«الأشياء في ملكوتها» مجموعة الشاعر المصري أحمد حافظ: لسان حال الطبيعة والفنّ مع الإنسان

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

حين تُصَدِّر مجموعةٌ شعريةٌ نفْسَها بقول يانيس ريتسوس: «خلف الأشياء البسيطة أتخفّى، من أجل أن تعثروا عليّ، فإن لم تعثروا عليَّ، عثرتُم على تلك الأشياء، وستلمسون ما لمستْ يدي، وآثارُ أيدينا ستترابط»، فإنها تدفع القارئ مسبقاً للتفكير في علاقة المبدِع بالقارئ، وفي اكتشافه الغِنى الذي يصيبه حين يضع الشاعرُ بين يديه عالماً من عوالمه في المجموعة، ويكتشف أنها عوالمُه هو نفسه، فيعيشها ويضيف إليها تجاربَه، ليحلّ محلّ الشاعر. ولكنْ! هل يحدث هذا فعلاً من دون أن يركّب الشاعر لعالمه المعطى أجنحةً تحلّق بالقارئ في سماء نفسه، ومن دون أن يتميّز هذا العالمُ بصفاتِ الحلول الكيميائية في دم القارئ، أو بالخصوصية التي لا تُذيب هذا العالَم في العوالم التي تتراكم في دمه من مبدعين آخرين، لا في دمِه؟
وإذن، نحن نتحدث عن الأسلوب الذي ينطق بكلمة «افتح يا سمسم»، أو أيّة كلمةٍ تمثّل كلمة سرّ دخول الشعر في دم القارئ، ونتحدثُ، كظلال تتخلّلنا من دون تفكير، عن ثورات الشعر وعمّن جعل السيّاب أنشودةً للمطر في أرض القارئ التي أجدَبَها الاعتياد.
في مجموعته «الأشياء في ملكوتها» المصدَّرة بتناغم مع قول ريتسوس، يضع الشاعر المصري أحمد حافظ، عالماً بين أيدي القارئ، يمكن إيجازه ربما، بحديث كائنات الطبيعة وأشيائها عن ذاتها وارتباط حياتها بالإنسان، وتضمين فلسفته للحياة والطبيعة والإنسان من خلال هذا الحديث، سواء بلسانها أو لسان الشاعر الذي يرتدي أقنعتها عنها. ولكنْ أيضاً من دون ترك كلمةِ «ولكنْ»، المقلقةِ هازمةِ اللّذات ومفرّقةِ الجماعات، ومولّدةِ الأسئلة عن تجارب توليد العوالم، في الكثير من القصائد التي أتت بعد القصيدة الأولى» كائنات الظلال»، الأكثر نضجاً، وصدّرها الشاعر في مجموعته كما يبدو، ممثلةً للعالم الذي يريد تقديمه وربط آثاره بأثر القارئ.
وفي ربطه لهذا العالم ببعضه وبالقارئ، يكوّن حافظ بنية مجموعته في ستة فصول على التوالي: «كائنات الظلال ــ ثورة الأخشاب ــ قراءة ــ تأملات ــ ثنائية ــ وجوه»، وتتضمّن الفصول 36 قصيدة، يمكن اعتبار مجموعة كلِّ فصل منها، قصيدةً واحدةً ضمن استقلالية كل منها كقصيدة بذاتها. وفي ظلّ عدم وجود تواريخ للقصائد، يذهب القارئ للهجس بتطور تجربة تكوين هذا العالم، ووصولها إلى نضجها الفني في الفصل الأول، قبل أن يتوغَّل لاكتشاف بقية أبعاد المجموعة، وتفاصيل تكوين تألّقها وإخفاقاتها في بقية القصائد.

ملكوت الأشياء:

في توالي تشكّلها الفني، بإيجاز من دون تحديد الأطر يتقدم في الفصل الأول عالمُ الفراشة ورمزياته في بعث الأمل، ثم الهدهدُ وسردُه سيرةَ بلقيس وسليمان من زاوية نظره، ثم الطيور المهاجرة التي تعكس معاناتِها من ازدواجية الإنسان في معاملة كائنات الطبيعة، ثم الحرباءُ في تصوره عنها كمماثلةٍ له، وباعثةٍ للتفكير في كونه، بكونها «ثابتةً/ لا تلتفت لشيءٍ../ رؤيتُها بانوراما ساحرةٌ للأرضِ/ كأنَّ الزئبقَ عيناها الضيّقتانْ/ فتطلّ على كلّ الأنحاء بذات اللحظة/ وكأنهما شباكانِ يدورانْ».
ثم تأتي القطّة كمثلٍ عن وجوب رعاية الإنسان للحيوان، من خلال حديث الرسول محمد عن المرأة التي «دخلت النار، في هرةٍ، ربطتْها، فلم تطعمْها، ولم تدعْها تأكل من خَشاش الأرض». ثم يأتي العنكبوت، بالسرد عنه، مثيلاً للإنسان الذي يغلب شرُّه على خيره، في سورة القارعة، «وأما من خفّت موازينه فأمّه هاوية»، وتساؤلاً عن علاقة الحبّ القاتل بين العنكبوت وأنثاه بالشعر، «فمن منهما يكتب الشّعرَ… من منهما أمّه هاوية؟».
ويتقدم في الفصل الثاني عالمُ الأخشاب التي تمثل تحولات الأشجار بعد قطعها، كمثال ومَثَلٍ عن هجرة للكائنات، في الطاولةِ التي تُشابه الدوابَّ وألقَ الأحصنة بأرجلها الأربع. وكرسيِّ الاعتراف، الذي يدينُ الشاعرُ من خلاله أفعال الإنسان السيئة، بعد تحويله له إلى سجنٍ وأداةِ تعذيب للمعتقلين، بعدما كان موطناً لحريّة طيور الطبيعة. والمِشجبِ الذي يعلّق عليه ابن آدم ثيابه وأخطاءَه. والنبّوتِ الي يحمل الكثير من معاني مساعدة الإنسان مثل كونه: «قولٌ بليغٌ حين يرفع عالياً متوعِّداً أحداً/ بعيداً عن أساليب الخطاب». وسهامِ الصياد، المثيرة للتساؤل: «هل هي فكرةٌ للحرب/ أم هي فتنةُ التكثيف في معنى الحراب». والأقلامِ التي هي: «رسلٌ مفوَّهة تقلِّبها الأصابع/ سيرةٌ ذاتيةٌ لسلالة الأشجار/ حارسةٌ وحافظةٌ لتاريخ الحياة من الذهاب». وسلّمِ المنزل المتنقل، الذي يماثل الصعود الإسلامي بكونه «معراجُ أهل البيتِ/ مصعدهم إلى الأشياء عاليةً/ وآخذُهم إلى فوق السطوحِ/ وخالقُ الأمل الضئيلِ/ بأنَّ أذرعَهم تطول سماءهم/ مُدْنِي أصابعهم/ من الأحلام والنجم البعيدِ/ وأول الأفكار والأسبابِ/ كي يطأوا السحاب». ومحراثِ الفلاح، الذي يعكس أنسنة العلاقة مع التراب. والبابِ الذي «هو صورة الحرية الأولى/ وغايةُ ما تتوق له معاني هذه الأعتاب».
ويتقدم في الفصل الثالث عالم القراءة، في الكتاب الذي على الإنسان مماثلته بنفسه. وفي كتاب الأرض، الذي يعيد للرؤية بكارتها. وفي مشاركة الإنسان لذاته. وفي وجه الأب بحنين الصبيّ، وفي تقفّي الطريق والتساؤلاتِ عن صحة الوجهة فيه. وفي وفاء الحذاء للإنسان، وتذكيره بفضيلة الامتنان للأشياء التي ترتبط بحياته قريناً وخادماً له.
ويتقدّم في الفصل الرابع عالمُ التأمّلات: في البكارة، بدعوة اللطف في معاملة الجسد وفض بكارة الأشياء، وفي المخيّلة، بتلاقح المتضادات، وبمفاضلات شعرية المصنوع والصانع. وفي العبودية، التي تتجلّى في: «أن أظل ضعيفاً وهشاً أمام عيون الجميلات/ أن يتملّكني نحوَ ما صنَعَتْهُ يدايَ الندمْ/ أن يفيضَ خيالي بما لا أطيق/ ولا أتفجر مثل اللغَم». وفي الضغينة، التي تتحول إلى تسامح وعناق. وفي الأمل، حيث يعرِّف الشاعر بصورته عن نفسه: «أنا فكرة الإنسان/ يخلقها ليبقى باسماً في وجه واقعه العبوس/ ويحتمي بي من يرى الأشياء سوداويةً/ مثل احتماء العابر البردان/ في دفء البيوت». وفي الشهوة التي تتخلق في القلب/ وتنمو كالنار/ ولا يطفئها غير دمٍ يتدفق كالماء السائل. وفي الصدأ، وتأمل معانيه.
ويتقدَّم في الفصل الخامس عالم «ثنائية»: العلاقة التي يخاطب الشاعر فيها المرأة بالتنكير، «فهل ثمّ متسعٌ في سمائك/ يا امرأةً من نهارٍ وحلوى/ لنجمي الحزين». والسرير الذي هو «شاهدٌ لا يبوح بشيءٍ/ إذا ما رآك تجرِّب عاهرةً فوقه/ ويضمّكَ في رقّة وحنوٍّ/ إذا مرةً خذلتْك الحياة».
ويتقدَّم في الفصل السادس عالمُ الوجوه، بتصدير جملة فولتير: «وجه الإنسان سيرته الذاتية»، في النطفة، واحتمالات كونها ومآلها. وفي وجه المساء الذي يتعدّد، تحت عين الزمن الذي يسري ويأكل أجساد الكائنات. وفي ماسحِ الأحذية، الذي يماثله الشاعر مجازاً بنفسه وتجاربه مخاطباً إياه بـ«مثلك/ كنت أنظِّف أحلام البسطاء من الخيبة/ أنفض عن وجه امرأةٍ دمعاً وأسىً/ وألمّ الشهداء زهوراً ذابلة في الحرب». وفي فراغ قلب الشاعر من جدّته ستيرة، وندمه على قصر وقته معها. وفي زهرة عائلته الجدة عليّة. وفي عايدة، الشهيرة بأوبراها، والتي يسرد فيها جنون الحب، والغيرة والخَيار.

توليد العوالم والتجديد:

في توليد العوالم ووضعها بين يدي القارئ، يمكن التذكير بمفهوم العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، وبموضوع اكتمال دائرة تأثير ربط عالم الشاعر بأسلوبه، في أمثولة محمود درويش المستذكَر من قبل حافظ، فراشةَ النور للبشر، ومثالَه الذي: «هكذا../ أتلاشى بشعريةٍ وأذوبُ/ لأشعل باللهب الفذّ ذاكرة الأغنيات». مع إضافتنا لهذه الأمثولة مأثرتها العنقائية الشعرية المعروفة عن نهوض درويش من رماد كل مرحلةً إبداعية يخلقها وتُذكّرُنا بالمراحل التي أصبحت أسطورةً في مسيرة بيكاسو.
ويمكن للقارئ تلمّس جوهر أبعاد هذه المجموعة في خلق عالم شعري وفي أسلوب هذا الخلق، من جهةٍ أولى: بتفحّص قصيدة «الفراشة» في «كائنات الظلال»، التي تكملُ عناصرَها الفنية بالتداخل المبدع مع محمود درويش، في بيت شعره الذي أصبح أيقونةً للأمل، وفي جداريته التي أصبحت مثالاً للحكمة وتجاوز المتعارف عليه، حيث: «دودةً كنتُ/ أزحفُ نحو مصيري/ وأحلم بالأزرق المشتهى في السماءِ/ برفرفةٍ بين زهر البساتين/ بالركض بين الأزقةِ… «أتخيّل عالميَ المتمثّل في برعمٍ/ تتثاءب وردته/ في ندى شجرٍ يحتفي بالربيعِ/ وفي فمِ بنتٍ تطلُّ الحياةُ بكامل فتنتها/ في ابتسامتها../ فأقول: «على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ»/ أتخيَّل ما سأكونُ/ وألتفّ شرنقةً حول نفسي وأحلم../ أرسم زركشتي فوق أجنحتي لوحةً/ وجداريةً/ سوف أحملها سيرةً شبه ذاتيةٍ لجمالي الفريد.»… «وأعود لشرنقتي ثانياً/ حين أحتضن النار خابيةً في المصابيحِ/ أصهر ذاتيَ في زيتها/ فكرةً/ سوف تخضرُّ ـ من بعد ما احترقت ـ ألفَ ذات».
ومن جهة أخرى في سبر أسلوب الشاعر، الذي تكمن مختبئة فيه شياطين تفاصيل كلمة «لكن»، يتجلّى أسلوب حافظ بانتهاجه في جميع القصائد طريق قصيدة التفعيلة، بمواصفات السّرد القصصي الشعري، مثلما يفعل في قصيدة الهدهد وقصيدة عايدة، كأمثلة واضحة، ومواصفات اعتماد تلازم قافية المقطع بدلاً من قافية البيت في القصيدة العمودية، وتعدّي هذا الاعتماد إلى القصائد التي تأتي بعد القصيدة الحاملة للقافية، الأمر الذي يولّد ربط مجموعة القصائد المستقلة في الفصل كقصيدة واحدة. مع مواصفات محاولة إيصال التناغم بين الشكل والمعنى إلى ذرى متألقة في شكل توزع الأبيات، مثلما يفعل في قصيدة «الطيور المهاجرة» التي تتراصف أبياتها خلف وبجانب بعضها كما لو كانت تراصف طيور مهاجرة في السماء:

«غمائم من رفرفات…

قبائل أجنحةٍ…

مهرجان مناقير…

شعبٌ من النازحين…»

هكذا تنظرون إلينا ونحن نمرُّ…»

ولكنْ! إلى جانب الكثير من المواصفات التي تميّز قصيدة حافظ؛ وكما لا ينجو سوى العمالقة المعصومين بإبداعهم مثل المعلم محمود درويش، لا ينجو الكثير من قصائد المجموعة، من مواصفات ما يلاحَظ على عموم قصائد معظم شعراء التفعيلة، المحمولة على محفّة وصولها إلى مآزق ضيق سعة المجال الذي يُنجي الشاعر من تكرار ما صنع الآخرون، بالنسبة للوزن والقافية، وإلى صعوبة التحكّم في موسيقى القصيدة وكسر رتابة التفعيلة، إن لم ينزلق الشاعر إلى فخاخ ترتيب قصيدةٍ عموديةٍ وفق أسطر قصيدة التفعيلة، فيكسر أوزانها بتحريك أو تسكين قوافيه، ناسياً حكمَ استقلال بيت القصيدة العمودية. ثم إلى المعضلة الأخطر التي تتحول فيها القافية إلى ديكتاتورٍ يقسر بسيفه المعاني، ويوجّهها إلى غير اتجاهات الترابط المتماشي العميق المتألق، ويتحوّل فيها الوزن إلى جبلٍ يقسر الرجلَ الضعيف بحمله إلى الاستناد على كافات التشبيه وقدّ التحقيق، والتخلّي عن حمل ما هو ضروري، إلى حمل ما لا يفيد ترابط طريق الرحلة.
أحمد حافظ: «الأشياء في ملكوتها»
دار العين للنشر، القاهرة 2024
168 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية