في نوفمبر/تشرين الثاني 1942، حلت قوات أمريكية في ثلاثة موانئ من شمال افريقيا: الدار البيضاء المغربية، الجزائر العاصمة وكذلك وهران. في المدينتين الأولى والثانية نعرف ماذا جرى فيهما عقب وصول الأمريكيين، فقد وردت شهادات كثيرة في الموضوع، مثلما صورت أشرطة، لكن لم ترد وثائق كافية عما حصل في وهران، وما ورد منها يتحدث عن معركة دارت بين الأمريكيين، من جهة، ومن جهة أخرى كتائب مسلحة تتبع الماريشال فيليب بيتان، الذي كان موالياً للنازية، وانتهت بانتصار الأمريكيين، الذين انضموا إلى قوات الحلفاء، في مواجهة دول المحور. ثم انطلقت عملية عسكرية، أطلق عليها «عملية الشعلة»، في التخلص من النازية في تونس وكذلك ليبيا، ثم الإنزال في صقلية، والوصول إلى إيطاليا ثم تحريرها. فالجزائر لعبت دوراً في عملية التحرير، ولكن هذا التاريخ لم يحظ بالعناية، ونظن أن من الأجيال الجديدة من لم يسمع عن إنزال أمريكي، في تلك السنوات، مثلما لا نكاد نعرف الكثير عما وقع في وهران في تلك الأثناء، لكن شاهد عيان عن الأحداث، أتيح لي أن ألتقي به، وأجرى معه حديثاً مطولاً، سرد علي ما خفي عن مدونات المؤرخين، وأقصد منه بلاوي الهواري (1926-2017)، حيث التقيت به قبيل أن يرحل إلى دار الخلود، وهو يتقمص كامل ذاكراته، فقد كان من أشهر المغنين في الجزائر، وكذا من ألمع الملحنين، اشتغل على طابع فني، عرف باسم «الوهراني»، الذي سوف تتفرع منه موسيقى الراي.
بنطلون جينز وعلكة
عندما التقيت ببلاوي الهواري، كان شعره قد تلون بالرمادي، لكن ملامحه لم تتغير، فهو من نوع الرجال الذين يحافظون على وسامتهم، على الرغم من تقدمهم في السن. يداوم على الابتسام، ويتكلم بنبرة خافتة فيها وقار. والغريب في حالة بلاوي الهواري، أن الرجل كان يعاني من لثغة في الكلام. لا يتكلم بشكل متدفق، بل تشوبه صعوبة في إتمام الجمل، ولعل الأمر يرجع إلى عامل السن، مع ذلك فعندما ينطلق لسانه في الغناء، يصير في كامل العذوبة والتحكم في مخارج الحروف، وفي الإمساك بالمقامات، من غير عثرة واحدة. وهذه واحدة من الأشياء التي زادته إعجاباً في أعين الناس، فقد كان يتحدث بصعوبة، لكنه يمارس الغناء مثل شاب في العشرين، من غير أن يبدو أن الزمن ترك بصمة على حياته. كان قد تقدم في السن، لكن الغناء يعيده إلى سنوات الشباب. وفي سنوات الشباب، بل في سن المراهقة، أي قبل ان يتجاوز السادسة عشرة من عمره، عمل بلاوي الهواري حاجباً في ميناء وهران، وكان شاهداً على وصول الأمريكيين. كان على نقطة التماس الأولى مع القوات التي حلت في المدينة. يتذكر ما دار من أحداث، كيف تخلص الأمريكيون من موالين للنازية، وما دار من صدامات، ولكن تلك الأحداث السياسية والعسكرية لم تعن شيئا لبلاوي في صغره، بقدر ما كان مشغولاً بشؤون الموسيقى. عمله حاجباً في الميناء كان يتيح له مالاً من أجل التفرغ إلى الغناء والتلحين. ولكن عقب وصول الأمريكيين، وجل الذين نزلوا في وهران، كانوا من أصول أفرو- أمريكية، فأكثر ما بقي في باله هي أسطوانات موسيقى الجاز، التي أحضروها معهم، فعندما سمع الجاز، وعندما رأى تلك الأسطوانات، ازدادت رغبته في أن يسجل أسطوانته الأولى. فقد حمل الأمريكيون الجاز إلى وهران، بينما بلاوي الهواري كان يغني «طابع الوهراني»، ولم يكن الأجانب يعرفون عنه شيئاً، لكن سنوات سوف تمضي وتقام حفلات راي في أمريكا، وتجري فيها إعادة أغاني بلاوي الهواري، التي صار البعض منها من التراث الجزائري، ومن مشاهير الراي (على غرار الشاب خالد)، يتزاحمون في استعادتها. لا يتذكر بلاوي الهواري فقط الجاز، بل يتذكر كذلك بنطلونات الجينز، التي رآها للمرة الأولى، قوارير كوكا كولا والعلكة، التي جلبها الأمريكيون معهم. لم يأتوا من أجل حرب فحسب، بل جاؤوا محملين بأغراض ثقافية كذلك، ولم يكن بلاوي الهواري منشغل البال بشؤون السياسة، بقدر انشغاله في شؤون الفن، واستثمر هذا اللقاء مع الأمريكيين في تجربته الخاصة.
أسمع صوت العود
على خلاف الكثيرين من جيله، كان بلاوي الهواري يغني ويلحن أعماله. وعقب ملاقاته الأمريكيين في الميناء، عاد إلى مقهى يدير والده شؤونه، والواقع في «الطحطاحة»، وسط وهران، وشرع في تلحين واحدة من الأغاني، التي سوف تصير من أشهر أعماله، بعنوان «اسمع»، بمساعدة واحدة من أقاربه، مستخدماً العود، ثم آلة أخرى تشبه العود اسمها «كويترة»، ثم توالت نجاحات بلاوي الهواري، مع أغانٍ أخرى، على غرار «راني محير» أو «المرسم».
ولكن الأسطوانات الموسيقية، التي رآها في حوزة الجنود الأمريكيين، الذين نزلوا في الميناء، ظلت محفورة في باله، وأراد أن يسجل هو كذلك أسطوانته، يؤدي فيها الأغاني التي كتبها ولحنها، أو الأغاني التي اقتبسها من قصائد شعبية، وفي عام 1949، أي عقب سبع سنوات من إنزال الحلفاء، سوف يصدر أول اسطوانة له (45 لفة)، ثم تلتها أسطوانة أخرى، تعاون فيها مع شقيقه، الذي كان ملحناً كذلك، ثم توالت أعماله، التي سوف تتنقل، مع السنين، من تصنيفها في الطابع الوهراني، إلى تصنيفها في الراي. ويحسب له أنه أدخل إلى الموسيقى، في الجزائر، لون السماعيات، مثلما أدخل إليها ربع المقام، وخاض حياة سجل فيها ما يربو عن 500 أغنية، قبل أن ينهي حياته قائداً للأوركسترا في الإذاعة والتلفزيون، يؤدي حفلات، طافت من الجزائر إلى أوساكا (اليابان).
كل هذه الحياة الحافلة التي خاضها بلاوي الهواري صارت جزءاً من السيرة الثقافية للبلاد، مثلما كان إنزال الأمريكيين في ميناء وهران جزءاً من سيرة تاريخ أكبر، وإن كانت المدونات التاريخية في دول شمال المتوسط، تتذكر لحظة انخراط الأمريكيين في الحرب، فإننا بالكاد نصادف مراجع عنهم في الجزائر، كذلك هي هوايتنا منذ زمن طويل، نحفظ ما نشاء من التاريخ، ونلغي منه ما نشاء.
كاتب جزائري
شكراً على هذا المقال الرائع، والذي بالكاد نجد مثله إذ ينم عن إلمام وجهد من طرف الكاتب، ما يجعلنا نفخر بتراثنا الثقافي الذي صار عرضة للاستنساخ بمحاولات بائسة من طرف شذاذ الآفاق.
الجزائر تتوع ثقافي كبير كبر مساحتها الشاسعة وأناقة أهلها وسماعهم المستوحى من قدم حضارتها الضاربة في جذور التاريخ منذ زمن إمبراطورية نوميديا العظيمة التي حكمت شمال افريقيا و كانت عاصمتها ايكوزيوم و سيرتا قسنطينة حاليا
وهل المقام يسع المقال؟ كان الامريكيون يحاربون النازية و الفاشية و اليوم يدعمونها بالمال و السلاح و الإعلام و السياسة و يهددون بالانزال في غزة لترحيل اهلها !