غض النظر عن نتائج اللقاءات السياسية والمؤتمرات وورش العمل التي عقدت خلال الفترة الماضية، أو التي متوقع انعقادها في مقبل الأيام، وغض النظر عن ما جاء من تفاصيل في مخرجات ووثائق هذه اللقاءات والمؤتمرات وورش العمل من إعلان للمبادئ ومن تفاصيل حول العملية السياسية والترتيبات الانتقالية بعد توقف الحرب، وعلى الرغم من صحة الطرح الذي ينادي بمخاطبة جذور الأزمة والتصدي للمسببات الرئيسة للنزاعات والحروب في السودان والعودة إلى منصة التأسيس… فإن الأولوية القصوى اليوم والتي يجب أن نركز كل جهودنا حيالها هي كيفية وقف القتال وإنقاذ حياة السودانيين عبر توفير العون الإنساني وتأمين ممرات إنسانية لمدهم بالدواء وضروريات الحياة.
صحيح الجميع ينادون بتأسيس أوسع جبهة لهذا الغرض، وهي مناداة صحيحة وواقعية، ولكنها قطعا بديهية، لأن لا بديل لها. ومع ذلك، تتعثر الخطى في هذا الاتجاه حتى اللحظة، رغم أن الأفق لا يخلو من بعض بوارق الأمل. ولعل البند الأول في برنامج عمل هذه الجبهة، متى ما تشكلت، هو التوافق حول دور ومساهمة القوى المدنية في كيفية وقف الحرب، بمعنى الإجابة على العديد من الأسئلة حول المساءلة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها من انتهاكات، وحول مستقبل قيادة الجيش ومستقبل قوات الدعم السريع والميليشيات الأخرى، ومخاطبة المأساة الإنسانية الراهنة والمتفاقمة في البلاد، ورفض أي عملية سياسية يكون هدفها الرئيس فقط هو اقتسام كراسي السلطة أو الشراكة مع أي من طرفي القتال… وغير ذلك من الأسئلة التي ناقشناها بالتفصيل في أكثر من مقال سابق، بالإضافة إلى تفعيل دور القوى المدنية والشعبية داخل وخارج البلاد الرافضة للحرب ولخطاب العنصرية والكراهية، وخلق الآليات الضرورية والملائمة للتنسيق والتحالف مع الجهود الخارجية الدولية والإقليمية، بهدف التوافق حول آليات الضغط الممكنة على طرفي القتال لإخراس لعلعة الرصاص.
لقد كررنا كثيرا القول بأن حلم الشعب السوداني اليوم هو وقف الحرب والعودة إلى مسار ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة ورتق جروح الوطن وبسط السلام الشامل في ربوعه. لكن، كل ذلك لن يتأتى إلا بتوفر الإرادة والرؤية والأداة المناسبة عند قياداتنا، بما في ذلك القناعة الصادقة بأن وقف الحرب وبسط السلام وإعادة بناء الوطن عبر مخاطبة جذور الأزمة الممتدة منذ فجر الاستقلال، يحتاج إلى توسيع مبدأ القبول والمشاركة ليسع الجميع إلا من ارتكب جرما في حق الوطن والمواطن، فهولاء مصيرهم المثول أمام العدالة.
ومن هنا كانت ولا تزال دعواتنا المتكررة لتطوير اللقاءات والسمنارات التي عقدتها وستعقدها القوى المدنية السودانية لتنتظم في مؤتمر مائدة مستديرة جامع للقوى السياسية والمدنية الرافضة للحرب والساعية لاستعادة مسار الثورة، مع ضرورة اشتراك الجميع في تفاصيل التحضير، والتقيد بالشفافية في كل خطوات العمل، والتي يجب أن تكون بعيدة عن أي مؤثرات خارجية، إقليمية أو دولية.
بعد مرور ستة أشهر على المؤتمر العالمي الذي حاز إعجاب الجميع لاتزال توصياته دون تنفيذ علما بأن الوضع الإنساني الآن في السودان أشد سوءا وأضخم كارثية مما كان عليه
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وبمبادرة من مجموعة من المنظمات المدنية السودانية، انعقد في القاهرة مؤتمر عالمي لمخاطبة التحديات التي تواجه تقديم المساعدات الإنسانية بشكل فعال لأكبر أزمة إنسانية في العالم بعد مرور سبعة أشهر على اندلاع الحرب في السودان. لم يكن هدف المؤتمر هو حشد الدعم المادي أو العون الإغاثي، وانما تشريح الوضع الإنساني في السودان بشكل حقيقي ومباشر، واستكشاف ودراسة التحديات التي تعيق فعالية تقديم المساعدات الإنسانية وكيفية التغلب عليها ودعم التنفيذ السلس والفعال لمبادرات المساعدات الإنسانية، تعزيز الجهود التعاونية والتنسيق بين منظمات الإغاثة الوطنية والدولية من خلال إنشاء منصة للحوار والتنسيق المفتوح، وتقديم حلول عملية مملوكة للسودانيين لمواجهة أي تحديات تعيق إيصال المساعدات، ومعالجة التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي في الاستجابة للأزمة.
لقد كان المؤتمر عالميا بحق من حيث المشاركة المحلية والإقليمية والدولية، إذ حضره أكثر من مئة مشارك جاءوا من داخل السودان ممثلين لغرف الطوارئ وللمبادرات العاملة في المجال الإنساني في كل ولايات السودان، كما شارك ممثلون للاجئين السودانيين في دول تشاد واوغندا وكينيا واثيوبيا وجنوب السودان ومصر. أيضا، شارك في المؤتمر خبراء سودانيون من شتى مجالات العمل العام، بالاضافة الي مئة واثنين مشارك ومشاركة من منظمات الإغاثة الدولية وهيئات الأمم المتحدة المتخصصة والمنظمات الدولية الاخرى العاملة في السودان، وخاطبه، عبر الإنترنت، عدد من القيادات والشخصيات العالمية المرموقة. وخرج المؤتمر بتوصيات، روعي فيها أن تكون قابلة للتنفيذ، في مجالات الحماية الاجتماعية، الصحة، التعليم، الأمن الغذائي، الانتهاكات الجنسية والعنف ضد المرأة خلال الحرب، والتنسيق وتكامل الأدوار بين الجهود العالمية والمحلية، كما تم تسليط الضوء على الروافع التي يمكن أن تساعد في تشكيل الطريق إلى الأمام.
كل ذلك ضمن في تقرير واف نشر على نطاق واسع، كما تم رسم خطة عملية لكيفية تنفيذ توصيات المؤتمر، ومشاركتها مع أصحاب المصلحة في السودان، ومع منظمات الإغاثة الدولية وهيئات الأمم المتحدة المتخصصة والمنظمات الدولية الاخرى المعنية بتنفيذ العون الإنساني للسودان.
وكان المؤتمر، في بيانه الختامي، قد شدد على أنه ليس مجرد حدث احتفالي ينتهي بانقضاء مراسمه، بل هو بداية لعملية متكاملة ومستمرة حتى تتجسد ثمارها على أرض الواقع في شكل وسائل فعالة لتنشيط الاستجابة لمواجهة الكارثة الإنسانية في السودان. لكن هل تحقق ذلك؟ للأسف، وبعد مرور ستة أشهر على المؤتمر العالمي الذي حاز إعجاب الجميع، لاتزال توصياته دون تنفيذ، علما بأن الوضع الإنساني الآن في السودان أشد سوءا وأضخم كارثية مما كان عليه إبان أنعقاد المؤتمر. صحيح أن طرفي القتال يتحملان قدرا من المسؤولية في ذلك، ولكن المجتمع الدولي الذي شارك في المؤتمر وبين يديه توصياته وخطط التنفيذ المقترحة يتحمل قدرا مماثلا. ندعوه لفتح نقاش حول الأمر حتى لا تستفحل الكارثة.
كاتب سوداني