بعد انصرام الأيام السبعة المخصصة للمفاوضات بين النظام السوري والوفد الائتلافي المعارض في ‘جنيف2’ الذي افتتح في ‘مونترو’، يمكن القول بأن هذه الأزمة قد خطت أولى خطواتها نحو الاتجاه الصحيح، على الرغم من كل الكلام والخلاصات والنتائج التي ترتبت عنه، فيكفي أن يتمكن الدبلوماسي الأممي العجوز السيد لخضر الإبراهيمي من أن يجمع المتناقضين حول طاولة واحدة، مما يعد بمثابة اختراق كبير جدا في جدار أزمة دموية شرسة قاربت الثلاث سنوات وما نتج عنها من قتل ودمار وتهجير ومآس. كما أن حجم المعادلات المرسومة على الميدان والتغيرات العميقة إقليميا ودوليا، تجعل من نتائج هذه المفاوضات الأولى نتائج منطقية جدا، خاصة عندما يكون سقف المطالبات لا ينسجم مع هذه المعادلات والمتغيرات التي لا يمكن القفز عليها، وإلا سنكون أمام أحلام وأوهام غير قابلة للتحقق أبدا، فمن بين الأسباب الرئيسية التي جعلت نتائج هذه المفاوضات هزيلة جدا هو السقف العالي من المطالب والمواقف لدى طرفي المفاوضات، الذي لا يميز بينهما سوى أن مواقف الوفد النظامي تستمد قوتها من مجموعة من العوامل الأساسية لعل أبرزها: ـ الإمساك بالميدان وتحقيق مزيد من المكاسب والانتصارات والمصالحات. ـ انسجام وحنكة الفريق الدبلوماسي النظامي الذي استطاع أن يشد إليه الأنظار، خاصة على المستوى الإعلامي، حيث نجح هذا الوفد إلى تحويل ‘جنيف2’ إلى منصة إعلامية دولية جد مهمة لعرض وجهة نظره للرأي العام الدولي بشكل مدروس ودقيق ومتناسق. ـ الموقف الصلب لحلفاء النظام السوري. وبخلاف ذلك فإن سقف الوفد الائتلافي المفاوض لم يستند إلا أي شيء يدعمه سوى المواقف التصعيدية لبعض الدول المشاركة في المؤتمر، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، فالوفد الائتلافي المعارض بدا ضعيفا جدا وغير متمرس، حتى أن الوفد النظامي نعته بمفاوض ‘القصاصات الورقية’، كما أنه على المستوى الميداني نجد مزيدا من الهزائم والتشرذم والاقتتال بين رفاق السلاح، إضافة إلى عدم انسجام وثبات مواقف حلفاء المعارضة، الذي يظهر من خلال هذا التناقض الصارخ بين الدعوة لـ’جنيف2’ باعتباره منبرا للتفاوض الدبلوماسي من أجل إيجاد حل متفق عليه للأزمة السورية، وبين التصعيد الكلامي والدعوة إلى تسليح المعارضة! اللهم الا إذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها ما تزال تأمل في اختراق ما ميدانيا لتحسين شروطها التفاوضية في أي مفاوضات مقبلة، أو أن الأمر يتعلق برقصة الديك المذبوح الذي يخبط خبط عشواء. وحقيقة الأمر أن مسألة التسليم بالواقع المحلي والإقليمي المستجد على مدار عمر الأزمة السورية بل وقبلها بكثير، يعد أمرا ‘أمر من الحنظل’ بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي كانت إلى وقت قريب هي الآمر الناهي الوحيد على المسرح الدولي، فهذه الأخيرة بكل قوتها وأدواتها والسلاح والأموال والإسناد المخابراتي والإعلامي الذي تضخه، لم تستطع إنهاء أمر نظام تقول بأن شعبه قد تخلى عنه، فما بالك بأنظمة أكثر قوة سواء عسكريا أو شعبيا؟ حقا إنها المأساة بعينها بالنسبة لأمريكا. والواقع انه إذا ما نحينا جانبا مسألة النتائج المترتبة عن هذه المفاوضات وحيثياتها فإن مجرد لقاء بين الطرفين واقتناع المجتمع الدولي ولو جزئيا بضرورة الحل السياسي، يعد أمرا جيدا جدا يمكن أن يساهم في كسر الجليد النفسي بين الطرفين، تمهيدا لمفاوضات جديدة وشاقة وعسيرة باعتراف كل الأطراف يمكن أن تؤدي إلى حل ما لهذه الأزمة الشائكة، التي تهدد كل الجوار، شريطة أن ينصب التفاوض على المسألة الجوهرية التي من المفروض أن الحراك الشعبي قام من أجلها ألا وهي مناقشة تصور واضح ينصب حول ماهية وطبيعة نظام الحكم الذي يمكن أن يتجاوز سلبيات النظام الحالي وأن يرتقي بسوريا نحو نظام ديمقراطي حداثي يكفل الحقوق والحريات العامة ويضمن للمواطن السوري حقه في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، سواء على المستوى المادي أو المعنوي وبدون تمييز بسبب اللون أو الدين أو اللغة أو العرق أو الطائفة. إن هذا السؤال الجوهري الذي هو برسم جميـــع الأطراف بدون استثناء، هو الذي يمكن أن يرسم معالم حوار جدي ومعقــــول، وبالتالي فتح الطريق نحو حل ســــياسي لهذه الأزمـــة التي أصبحت تثير ضجر وغثيان الكثيرين. وفي هذا الإطــــــار فإن بحث مسألة وضع أسس نظام ديمقراطي تقدمي في سوريا يستلزم بالضرورة ما يلي: قدرا مهما من الاستقلالية في اتخاذ القرارات بالأصالة وليس بالوكالة. مشاركة جميع أطياف المعارضة السورية غير الإرهابية، خاصة معارضة الداخل التي يبدو أنها تمتلك رؤية واقعية ووطنية لماهية الحكم المنشود وقدمت في سبيل ذلك العديد من التضحيات منذ زمن بعيد جدا عن بدء هذه الأزمة. التجرد من الذاتية وشخصنة القضية، فالاستغراق في التفاصيل بدون ملامسة الجوهر يعد أمرا عدميا، فإذا كان الشغل الشاغل للمعارضة هو تنحي شخص الرئيس السوري عن السلطة، فإن معادلات الميدان قد حسمت هذه المسألة، كما أن طبيعة الحكم الديمقراطي وهذا هو الجوهر هو الكفيل بتنحي ‘الأسد’ من عدمه. المراهنة على الحوار السوري – السوري، فهو الوحيد الذي يمكن أن تتمخض عنه حلول تتسم بالواقعية والوطنية والتقدمية، وفي هذا السياق يمكن القول بأن التدخلات المتعددة في هذه الأزمة، خاصة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لا يهمها لا طبيعة النظام السوري أهو استبدادي أم ديمقراطي، بقدر ما تهمها مصالحها القومية والإستراتيجية في المنطقة، وإلا فإنه إذا كان النظام السوري استبداديا فهو ليس استثناء من مجموع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة الأمريكية ترتبط بعلاقات جد ممتازة بمجموعة من ‘دول’ المنطقة التي لا تعد استبدادية فقط، بل غارقة في العشائرية والتخلف والاستبداد، فكيف يجوز اذن القول بأنها تساند وتدعم وتمول المعارضة من أجل محاربة نظام استبدادي، في الوقت الذي تدعم فيه أنظمة أشد تخلفا وتنعدم فيها أولى أبجديات الممارسة الديمقراطـــية، بل تعتمد عليها بشكل رئيسي لتنفيذ أجندتها في المنطقة؟ نافلة القول ان الأزمة السورية خلفت مأساة لا بد أن تنتهي وإلا انتقلت مفاعيلها إلى رقعة أكثر أتساعا وأكثر تعقيدا، وبالتالي فإن ‘جنيف2’ وما بعده من ‘جنيفات’ تعد خطوات مهمـــــة وإن كانت صغيرة نحو حل دبلوماسي للمأساة السورية، ولكن ليس أي دبلوماسية، فإن لم تتخل الأطراف المتفاوضة عن كثـــــير من الأوهام والأنانيات والحزازات وتنسجم مع مقتضيات الميدان والتحولات الإقليمية والدولية، وكذا المتطلبات الوطنية والديمقراطية، وتبتعد عن الصخب الذي يثـــــيره المال والإعلام والتسلـــــيح، فإن ألف ‘جنــــيف’ لن تسفر عن أي نتيجة ذات بال، ليبق الميدان وحده هو الحكم، فالشاعر السوري أبو تمام سبق أن قال: السيف أصدق أنباء من الكتب .. في حده الحد بين الجد واللعب