الأعلى والأدنى وجمالية الإيحاء في مجموعة «تفاحةٌ يانعةٌ وسكينٌ صدئةٌ»

أما قبل: في أسطورة الإغريق، حكاية ربات ثلاث (هيرا، مينرفا، فينوس)، حضرن عرسا بدعوة من الزوجين، وثار غضب «إيريس» إلهة النزاع والخصام بسبب عدم دعوتها، فرمت للربات الثلاث تفاحة ذهبية كتبت عليها (إلى الأجمل).. وقام النزاع بينهن لاعتقاد كل واحدة أنها الأجمل والأجدر بأخذ تلك التفاحة. احتكمن إلى أحد الرعاة يسمى «باريس» للفصل بينهن. وبعد أن اتفقن على الخضوع لحكمه كيفما كان، حاولت كل ربَّة استمالة «باريس» بشيء يغريه. واستطاعت فينوس أن تغويه، فوعدته بالحب والزواج من أجمل امرأة في العالم، فألقى التفاحة في يدها وصارت من نصيبها.
كانت المرأة الأجمل التي وعدته بها، هي «هيلين» زوجة ملك أسبرطة «مينيلوس». فأبحر إليها، ثم ما لبث في ضيافة الملك كثيرا، إذ نجح في إغراء هيلين كي تبحر معه إلى طروادة، وعلى ذلك قامت حرب طروادة التي ورد ذكرها في إلياذة هوميروس .
لهذا، تمثل التفاحة رمز الغواية في الميثولوجيا الإغريقية، وفي غيرها من الثقافات. كما تأتي في التراث الديني (المسيحي والإسلامي) حيث ترتبط بقصة آدم وحواء، والشيطان والشجرة المحرمة والجنة.
بالنظر في سياق أسطورة تفاحة فينوس، نجد بدايتها كانت غواية أنتجت حربا طويلة امتدت زمنا. كما نجد أن الغواية في قصة «آدم وحواء» كانت نتيجتُها خروجَهما من الجنة، أي الهبوط إلى الدنيا. والهبوط هو النزول أو الانخفاض، أي نزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى منزلة. كما ورد في النص القرآني: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ»، فالهاء عائدة على ـ المكان- الجنة التي كانت مسكنهما الأول، باعتبارها أعلى منزلة من الدنيا (المكان الجديد). والأدنى يعني الأقل قيمة كما ورد في القرآن في سياق رده على بني إسرائيل في مسألة اختيارهم للطعام: «قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ».
ولعل الصيغة التي ورد بها الخطاب مع فعل الأمر «اهبطوا»، تفيد بأن نتيجة اختيارهم الدنيوي تقتضي حركة انتقال من مرتبة أعلى إلى مرتبة أدنى، لتفضيلهم (البقل، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل) على المن والسلوى، الذي هو طعام منزل: «وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ». وبتركهم المُنزَّل، عوقبوا بنتيجة الهبوط إلى مصر من أمصار الدنيا ليحصلوا على الأدنى قيمة. وبناء على ما سبق: هل دائما ترتبط التفاحة – كرمز للغواية – بالهبوط من الأعلى نحو الأدنى؟ أم أن الغواية غوايتان، غواية تؤدي إلى التدني، وغواية تتعلق بالنص الذي يجلب المتعة للقارئ في مجال الأدب، خاصة أن غواية النص مرتبطة بالحكي لخصوصية الإيهام التي يهيئها في ذهن المتلقي.
فكيف يبرز هذا المفهوم في المجموعة القصصية «تفاحة يانعة وسكين صدئة» للقاص المصطفى كليتي؟ وما هي الدلالة التي يوحي بها العنوان، والتي يؤدي عبرها وظيفته؟
دلالة العنوان
تحمل المجموعة القصصية «تفاحة يانعة وسكين صدئة»، عنوان النص الحادي عشر – حسب ترتيب النصوص التي بلغت 81 قصة، واحتل الصفحة 15 من الكتاب – هذا العنوان الذي يمثل نصا موازيا، يشد القارئ لجماله وتركيبه اللغوي العميق، لاسيما أن دلالته التأويلية تتجاوز دائرة الدلالة الحرفية (الظاهر)، بحيث تنزاح ألفاظ الجملة لتفتح المجال لإنتاج معنى له وظيفة أخرى غير التي نستقبلها حرفيا من خلال ظهر الغلاف.
يؤطر العنوان خانة الدلالة المرسلة قصد توجيه القارئ وإقناعه، وحيث تفتح أمامه أفق التخيُّل، ويُفضي ذلك إلى فهم الإشارة دون التباس أو غموض. نأخذ من العنوان رمزيتين تمثلان دعامتين أساسيتين لنصه المصغر، بما تمنحانه من حمولة دلالية تساهم في مقاربة النص:
أ) التفاحة: ترمز للغواية والإغراء، (كما ورد في أسطورة فينوس). وفي قصة آدم وحواء، كانت سبب خروجهما من نعيم الهناء إلى جحيم العناء، الذي تمثله الدنيا بنكدها وشقائها وصراعاتها وحروبها المتكررة والمتواصلة منذ الوجود البشري إلى يومنا هذا، أو منذ أول عملية قتل في التاريخ نفذها قابيل، فهو هبوط من الأسمى نحو الأدنى.
وترتبط التفاحة كذلك بمفهوم الجاذبية، على اعتبار نيوتن مكتشف قانون الجاذبية الأرضية، انطلقت نظريته من سقوط التفاحة (من شجرة)… وهذا يدعونا إلى التساؤل هل هناك علاقة رمزية بين الغواية والجاذبية، خاصة أنهما يشتركان في خاصية الاجتذاب؟ أما عبارة «تفاحة يانعة». فاليانع هو الناضج الذي حان وقت قِطافه. والنضج حالة مرتبطة بالزمن والعمر، ونقول فتاة أينع شبابها، إذا بلغت سن الكمال والفتوة.

ترتبط التفاحة كذلك بمفهوم الجاذبية، على اعتبار نيوتن مكتشف قانون الجاذبية الأرضية، انطلقت نظريته من سقوط التفاحة (من شجرة)… وهذا يدعونا إلى التساؤل هل هناك علاقة رمزية بين الغواية والجاذبية، خاصة أنهما يشتركان في خاصية الاجتذاب؟

ب) السكين: آلة حادة وظيفتها القطع والطعن، أو الذبح. ترمز إلى الصراع والقتل، أي تُحيل على الدم. والسكين علامة لأول افتتاح يكرس سنة الأضحية في التاريخ. وتتحول إلى آلة تعذيب في حالة ما لم يتم صقل شفرتها لتصبح قاطعة، لهذا نجد النص الديني يؤكد على إراحة الذبيحة (الأضحية) حتى في لحظة القتل: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، ولْيُرح ذبيحته». إذ لا يُعتبر الذبح المفضي مباشرة إلى الموت عذابا، لكن في المقابل، السكين التي لا تمر بسرعة لتعجِّل بالقتل، تمارس هذا المفهوم، ذلك لأن الموت لا يعتبر عذابا، وقد ورد في القرآن: «والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها»، فالموت حسب هذه الآية، راحة قد يتمناها من وقع عليه العذاب الشديد. أما ما يشير إليه الشق الثاني من العنوان، «وسكين صدئة»: يحيل إلى كون الآلة/ الأداة معطلة بفعل عامل الزمن، لأن الصدأ طبقة تعلو الحديد إذا قَدُمَ أو تقادم، وسكين صدئة (أو صدئ) يدل على أنها أداة غير مستخدمة أو مهملة، والصدأ كذلك حائل بين وظيفتها الأساسية (القطع)، وأيّ محاولة، إنما هي إثارة لمزيد من العذاب، تماما كالذي يذبح أضحيته بسكين صدئة غير حادة. وبناء على هذا التأويل لرمزية التفاحة ورمزية السكين، تتضح المفارقة بين تفاحة (ناضجة) يانعة حمراء كلها نضارة وحياة وإغراء، وسكين صدئة أرخى الزمان عليها آثاره، ولم تعد صالحة لفعل القطع لإهمال طالها، أو لانتهاء صلاحيتها.
بقراءة أقصوصة «تفاحة يانعة وسكين صدئة» نقف على كلمتين متضادتين [شيخ، صبية]، يقول السارد: «قال المستخدم عبر الهاتف المحمول: – شيخنا الجليل بلغ من العمر عتيا، والزوجة الجديدة ما تزال صبية». وصبية، مؤنث صبي، أي شابة وفتاة في مقتبل العمر، وتقابلها الشيخوخة، وهي آخر مرحلة عمرية. بهذا نكون أمام مرحلتين عمريتين متفاوتتين، وتفاوتهما يشكل فارقا زمنيا كبيرا. ثم نجد كذلك في العنوان عبارتين متضادتين على مستوى الدلالة: [يانعة، صدئة]، ليأخذ التركيب الدلالي في مستواه التخيلي، هذا الشكل:
صدئة] = صبية يانعة # صبية] + [يانعة # [شيخ
هذه العلاقة المتنافرة بين تفاحة يانعة، وسكين صدئة، تفضي إلى تجسيد صورة مجازية بُنيت على علاقة المشابهة، بخرقِ منطقيَّة الإسناد، وذلك بإسقاط حقل معجمي على حقل معجمي آخر. فاتضح أن مرحلتين عمريتين تمثلهما شخصيتا الشيخ والصبية، أدت إلى علاقة غير متوافقة ولا مكتملة الغاية، كما تبين في خاتمة النص: «أطلقت العروس صرخة مولولة ألما، قهقه الشيخ معتزا برجوعه إلى صباه»، ولا شك أن الألمَ شعور ملازم لشخصية العروس (الصبية) حالا ومآلا بفعل ظلم أكدته مضمرات النص وتجليات العلاقة الفاشلة التي أشارت إليها هذه القرينة، وفي تصوير مجازي بليغ: «لهثت خيول الشيخ الهرمة فوق جسمها النافر الغضِّ، تفصد عرقه وقواه تكاد أن تنهار». بهذا العنوان قدَّم الكاتب مجموعته القصصية، وهو نص مركب من جملتين نعتيتين معطوفتين بالواو. الجملة الأولى «تفاحة يانعة»، توحي بالسمو على مستوى التعبير اللغوي، وكذا على مستوى معناها ودلالتها التي تمنح القارئ استقراء أثرها الجمالي أو استشعاره بتجربته الذوقية، التي تتعالق بالتصورات الذهنية المسبقة، خاصة لو تم استثمار الدلالة الرمزية التي تتمثل في [الحب/الغواية].
أما الجملة الثانية، فإلى جوار جماليتها اللغوية التركيبية والتعبيرية فهي أقل درجة وأدناها، على مستوى الدلالة المشار إليها والتصوير المتخيَّل، أي أن «سكين صدئة» تعبير يومئ إلى الدونية وإلى تمثلات تتجلى في الإكراه والاعتداء والظلم.
هذه المجموعة القصصية تستعرض قوتها الإقناعية معتمدة على سلم تراتبي ينطلق من الأعلى نحو الأدنى، في نسق تأويلي تخلقه النصوص. تعالج عوالمُها قضايا إنسانية تستمد مرجعيتها من الواقع/الحاضر وصيرورته، ومن متغيرات العالم، ومن التاريخ والتراث الإنساني… كل هذا ينعكس على مرايا الوعي عند الكاتب فيروم صياغة متخيله ضمن منجزه الإبداعي.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية