الأسلوب وتحولات الزمن في رواية «البطء» لميلان كونديرا

تتصف هذه الرواية بخصائص مضمونية، متدفقة وثرّة، تعتمد على سلسلة منوعة من الموضوعات، وعليها ما عليها من جوانب أخرى مجاورة. فهي من الناحية الفكرية والفلسفية ليست غريبة عن طروحات الكاتب العالمي كونديرا، في تقصّي الظواهر العالمية والمحلية، تلحقها براعته في الوصف واقتناص اللحظات البشرية الداكنة، تلك التي لا تُرى بسهولة؛ لكونها منغرسة في تربة القاع، أو لأنها تومض بسرعة خاطفة، تعجز الأعين المفتقرة للخبرة والأذهان الواهية عن التقاطها.
ويبدو خلال الفحص القرائي، أن اهتمام كونديرا بالجنس في أغلب أعماله، لم يكن محض أهواء ودوافع، بقدر ما هو إدراك عالٍ لحساسية هذه المنطقة، ذلك أنها عملت كشاهد وعينة في الوقت ذاته على مرّ التحولات التاريخية في الثقافات العالمية، أو لأنها الأكثر حساسية بين النواحي البشرية الأخرى، والأبلغ تأثرا بمجريات العصور، جنبا إلى جنب مع تمظهرات العري المتنامية. فهي مرحلة انتقال من النظام والشكل والثوابت المألوفة، إلى التمرد المفرط في اللانظام واللاشكل، من العلاقة التقليدية ذات الطرفين رجل وامرأة، إلى العلاقات المفتوحة والعلاقات الثلاثية والعلاقات الشاذة وتصاعدهما. إلى تزامن مفاهيم التعري مع مفاهيم التنوير كشيء من الفهم السطحي والظاهري للتنوير لا الداخلي، إلى تورّط المرأة ضد طبيعتها البيولوجية الرافضة للتعدد في عالم الرجال المنحلين، بما يوائم وتسمح به شيفراته البيولوجية، كما يشير المختصون إلى ذلك.
الحديث عن البطء في مكنوناته الأدق، هو حديث فسيح وبشكل مباشر أو لا مباشر عن تغيرات العصر وأسبابه وانعكاساته الذهنية والنفسية والسلوكية، وما يترتب من نتائج عن ذلك. هو حديث عن الماضي والحاضر، عن القديم والجديد، كذلك هو حديث يجاهر في الابتعاد عن الأصالة والطبيعة، تلك التي دعت ماكس بيكارد الفيلسوف الألماني – السويسري إلى أن يهجر دكتوراه في الطب، ويتجه إلى اللاهوت وعوالم الصمت، بعدما تفشت الأنظمة الفاشية والنازية وقيام الحروب العالمية. هو حديث عن السرعة والبطء في العلاقات وأشياء أخرى تحيطهما وتتأثر بهما، وهما ليسا بمعزل إذا ما نبشنا ما تحت جلدهما عن الخفة والثقل في روايته «كائن لا تحتمل خفته». كنت قد أفردت مادة كاملة عن الفيلم والرواية من قبل. فحسب ما أرى أن الخفة في تلك الرواية تقابل البطء هنا، إذ هما يميلان إلى الماضي بما فيه من تأن وأبعاد روحية، تمازج بين الإنسان والطبيعة والدين، والثقل فيها يوائم السرعة هنا، وكل من الطرفين تحول عن الآخر، ولهما ظواهر بشرية مستشرية، عمد كونديرا إلى تجزئتهما وتوزيعهما على مجمل أعماله.

ميلان كونديرا

ومن الجدير بالذكر أن هذه الرواية مطبوعة في منتصف عقد التسعينيات، أي في عصر ما قبل التواصل الاجتماعي، ولهذا يحضر مثل هذا التساؤل: ماذا لو كتب كونديرا عن البطء والسرعة مجددا في هذا العصر؟ عن أيامنا هذه، ليرى كيف استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي ذات التوجهات السريعة، إلى خلق توجهات نصوصية ميالة إلى التشذير والمقطعية، كي تصل إلى القارئ وتناسب مزاجه المنمّط بسبب هذه الوسائل، بلا أدنى شك بعض هذه الاشتراطات جاءت في صالح الكتابة، إذ عملت على تنقية النصوص من الترهّل والزوائد وفائض الاسترسال، كما شاركت في تعزيز مقبولية القصة القصيرة جدا، ومن ثم القصة القصيرة، التي أصبحت تختزل عوالم بأكملها عبر عدد معقول من الكلمات. هذا الموضوع يشبه اشتراطات الكتابة في الصحف، فمنها من تشترط كحد أقصى 1000 كلمة، كما في أغلب الصحف العراقية، ومنها من تضع حدودا بين الـ1500 كلمة إلى 1700 كلمة، كما في الصحف العربية. ويحدث أن تكون هناك زيادة أو نقصان بنسبة قليلة في عدد الكلمات. هذه الحدود تنمّي رصانة الكتابة لدى الكاتب، كي يقول ما يشاء مستثمرا تلك الحدود، دون تشعبات من شأنها تشويه سلاسة القراءة وتصعيبها. أما أحد أهم جوانب وسائل التواصل الاجتماعي المضرّة، هي أنها تربّي الذائقة القرائية على السرعة وقتل التأمل والتفكر، ومن ثم تهشيم مشروع الكتاب الورقي. ومن البديهي ذكره، هناك منطقة تتساوى فيها مقبولية النصوص، فتصلح للورقي وللتواصل الاجتماعي معا، وهناك ما يناسب الورق ولا يناسب هذه المنصات، والعكس صحيح أيضا. تبدأ المشكلة عندما يقوم الكاتب بليّ عنق الكتابة والفكرة لتناسب المزاج فيسبوكي مثلا، أو أن يتعرض الكتّاب إلى النمذجة في سبيل استمالة القراء، فتظهر لدينا مجموعة كبيرة من الكتّاب، يميلون إلى المقطعية والشذرة، ليس لأنها تستهويه ككاتب وقارئ فقط، بل لأنها سهلة النقل والحفظ، وقد تكون واحدة من عوامل الشهرة. والحديث طويل في هذا المحور.
ولعل وسائل التواصل الاجتماعي عززت اصطلاح «عصر السرد» بعدما أضرّت بالشعر وجعلته مباحا ومتاحا وقريبا إلى الحد الذي لا يحتاج فيه القارئ إلى تحريك قدم أو مدّ يد. ويرجع هذا بطبيعة الحال إلى جدلية التنافر بين الميول نحو الاختصار والإيجاز، الذي يتصف به التواصل الاجتماعي، وآليات العملية السردية عامة والروائية على وجه الخصوص، ذات الميول نحو التوسع والإفاضة. بمعنى، أن النجاة من آثار التواصل الاجتماعي أصبح أمرا مرهونا بمدى صعوبة قابلية الجنس الأدبي على الانكماش والتقلص ليناسب مزاجها. وقد كشفت لنا كفتا البطء والسرعة، أن العلاقات الاجتماعية قائمة على لعبة، تمتد في جوهرها إلى الداخل البشري، وأن هذه اللعبة تعرّضت للتخريب ما أن توافرت لها الوسائل المريحة، لكن أليس غريبا ارتباط الراحة بالسرعة في تحقيق الغايات؟ وهذا دليل على أن الأشياء الجميلة مهما كانت وافرة وذات سعة مشهودة، فإنها ليست سوى تشكيلة من مراحل، وهذه المراحل كانت في السابق تستغرق وقتا طويلا لإتمامها، فيشعر الفاعل بلذّتها وطول أمدها، ما يصعّب عليه فكرة التخلي عن أمر اجتهد فيه، وبثّ كل مشاعره وهواجسه من خلاله. بينما يُلاحظ العكس حينما تحولت مفاتيح الراحة إلى نقمة تتناقض في ازدهارها والطبيعة البشرية. وهذه هي مشكلة التطور العلمي الدؤوب، أنه لا يراعي تلك الطبيعة البشرية الفضفاضة نسبيا، بقدر ما يبحث عن التطور فقط، فقد بات واضحا أن هذا التطور ينأى بالإنسان عن نفسه يوما بعد يوم، وإن كان يسعى لأجله في خطوطه العريضة، وهذا غير الشركات ورؤوس الأموال التي تقف وتحرك تلك النشاطات لأجل الاقتصاد وحده، حيث استحالت (مجتمعات المعرفة) إلى مجتمعات (اقتصاد المعرفة) التي يتم فيها تحويل الابتكارات والأفكار الخلاقة إلى تجارة، كما يرى جون بايري في مقالته المعنونة «المعرفة كسلطة، المعرفة كرأس مال» ترجمة فؤاد ريان، منشورة في مجلة «حكمة».
ظُلمت هذه الرواية حين غلب عليها الطابع المقالي بشكل صريح، دون أدنى اعتبار في مراعاة الخطوط الرفيعة بين أدبية الرواية وأدبية المقالة، على الرغم من أنني أحب هذا الانفلات من القيود الرسمية في بناء الرواية، لكن الكاتب نزل بها كثيرا إلى مصاف الأحاديث الصحافية وأقاويل الشارع، كما لو أنه في المقهى، أو الصالة، أو في كتاب سيّريٍّ مفتوح.
ترد أحيانا بعض المقاطع أو الصفحات التي تقترب من حدود الأسلوبية المقالية في الروايات، ويمكن تبريرها لدواعٍ سردية مختلفة، وأحيانا يمكن تفتيت الوضع المقالي من خلال اللعب السردي وأدواته، وهو أمر لا بأس به ولا أراه معيبا، لكنه حين يستشري إلى حد أنك كقارئ تستطيع أن تجنّسها بشيء آخر غير كونها (رواية) تتصدر الغلاف الأمامي، فإننا سنحضر أمام نص هجين، ولا أظنه يقع في منطقة التجريب السردي، حيث إن الأخيرة تحتفظ بعناصر السرد والأسلوب الأساسية، وتتلاعب في أمور أخرى. كأن تنفلت من البنى التقليدية للرواية، وتظهر بمعمار مغاير.
في النهاية هذا الخيط الرفيع هو ما يجعلها سردا من عدمه، وإلا هي حجة واهية أن تتقدم المعرفة المحضة على النوع، لأن المعرفة هي نوع بذاتها وتقدم نفسها بنفسها حسب تنوع مجالاتها، وما هي إلا مضامين صارخة أو مشفّرة حين يتم توظيفها داخل المتن السردي. فالأولوية للمحركات السردية باقية وثابتة، ما دامت الكتابة روائية أو قصصية، أما الظريف بالأمر فإننا سنجد أن المعرفة أكثر مرونة من النص السردي، حيث إنها تتقبل الطريقتين، ولنا في الكاتبة والروائية إنعام كجه جي، التي تسردن المقالة وغيرها قلة ممن ينتهجون هذا النهج، كزهير كريم ومرتضى گزار مثالا، حيث يمكن ملاحظة التداخل بين الأسلوبين، وحضور السلوك السردي للكاتب داخل مقالته، ويظهر ذلك في صياغة الجمل، وسرعة الإيقاع الذي تتهادى فيه جملُ كل كاتب حسب أسلوبه، ويتخللها مناخ من الموضوعات شبيه أحيانا بما يحضر داخل المتون السردية لهولاء الروائيين.
ولنا في هذه الرواية وبعض أعمال الكاتب الأخرى، التي هي من وجهة نظري، تشبه مقالةً يشوبها التسريد أكثر منها رواية تتضمن مقاطع أو صفحات مقالية نموذجا. ولا بد من الإشارة إلى أن العنوان «البطء» لا يمثل سوى اليسير مما ذكر في المتن، وذلك بعدما طرحت موضوعات عديدة أضافت من جهة، وشتّت الثيمة الرئيسية من جهة أخرى، خصوصا أن تلك الموضوعات الجانبية امتلكت حضورا مستقلا ناتئا صعّب عليها مهمة التماهي والانسكاب في الثيمة الرئيسية، إذ لم تكن هناك مسوّغات تعزز مقبوليتها.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول لطيفة حليم:

    تحليل قيم استفدت كثيرا

اشترك في قائمتنا البريدية