الأمن ومعضلة الديموغرافيا الإسرائيلية

ثمة تداعيات كبيرة على الداخل الإسرائيلي بعد عملية طوفان الاقصى في السابع من تشرين الأول /أكتوبر المنصرم، وإضافة الى الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية المتراكمة وشهدت الساحة الإسرائيلية انقسامات شاسعة على المستويين المجتمعي والحزبي، لكن الثابت أن العملية النوعية ستؤسس بكل تأكيد لهجرة يهودية معاكسة من فلسطين المحتلة ، في وقت يعتبر الهاجس الديموغرافي والاستمرار في إنشاء المستوطنات ثوابت جوهرية للحكومات الإسرائيلية، وكذلك للاستراتيجيين الإسرائيليين.

الهجرة العكسية

شهدت إسرائيل في السنوات الأخيرة توجها متزايدا لليهود الإسرائيليين الى الهجرة العكسية خارج فلسطين المحتلة، وتحديداً إلى أمريكا وأوروبا ذات الجذب الاقتصادي الكبير، وهو الخيار السائد عند آلاف الشباب من اليهود الإسرائيليين مع ترؤس بنيامين نتنياهو حكومة أكثر يمينية في تاريخ الدولة المارقة إسرائيل بتوليفة من الأحزاب الحريدية والتيار الديني واليمين المتطرف.
تعتبر الهجرة اليهودية الهاجس اليومي لإسرائيل والحلقة الأهم على الاطلاق في المشروع الصهيوني؛ وهناك عوامل جاذبة ليهود باتجاه فلسطين المحتلة؛ في مقدمتها الأمن والرفاه الاقتصادي والشعارات المزيفة التي نجحت بداية وسقطت مع مرور الوقت، وكذلك العامل الاقتصادي، ليصبح عنصر الاستقرار الأمني الإسرائيلي هو الأهم والأبرز بالنسبة للمهاجر اليهودي المحتمل من دول العالم، ولهذا تمت عملية تعميم فكرة يهودية إسرائيل وقوننتها قبل عدة سنوات، كمحاولة جادة لجذب مزيد من يهود العالم إلى فلسطين المحتلة، فالحركة الصهيونية وإسرائيل؛ تعتبران اليهود في كافة دول العالم بمثابة المادة البشرية لتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية من جهة، وركيزة لاستمرار المشروع الصهيوني برمته في المنطقة العربية وعلى حساب الشعب الفلسطيني.
ويلحظ المتابع أنه على الرغم من مرور أكثر من خمسة وسبعين عاماً على إنشاء إسرائيل، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والمؤسسات الإسرائيلية لم تستطع جذب سوى (41) في المائة من إجمالي يهود العالم إلى فلسطين المحتلة، ولهذا يستغل قادة إسرائيل كافة المناسبات للتأكيد على أهمية جذب مزيد من يهود العالم إلى فلسطين المحتلة.
وتبعا لأزمة الهجرة اليهودية بفعل تراجع العوامل الطاردة والجاذبة، سعت وتسعى إسرائيل بالتعاون والتنسيق مع الوكالة اليهودية إلى تمويل حملات كبيرة ومنظمة في المستقبل من أجل جذب نحو (200) ألف من الأرجنتين، وعدة آلاف من يهود الفلاشا في إثيوبيا، فضلا عن محاولات حثيثة لاجتذاب نحو (80) ألفا من يهود الهند وجنوب افريقيا، هذا في وقت باتت فيه أبواب هجرة يهود أوروبا وأمريكا الشمالية في حدودها الدنيا بسبب انعدام عوامل الطرد منها، في وقت باتت فيه عملية طوفان الاقصى تؤسس لاحتمالات هجرة يهودية معاكسة بعد انكشاف صورة إسرائيل الهشة أمنياً وعلى كافة الصعد.

الطرد والإحلال

ارتكز المنطلق الاستراتيجي لسياسة الإحلال والتهويد الصهيونيين في فلسطين على أربعة أسس، تتفرع عنها جملة مبادئ، لأغراض مرحلية التنفيذ، وفق الإمكانات الصهيونية المتاحة؛ وهي، العمل الصهيوني الدؤوب لجذب يهود العالم إلى فلسطين، لكونها العامل الحاسم لزيادة مجموع اليهود في فلسطين وتطور أعدادهم، فضلاً عن العمل على تهويد الأرض العربية، بعد احتلالها ومصادرة ما يمكن مصادرته بطرق عديدة، إضافة إلى محاولة تهيئة الظروف السياسية، لطرد ما أمكن من العرب الفلسطينيين، ومن ثم إقامة المستوطنات لتغيير الجغرافيا والديموغرافيا، لصالح المشروع الصهيوني، وقد تم التركيز على إيجاد اقتصاد صهيوني، من شأنه أن يكون عاملاً جاذباً لمزيد من يهود العالم، من خلال تحقيق مستويات معيشة مرتفعة ومعدلات نمو عالية.
أما الركيزة الصهيونية الأهم، أي تهويد الأرض الفلسطينية، فإن تلك العملية تطلبت السيطرة على الأرض الفلسطينية بشتى الطرق والوسائل، وقد وضعت لها آليات منظمة ومؤسسات تنفيذية، تعمل بدقة عبر وسائل عديدة، منها المجازر والإجلاء القسري والاستيلاء على الأرض الفلسطينية بحجج التطوير تارة والضرورات الأمنية تارة أخرى، وقد لعبت المؤسسات الصهيونية المختلفة، مثل الصندوق القومي اليهودي، والوكالة اليهودية، فضلاً عن الاحتلال البريطاني، لعبت دوراً مهماً في نقل ملكية الأراضي العربية الفلسطينية لليهود، وكان الاستيطان الصهيوني المعلم الأساسي لاحتلال فلسطين .
والثابت أنه على الرغم من نشاط مؤسسات الحركة الصهيونية المحموم، لم تستطع السيطرة سوى على (9،1) في المائة من مساحة الأراضي الفلسطينية التي أنشئت عليها دولة الاحتلال الصهيوني في 1948، في حين ساهم الاحتلال البريطاني بالقسط الأكبر من التسلل اليهودي إلى الأراضي الفلسطينية والسيطرة عليها.

أشكال الكفاح

تعتبر عملية طوفان الأقصى من أنجح العمليات الفدائية في تاريخ الكفاح الفلسطيني منذ عام 1948، حيث كشفت هشاشة إسرائيل على كافة المستويات وأنهت دون رجعة مقولة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وبطبيعة الحال سيكون ذلك دافعاً لاستمرار المقاومة الفلسطينية المتواترة بأشكالها المختلفة داخل فلسطين التاريخية، كرد طبيعي على سياسات الاحتلال الإسرائيلي؛ من تهميش ومصادرة أراض ونشاط استعماري وتقتيل واعتقال واقتحامات مبرمجة لباحات الأقصى المبارك.
وقد توضحت بشكل جلي هشاشة الأمن الإسرائيلي بعد عملية طوفان الأقصى في داخل العمق الإسرائيلي، رغم النفقات المالية المرتفعة المخصصة لذلك والتي تصل إلى نحو (25) في المائة من الموازنة الإسرائيلية السنوية؛ وستكون لذلك انعكاسات على آفاق الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة وكذلك الهجرة المعاكسة منها؛ خاصة بين فئة الشباب من اليهود الإسرائيليين، حيث لم تعد الدولة المارقة جاذبة لمهاجرين محتملين من يهود العالم ، ناهيك عن عدم وجود عوامل طاردة من الدول التي يوجد فيها جاليات يهودية كبيرة في أمريكا والغرب وكندا.

الاستقرار الأمني

والثابت أن عنصري الاستقرار الأمني والرفاه الاقتصادي يعتبران من أهم العوامل الجاذبة لمهاجرين يهود من دول العالم ، وبعد خلخلة الأمن الإسرائيلي ستكون من أهم تداعيات نجاح عملية طوفان الأقصى وانعكاساتها على الوضع الإسرائيلي برمته ، ازدياد أرقام الهجرة المعاكسة لليهود الإسرائيليين خلال الشهور المقبلة وسيكون ميزان الهجرة اليهودية سلبيا بكل تأكيد ، كما حدث خلال انتفاضة الاقصى التي انطلقت في نهاية ايلول/سبتمبر من عام 2000 ، وإن لم تفصح عنها معطيات المجموعات الإحصائية ودوائر القرار ومؤسسات البحث المختلفة في إسرائيل.
ومن نافلة القول أن ركيزة الديموغرافيا بشقيها المتمثلة بعمليتي طرد الفلسطينيين وإحلال المزيد من المهاجرين اليهود من دول العالم إلى فلسطين المحتلة ، ستبقى توجهاً إسرائيلياً استراتيجياً؛ في وقت تواجه فيه إسرائيل معضلة ديموغرافية حقيقية ، تتمثل بارتفاع النمو السكاني الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية والتمسك بالأرض ورفض فكرة ترحيلهم وإفشالها، فضلاً عن ارتفاع وتيرة الهجرة العكسية للإسرائيليين اليهود وتراجع الهجرة اليهودية من دول العالم إلى إسرائيل بسبب الهزات الامنية وتراجع النشاط الاقتصادي .

كاتب فلسطيني مقيم في هولندا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية