تنقسم الدول العربية اليوم إلى ثلاثة أقسام: دول تعيش ويلات الحروب أو الاحتلال أو الفقر، ودول تعيش في رخاء وبعد نسبي عن مأساة فلسطين، والأردن. وقد يستغرب القارئ هذا التصنيف المنفرد للدولة التي احتفلت بمئوية نشوئها قبل وقت قصير، وهو استغرابٌ مُحقّ على أية حال، فمن يدخل حيّ عبدون الراقي في العاصمة عمان أو ضاحية دابوق المخملية، سيرى نموذجاً مشابهاً لرخاء مدن الجيران الجنوبيين للمملكة، في الرياض ودبي والدوحة، ومن يضعه حظه العاثر في أزقة مخيم البقعة ستقفز إلى مخيلته فلسطين المحتلة أو جنوب لبنان، ومن يزور إحدى القرى الضائعة على الطريق الصحراوي الجنوبي، سيتذكر معاناة الفقراء في مدن الصفيح بمصر والمغرب على سبيل المثال لا الحصر.
الأردن في عين عاصفة دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الذي لا يخجل من تكرار حماقاته وتصريحاته المستفزة، ولأن السلاح في يد الأرعن يجرح، وهذا رجل وضعت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون في يده زرّاً نوويّاً يستطيع أن يسحق كوكب الأرض ويصبغه باللون الأحمر لكي يصير عندنا كوكبان أحمران غير صالحين للحياة في مجموعتنا الشمسية. ولا أعتقد بأن أركان المستوى السياسي الرسمي في الأردن مستغربون من بدء ترامب بالتحرُّش بالبلد الذي يقبع في جوار المشروع الاستيطاني الغربي في المنطقة ورأس حربته الكيان الصهيوني، ففي ولايته الأولى، تسببت إدارة الرئيس ترامب وصهره كوشنير بالكثير من المتاعب للنظام الملكي الأردني.
لم يكن الأردن الرسمي، وعلى رأسه الملك عبد الله الثاني، يرحّبون بعودة ترامب والحزب الجمهوري في الانتخابات الأخيرة، فالتجارب الطويلة مع الجمهوريين منذ عهد الراحل الملك الحسين سجلت الكثير من الضغوط السياسية والاقتصادية مثلما حدث عقب الحرب على العراق في عاصفة الصحراء عام 1991، مروراً بحقبة بوش الابن وما أسماها الحربَ على الإرهاب عقب تفجيرات نيويورك، والتي أدت إلى نشوء حركات متطرفة في المنطقة، هددت الأمن الداخلي للبلاد، ولا أصدق على ذلك من تفجيرات الفنادق في العاصمة عمان عام 2005، وهو ما تسبب في تبطيء المسيرة الديمقراطية وخنق الحريات والتريّث في منهج الانفتاح والإصلاحات الاقتصادية لصالح تصاعد نفوذ الجهاز الأمني وزيادة الإنفاق عليه على حساب المشاريع التنموية والنفقات الرأسمالية.
لم يعد سرّاً أن الأردن يتعرض إلى ضغوطات مركبة من الحلفاء الدوليين والأشقاء، ضغوطات كلها متعلقةٌ بالقضية الفلسطينية، لإنهائها وفق الرؤية الإسرائيلية التي تحلم بدولة يهودية موحدة على كامل التراب الفلسطيني المحتل، وقد أثبتت الأيام والسنوات بأن الفلسطيني لا يتخلّى عن أرضه، وأن الإسرائيلي ظل يراوغ في ما سمي بالعملية السلمية، وظل يقضم مزيداً من الأرض ليبني عليها المستوطنات للمهاجرين الجدد، فالهاجس الديموغرافي هو وحده ما يقضّ مضاجع الاحتلال، وهو – أعني الاحتلال – يرى أن الفلسطيني المقاوم يجب أن يُقتل، والفلسطيني الهادئ عليه أن يرحل.
الأمريكيون يربطون استقرار الأردن السياسي والاقتصادي بالمساعدة في استيعاب المزيد من الفلسطينيين على أراضيه، والمفاجئ في الأمر هذه المرة أن ترامب يطلب فتح الباب للاجئين ليس من الضفة الغربية كما يخشى الشارع الأردني، بل من قطاع غزة المدمر بالعتاد الأمريكي والغربي. إن إيقاف الدعم الأمريكي للمملكة والبالغ في مجمله حوالي 1.5 مليار دولار هو بداية الحنجلة المتوقعة، والتي أعقبها الاتصال الهاتفي المشؤوم الذي أجراه ترامب مع العاهل الأردني، والذي أسرع بدوره إلى بروكسل للاستنجاد بالأصدقاء الأوروبيين، ولو أن الجميع يعرف بأن هذا الرجل ليس عنده أية لحية ممشطة، وما طريقته بالتعامل مع الرئيس الفرنسي ماكرون إلا خير دليل على تسوناميّاته القادمة، ليس على الأردن وحده، بل والعالم برمته.
الأشقاء الأغنياء لا يهمهم إلا الهدوء، ولا يعجبهم ضجيج الرصاص الذي أطلقه المقاومون في غزة تجاه جيش الاحتلال، وهم ينتظرون اليوم الذي تتوقف فيه هذه الزوابع التي يسمعون عنها على شاشة التلفزيون، وهم – بعد أن كانوا يُسرّون – صاروا يعلنون تماهيهم مع الرؤية الأمريكية الإسرائيلية في شرق أوسط جديد خالٍ من الصراعات، ولو جاء ذلك على حساب الطرف العربي على شكل رضوخ فلسطيني لهيمنة المحتل وقبول أردني بالترانسفير. ومن يشك في ذلك، عليه سؤال وزراء المالية الأردنيين عن انقطاع الدعم الخليجي لموازنة الدولة التي رزحت عبر عشرات السنين تحت تبعات الحروب والأزمات التي تعيشها دول الجوار العربي، حيث استقبلت ملايين اللاجئين الفارين من جحيم الموت والقهر.
لقد أخطأ النظام السياسي الأردني حين وضع بيضه كله في سلة الحليف الأمريكي وما يوصي به حلفاءه في المنطقة بدعم الاقتصاد والاستقرار في الأردن، كان هذا مقروناً بتوقيع اتفاقية وادي عربة، ومرت السنون دون أن يفكر عقل الدولة بالخطة (ب) في حال طرأ أي تغيير على موقف الحلفاء. صحيح أن الامكانيات والحلول محدودة، ولكن الضرورة كانت تستلزم عدم الاطمئنان والاسترخاء، وقد يكون التوافق السياسي الداخلي هو ورقة الجوكر التي أهملها النظام لتكون عضيده في الأزمة الإقليمية المتصاعدة. إن من شأن تفهُّم التيارات السياسية في البلاد للضغوطات والتحديات أن تشكّل حاضنة شعبية تساند النظام والجيش والأجهزة الأمنية بدلاً من جلد الدولة بحق ومن دون حق على كل طالعة ونازلة، ولقد ظلت شمّاعة خطر الإخوان المسلمين وسعيهم – حسب تصور الحكومة – لاستلهام التجربة المصرية سدّاً منيعاً أمام رغبة الملك في حياة ديمقراطية بالحدود المقبولة، حيث لم تستجب لتلك الرغبة أذرع الدولة العميقة المتمثلة بالجهاز الأمني ومراكز النفوذ التقليدية المحافظة.
هل سيرضخ الأردنيون لإملاءات ترامب؟ هذا هو بيت القصيد، والجواب الذي أراه أمامي هو لا كبيرة، ذلك أن المستويين الرسمي والشعبي متوجّسان من هذا المخطط، ويرفضانه بشدة، ولكل منهما أسبابه العميقة لاعتناق مبدأ «دونه حزّ الحلاقيم». فالملك والعائلة الحاكمة تنظر للأمر من باب نشوء حالة سكانية جديدة، ستثير جدلاً حول الحراك السياسي الداخلي والذي سيعصف باستقرار مؤسسة العرش لصالح ضغوطات خارجية ستطالب بتغيير النهج السياسي الداخلي وإشراك كافة مكوّنات الشعب فيه. ومن يلاحظ نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة سيعرف أن هذا من شأنه زيادة حصة الحركة الإسلامية في الشارع والبرلمان، خصوصاً في مراكزها الأقوى بعيداً عن المحافظات والعشائر الكبرى.
ويأتي الطرف الثاني في المعادلة، وهو التحالف التقليدي بين الجيش والعشائر، وهو تحالف عضوي غير قابل للزعزعة أو الاختراق، وهذا الطرف مجمعٌ تماماً على دعم صمود أشقائه الفلسطينيين في أرضهم وإفشال الخطط الصهيونية لابتلاع فلسطين التاريخية بالكامل. وقد ظهر ذلك جليّاً في تواجد المحطات الطبية الأردنية التابعة للجيش في قطاع غزة خلال العدوان الهمجي، وفي حملات التبرعات الشعبية التي سُيّرت إلى القطاع الصامد من مختلف محافظات المملكة، وعبّرت عن التلاحم الذي لا يمكن فكّه بين الشقيقين الأقرب. وفي ظني إن هذا الطرف – الجيش والعشائر – سيوفر غطاءً شعبياً وأمنياً وازناً للملك عبد الله الثاني في رفض كل هذه الضغوطات الثقيلة، وهو غطاءٌ مهم على الملك وطاقمه الحكومي أن يجعلوه تميمتهم وشرعيّتهم في مجابهة مشروع تصفية القضية الفلسطينية.
أمام كل هذه المعطيات، وبعد كل التجارب العربية التي فشلت فيها الدول المركزية في الصمود أمام الضغوطات والتدخلات الخارجية لِعلّة هشاشة الحاضنة الشعبية التي كانت تتمنى أصلاً سقوط أنظمتها القمعية، يبرز الأردن كحالة واعدة واستثنائية – إلى حد ما – في وسط إقليم منكوب، مارست فيها الدولة قسطاً من التسامح والرُّشد والانفراج السياسي والحريات المعقولة والحفاظ على السلم الأهلي الذي أعطاها رصيداً من القناعة الشعبية، التي لن تغامر بالتضحية بالأمن والاستقرار وتذهب لخيار القفز في فضاء مجهول.
هناك حقيقة مرة فيما يتعلق بالانظمة العربية المجاورة لفلسطين المحتلة; هذه الانظمة علئ وعي تام بالمخططات الصهيونية الامبريالية في المنطقة ومع ذالك فهم يهرولون نحو العدو لاسداء خدماتهم باستهداف الشعب الفلسطيني ومحاصرته, لكن الامر المحير ان هذه الانظمة قد تكون علئ علم بان المخطط لا يستهدف فقط فلسطين بل هم ايضا ومع ذالك نجدهم علئ اهبة الاستعداد للمشاركة في الجريمة المركبة ( اولا تهويد فلسطين وثانيا السيطرة علئ المنطقة برمتها)