كلما اشتدت أزمات العراق تصاعد لغط مشروع الأقاليم العراقية، أو ما بات يعرف بـ»فيدرالية الترويكا العراقية»، أو بشكل أوضح تقسيم العراق إلى إقليم كردي، هو موجود على أرض الواقع، وإقليم سني يطالب بعض ساسة السنة بين الحين والآخر بإقامته، وإقليم شيعي، هو المتهم الأساس بدفع الآخرين إلى هذا التشتيت.
يحاول بعض الباحثين ترسيخ أطروحة الأقاليم، التي يراد تشكيلها الآن بالاستناد إلى معطيات تاريخية مفادها، أن العراق «دولة مزيفة»، وأن البريطانيين أوجدوها من دمج ثلاث ولايات عثمانية هي بغداد، والبصرة، والموصل، بعد الحرب العالمية الأولى عندما انتصر الحلفاء وتقاسموا أراضي الدولة العثمانية الخاسرة في الحرب. إلا أن المثبت تاريخيا أن العراق بحدوده المعروفة اليوم تقريبا كان موجودا قبل 1921، تاريخ تأسيس المملكة العراقية، وسيبقى كمعطى تاريخي وجغرافي وهوياتي فاعل في المنطقة إلى زمن لا يعرف أحد مداه. لكن كيف ابتدأت فكرة الأقلمة العراقية، والتفتيت الذي يحاول بعض الساسة رسم خرائطه اليوم؟ متى ابتدأت الفكرة؟ ومن وقف وراءها ودفع بها في محاولة لتحويلها إلى قشة الخلاص التي يتعلق بها المختصمون اليوم؟
إذا أردنا أن نناقش كل هذه الأسئلة بصيغة تبتعد قدر الإمكان عن نظريات المؤامرة، يمكننا القول إن أطروحة الفدرالية كانت من متبنيات الأكراد تاريخيا، فهم وعبر تاريخهم الحديث، وبعد تفتيت الدولة العثمانية، سعوا إلى لم شتاتهم الذي توزعوا فيه بين دول المنطقة الاربع. وكان مطلب الفدرالية واضحا إبان تفاوض الاكراد مع حكومة البعث الثانية بعد 1968، وقد طالب حينها الملا مصطفى بارزاني بنظام اتحادي يتكون عبره العراق من إقليمين عربي وكردي، وأن يحظى الإقليم الكردي بصلاحيات واسعة في إدارة شؤون سكانه، وتعثرت المفاوضات كثيرا، بسبب عقد تتفجر هنا وهناك، ربما كان أبرزها مطالبة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى بارزاني بضم كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان، وهذا ما رفضه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، الذي كان نائب رئيس مجلس قيادة الثورة حينها، والمفاوض الأول مع الأكراد.
بقي طموح الأكراد بتقرير المصير، وإقامة دولتهم القومية يتأرجح متذبذبا مع الوضع السياسي، وبعد حرب تحرير الكويت عام 1991 وما تبعها من انتفاضة عراقية، تبلور وجود معارضة عراقية، حاولت أن تجمع شتاتها تحت مظلات اقليمية ودولية، ساعية لأطاحة نظام صدام حسين، ومن المؤتمرات المؤثرة في تاريخ المعارضة العراقية، كان مؤتمر فيينا، الذي عقد في يونيو/حزيران 1992، الذي انبثق عنه تشكيل «المؤتمر العراقي» كهيكلية أو مظلة تتوحد تحتها فصائل المعارضة العراقية، لتنسق أعمالها لتحقيق الانتصار على نظام صدام حسين. وقد اشترط الحزبان الكرديان الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني حينذاك أن تكون مشاركتهما في مؤتمرات المعارضة مشروطة بالاعتراف بالفدرالية، وبحق تقرير المصير للأكراد، وتم لهم ذلك فعلا لكسب ثقلهما، ولكن من جانب آخر رفضت ذلك بعض فصائل المعارضة العراقية مثل، التيارات القومية العربية، وبعث سوريا قيادة قطر العراق، وبالتالي رفضت الانضمام للمؤتمر العراقي.
الحل الأمثل لعراق مقبل هو دولة المواطنة التي يحظى بها الجميع بحقوقهم، وتقع عليهم الواجبات بالتساوي
منذ تلك اللحظة بات أمر العراق المكون من إقليمين أمرا مفروغا منه، بل لا يجرؤ أي سياسي عراقي على مناقشته، وإلا اتهمه الساسة الاكراد بالشوفينية والصدامية وما شابهها من تهم. الخارجية البريطانية التي كانت تتابع وتدير ملف المعارضة العراقية بتفويض أمريكي، تعاملت مع الحركات والأحزاب والتيارات وفق ما عرفوا هم أنفسهم به من هويات حزبية، طائفية، إثنية. فالاحزاب الشيعية كانت في الأعم الأغلب أحزاب إسلام سياسي شيعي منقسمة إلى كتلتين كبيرتين، هما المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، كمظلة ضمت عددا من الاحزاب برعاية طهران، أما الكتلة الاخرى فتمثلت بحزب الدعوة الإسلامية، والحركات التي خرجت من عباءته، وقد توزعت على المنافي الاقليمية والاوروبية، لكن هذه الاحزاب في لقاءاتها وحواراتها مع البريطانيين، قدمت نفسها على أنها أحزاب تمثل الشيعة في العراق، وأن الشيعة هم الاغلبية، وبالتالي يجب التعامل معهم بصفتهم ممثلي الأغلبية.
ممثلو السنة توزعوا على طيف من الحركات العلمانية والإسلامية، فمنهم الحزب الإسلامي العراقي، وهو جناح الإخوان المسلمين في العراق، ومنهم قيادات قبلية، ومنهم ضباط سابقون، وسياسون مستقلون، وقد دخلت المملكة العربية السعودية عام 1992 على حراك المعارضة العراقية، وما يرسم لعراق ما بعد صدام حسين، وحاولت أن تستثمر في المشروع، لتوازن النفوذ الإيراني والسوري، ولتكون لها كلمتها في الأمر، فقامت بدعم حركة الوفاق الوطني، والمجلس العراقي الحر، وشخصيات سياسية مستقلة، وأصبحت منصة الرياض أحد المنصات الفاعلة في رسم خطط المعارضة العراقية.
مما سبق يتبين، أن الطبقة السياسية التي جاءت بعد إسقاط الولايات المتحدة لنظام صدام، وحاولت فرض أجنداتها التي اتفق عليها سياسيوها في مؤتمرات المعارضة السابقة، ومن رحم هذه العلاقات، ولدت معادلات «الترويكا العراقية»، التي باتت تعرف محليا بالمحاصصة، حتى نزل التحاصص واستشرى من أعلى هرم السلطة إلى أبسط إدارة من الإدارات الحكومية.
ولننظر الآن إلى مستقبل الأقاليم التي يعتبرها البعض حلم الخلاص الذي سيخرج البلد من أزماته المتكررة، ويتم ذلك عبر تسويق أحلام زائفة لشارع كل حزب، أو طائفة أو قومية. فساسة الكرد يسوقون حلم الدولة القومية، ويزوقونه بالترهيب من أنفال وإبادات وقصف كيماوي جديد، إذا قويت بغداد وسيطرت على الإقليم، لكنهم بالمقابل يحاولون إخفاء واقع الإقليم المنقسم إلى دولتين بحكومتين وجيشين يحكمها ورثة آل طالباني وآل بارزاني، وتتحكم بهاتين الدولتين مافيات الفساد وتهريب النفط وسرقة الأموال العامة ورصها في بنوك الغرب، وإن أطماع ايران في شرق الإقليم (السليمانية وحلبجة)، وأطماع تركيا في غرب الإقليم (أربيل ودهوك) لن تقف عند حدود في حال استقلال الإقليم، وإن احتماليات اندلاع الحرب الداخلية عالية جدا، بالإضافة إلى النزاعات الخارجية المتوقعة مع الإقليم السني على المناطق المتنازع عليها في كركوك وسهل نينوى، أو مع الإقليم الشيعي في المناطق المتنازع عليها في ديالى.
أما الإقليم السني، الذي روج له أصحاب مشروع الإقليم بوصفه خلاصا من تسلط الطبقة السياسية الشيعية، وأجندات إيران في العراق، وإن هذا الاقليم الصحراوي يمتلك من الثروات المائية التي تتحكم بحياة الإقليم الشيعي، بالإضافة إلى الثروة النفطية الهائلة المدفونة في رماله، ما يؤهله لأن يكون صنوا لدولة الإمارات العربية في المستقبل، لكن واقع الحال على الارض يقول إن هناك خط صدع واضح بين شمال الإقليم المزعوم يفصل شماله ممثلا بنينوى عن جنوبه ممثلا بصلاح الدين والأنبار، وإن نزاعات الزعامات السياسية والقبلية على المال المنهوب في العراق الموحد ستلد نزاعات دموية داخلية أعنف وأشد، للسيطرة على السلطة والثروة في الإقليم الجديد. وقد أشار إلى ذلك رئيس مجلس النواب السابق سليم الجبوري في حوار تلفزيوني يوم 23 يناير/كانون الثاني الجاري، وذكر أن «الإقليم السُني خيار دستوري، وإن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي أفشل إقليمي ديالى وصلاح الدين، رغم وجود موافقات ومخاطبات من القضاء العراقي، كما أفشلته قوى سياسية تسمي نفسها معارضة»، وحذَر الجبوري من أن «الموصل ستنضم إلى تركيا بسبب اتفاقية لوزان، في وقت لا تدرك القوى السياسية هذه المعلومات والاتفاقيات الدولية».
أما الإقليم الشيعي الذي يرقد على بحر البترول، فلا يحتاج إلى الكثير من التعريف والتوصيف، فقد بانت رثاثة الطبقة السياسية الشيعية وأحزابها وميليشياتها التي نهبت ودمرت العراق عبر 17 عاما من وجودها على قمة هرم السلطة، وإن نزاع النفوذ بين الفصائل والميليشيات سيندلع حتما مع اليوم الأول لإقامة الاقليم، الذي فشل بعض الساسة مثل السيد عبد العزيز الحكيم في إقامته عام 2006، لكن تغير المعطيات فتح شهية ساسة آخرون على طرح الموضوع من جديد. ويجب الإشارة إلى أن النزاعات البينية مع الإقليمين، التي اشرنا لها سابقا، ليست هي الخطر الوحيد الذي يهدد الإقليم، بل سيكون هنالك تهديد متمثل بابتلاع ايران لهذا الاقليم، بالإضافة إلى مواجهة التهديد الخليجي من جنوبه. لكن من جانب آخر يمكننا القول إن تجارب دولية حديثة عديدة سعت إلى الاندماج أو التكتل أو تكوين الكيانات السياسية والاقتصادية، بغرض امتلاك القوة والقدرة على الوجود والمنافسة، مثال ذلك كل الدول المكونة من كيانات توحدت في إطار فدراليات، مثال ذلك الفدرالية الماليزية، والفدرالية الهندية. أما على صعيد تكتلات الدول، فإن الاتحاد الاوروبي يمثل التجربة الاهم، على الرغم من كل المعوقات التي واجهت الوحدة الاوروبية. ويبقى الحل الامثل لعراق مقبل هو دولة المواطنة التي يحظى بها الجميع بحقوقهم، وتقع عليهم الواجبات بالتساوي، وبدون دولة المواطنة ستبقى الازمات تتوالد والعثرات تتكرر.
كاتب عراقي
تراكم استفزاز حرس ثوري إيران للعالم وإصراره على التمركز بالعراق والسيطرة عليه عسكرياً واقتصادياً وسياسياً سيؤدي لتكاتف دولي لتحجيم العراق لخمس حجمه الحالي بإبعاده عن كردستان والأنبار وكربلاء والنجف والبصرة وشط العرب والخليج العربي وإعادة السيطرة على تلك المناطق لسكانها الأصليين عرب وكرد ومسيحيين وقصر إنفاق ثروات تلك المناطق لتحسين عيش مواطنيها، وبالتالي حصر العراق المصغر التابع لحرس ثوري إيران بالمنطقة الوسطى بين بغداد وحدود إيران وتدمير بنيته الإرهابية ووضعه تحت حصار خانق أسوةً بإيران.
لا حول ولا قوة الا بالله