بهم مستر بانش أحياناً ليخبروه عن وجود شخص ما يختبئ خلفه مثلاً، وهكذا يستمتع الأطفال مع السيد بانش الذكي الماكر الساخر الذي يدعي الغفلة والسذاجة، لكنه لا يهدأ ولا يتوقف عن خلق المشكلات وإيقاع كل من يقترب منه في ورطة.
الملهاة المرتجله أو الكوميديا المرتجلهcommedia dell arte التي هي من المسرح الإيطالي معتمدة علي إرتجال الممثلين حول فكرة قصة العرض المسرحي …
وجميل .. جميل الربط أو قولي المقابلة بين كوميديا ديللارتي و بين مسرح الدُمي أو قولي مسرح العرائس حيث يعتمد الأخير علي تشغيل الدُمي أو الكراكيز و الدُمي المتحركة بطريقة دراماتورجيه فنيه .. للترفيه أحياناً و للتثقيف أحياناً أخري .. فبدا الربط أو المقابلة و كأنه إمتداد للأول أو تطويراً له …
لقد أعاد لي مقالك هذا عن عروض ” بانش آند جودي ” ذكريات الصبا في أوائل الستينيات من القرن الماضي عندما كانت تعرض علي مسرح مدرستي الإعدادية عروض مسرح العرائس منها عرض الشاطر حسن و عرض الليلة الكبيرة و عرض بنت السلطان .. و غيرها من العروض التثقيفية و الترفيهية ..
سلم يراعك يا دكتوره مروه و لا إنقطع مدادك .. مع بالغ تقديري لأستاذنا الجليل أ: هيثم .. فمداخلات سيادته مع مقالاتك تفيدنا كثيراً و أدام الله علمه ..
يا سيد ALI ALI: قدمت تعليقا رائعا عن مقال الدكتورة مروة ، تعليقا يوزن بميزان الذهب. أخجلت تواضعي في آخر تعليقك . شكرا جزيلا لك و دمت في الأعالي عاليا و رفيعا. تحياتي و مودتي.
انه السيد اللواء شخصيا يا أبى هيثم.. نور المنبر عند ابنة أخته مروة..
.
حللت اهلا ونزلت سهلا..
حسنا فعلت يا عزيزي ابن الوليد تستحق عظيم الشكر على هذه المعلومة التي نزلت بردا و سلاما على قلبي. حضرة اللواء فوق الرأس والعين و لا أخفيك يا عزيزي أنني أشعر بإحساس داخلي أن علاقات صداقة عميقة و متينة تجمعني و إياه. تحياتي أيها الأخ العزيز.
تحياتي لكم جميعا.. خالي الحبيب وأستاذنا العزيز هيثم مع شكر خاص لابن الوليد.
جيد هذا المقال التي يتطرق إلى الفن الترفيهي المسرحي الموجه عامة للأطفال من خلال الأراجوز الانجليزي عن Punch and Judy. الأصل هو كوميديا ديللارتي الايطالية كما ورد في المقال. ظهر في انجلترا بعد وفاة الزعيم البيرتاني puritain كرومويل الذي تميز حكمه بالاستبداد و التزمت الديني الذي توخى تصفية الديانة المسيحية من الشوائب و دعا الى الزهد والتقشف وحرم مجالات الفنون و الترفيه و منها الغناء و الموسيقى و المسرح و من تم تسمية puritains الذين يدعون إلى صفاء الدين. انتشر هذا الفن بسرعة في انجلترا بعد عودة الملك تشارلز الثاني سنة 1660 لأن الجمهور كان متعطشا للترفيه و الفكاهة و التفتح بعد عقود من التزمت الديني. اتخذ هذا الفن أشكالا و أبعادا متعددة في مختلف بلدان العالم منها ماهو خاص بالطفولة و منها ما هو اجتماعي أو سياسي مع المحافظة على الطابع الهزلي. تشكر الدكتورة على اجتهاداتها المتنوعة التي تفيدنا نحن القراء في التعرف على مجالات ثقافية متنوعة و تكوين معلومات مدققة عنها. مع مودتي وتقديري.
موضوع شيق , شكراً للكاتبة !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
عرض جميل لمسرح العرائس في إيطاليا وإنجلترا لكن كان ينبغي التأصيل لهذا الفن الذي ولد في الحضارة الإسلامية وازدهر خصوصا في الحواضر العثمانية مثل القاهرة وتونس والجزائر ودمشق وحلب.. وكان يسمى “الغاراغوز”