تكررت مجموعة من الأسئلة، مع تصاعد حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة، والتضامن العربي والعالمي الكبير مع الشعب الفلسطيني، يمكن تلخيصها بالصيغة التالية: «لماذا فلسطين، وليس السودان أو سوريا أو اليمن، أو معاناة أي شعب آخر؟» وهذا لا يعني فقط أن القضية الفلسطينية، من منظور طارحي تلك الأسئلة، تتخذ موقع الصدارة الإعلامية دون سواها؛ وإنما قد تُستخدم أيضاً للتغطية على ممارسات دول وميليشيات قمعية، تحمل راية «القضية» أو تبرير تلك الممارسات. وجود قضية فلسطينية مركزية، في فضاء ثقافي ومنطقة شديدة الاتساع، ومليئة بعشرات القضايا، سيعني أن على جماعات بشرية كثيرة أن توفّق بين مآسيها الاجتماعية وطموحاتها السياسية، وما يُحدد بوصفه ضرورات القضية المركزية؛ كما يفتح الباب لمعاقبة تلك الجماعات وتحطيمها، بحجة أن مطالبها ستعرقل جهود المعركة الكبرى ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو حتى تشكّل «طابوراً خامساً» في الجبهة الداخلية ضد الصهيونية. يمكن مثلاً لميليشيا الحوثي أن تضرب اليوم أي فئة من الشعب اليمني، مشرعنة ذلك بضرورات الحرب الإقليمية الكبرى، التي تداخلت فيها نصرةً لفلسطين؛ أو لأنصار حزب الله في لبنان أن يهددوا باجتياح بيروت مجدداً.
قد لا يبدو طرح هذا النوع من الأسئلة، في ظل حرب إبادة إسرائيلية شديدة البشاعة، مناسباً للمخيّلة السياسية والأخلاقية لكثير من سكان المنطقة، إلا أن الإشكالية التي يثيرها لم تعد ممكنة التأجيل، لأنها لا تتعلّق فقط بـ»تضارب مصالح» مفترض بين الفلسطينيين ومجموعات سكانية كبرى في المنطقة، بل أيضاً بالمفاهيم الأيديولوجية المؤسِّسة لـ»الأمة» والذات الجمعية فيها. نعم، يمكن القول بثقة إن «القضية الفلسطينية» أهم من أي قضية أخرى، لأنها مركزية أيديولوجياً، بمعنى أنها بناء سياسي وخطابي، تم تأسيسه على مدى عقود، وتكراره والإضافة إليه في دول متعددة، عبر أنظمة السياسة والتعليم والإعلام والدين. وهذا البناء أسَّسَ لفهم الأغلبية لمعاني العدل والخير، ودون «القضية» سيجد كثيرون عسراً شديداً حتى في تعريف ذواتهم وفهمها.
إذا لم نكن كلنا، ملتزمين لأجل فلسطين، فمن نحن إذن؟ هل سنكون أفضل من مجرّد مجموعة من الخونة، أو الأشخاص الذين لا هوية لهم، أو غير المبالين بالحق الكامل والواضح؟ كل قضية يمكن التشكيك والجدل فيها، ورؤيتها من منظورات مختلفة، بل حتى عدم الاكتراث بها، إلا فلسطين. يمكن هنا أن نفهم جيداً لماذا فلسطين وليس السودان مثلاً، لكن يبقى السؤال: هل قضية مركزية بهذه المواصفات مفيدة لفلسطين أصلاً؟ ثم كيف يمكن لأي قضية أن تصير مركزية؟
فوضى «القضية»
مرت «القضية الفلسطينية» بمراحل متعددة، من «التحرير الكامل»؛ مروراً بـ«السلام» وفي مواجهته «الصمود والتصدي»؛ ومن ثمّ «السلام العادل والشامل»؛ وبعدها نهاية أي إمكانية للتفاوض، ومحاولة حصار إسرائيل حقوقياً وثقافياً، باعتبارها دولة تقمع «السكان الأصليين» الفلسطينيين، وتقيم نظام «أبارتايد» على أسس عرقية ودينية؛ وأخيراً مرحلة حرب الإبادة، ومحاولة إيقافها، وجر إسرائيل إلى المحاكم الدولية. ومع كل مرحلة من هذه المراحل تراكمت مفردات ومفاهيم وصيغ لغوية، من الصعب جداً أن تتسق في طرح أو خطاب واحد. رغم هذا فهي «القضية».
من المتعذّر بشدة الجمع بين طروحات ترفض وجود إسرائيل، وأخرى تطالب بحل الدولتين، وثالثة تعارض الأبارتايد الإسرائيلي، لكنها تؤيّد، بشكل مباشر أو غير مباشر، التطرف الديني القائل بـ«اللعنة على اليهود» (كما في حال ميليشيا الحوثي) ونظام الولي الفقيه الثيوقراطي في إيران؛ فضلاً عن أن الهوية الفلسطينية نفسها تشتتت بين «عرب ومسلمين» و«سكان أصليين» و«شعب فلسطيني».
قد يبدو البحث عن الاتساق السياسي والخطابي في «القضية» ترفاً في ظرف الحرب، لكن هذه الفوضى المفاهيمية، تشير إلى ما هو أكثر من تعدد الفاعلين في قضية مركزية، إذ أن غياب السؤال عن المفاهيم أصلاً، يعني أنه لا نيّة جديّة لدى كثير من أنصار القضية بإنتاج فعل سياسي واجتماعي، له أهداف ومطالب ورؤى، ويصبح الأمر أقرب لتعامل المؤولين الدينيين القدماء، مع ما تراكم لديهم من نصوص وتعاليم وأقوال، غير متسقة غالباً، لكن التعاطي معها كلها ينتج مجال الإيمان، الذي لا يسعى للاتساق الكامل، بقدر ما يبغي التجربة الدينية نفسها.
قد يكون النظر إلى القضية الفلسطينية، بوصفها جانباً من تجربتنا الأخلاقية والسياسية، أمراً ضرورياً، وله أهميته النظرية، لكن عندما نتحدث عن مسألة سياسية متفجّرة دوماً، تؤثّر بشكل مباشر على حياة عشرات ملايين البشر، في فلسطين وما حولها من دول ومناطق، وتهددهم بوقائع قاسية، ومنها الإبادة الجماعية والتهجير والقمع الممنهج، فلن يكون عدم الاتساق المفاهيمي في «القضية» إلا مساهماً في زيادة الأوضاع سوءاً، وطريقة لاستغلال الفلسطينيين أولاً، باسم قضيتهم العادلة، وكذلك جيرانهم من شعوب المنطقة، من قبل جهات سلطوية متعددة المصالح والارتباطات. تصبح «التجربة الفلسطينية» هنا سبباً للتدمير الذاتي، وليس طريقة لتطوير الفعل السياسي والمنظور الأخلاقي، بما ينتج فهماً منضبطاً لمعنى «الحق» و«العدل».
عانى الفلسطينيون طويلاً من تدخّلات متعددة، من دول الجوار العربي خاصة، في تحديد شؤون قضيتهم؛ ودفعوا أثماناً باهظة، لضمان استقلال قرارهم الوطني، ومع أن هذا بات من الماضي لأسباب متعددة، فإن المعارك الدموية، التي خاضتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قبل عقود، ضد أطراف عربية وفلسطينية، في سبيل استقلال قرارها، وفرض مفهومها الخاص عن الحل، كانت دليلاً على مدى ضرر اعتبار «القضية» مركزية عربياً.
بهذا المعنى فإن «القضية المركزية» لم تعد تعني إجماعاً سياسياً لشعب أو مجموعة من الشعوب، والمتضامنين العالميين معها، على منظومة من الأهداف والرؤى، لانتزاع حق متعيّن، وإنما مادة خام أيديولوجية، سهلة الاستغلال، ومؤدية لنشوء مصالح سلطوية معقدة، بين أنظمة قمعية مختلفة، أقامت جانباً أساسياً من شرعيتها عليها؛ وحركات سياسية ذات أهداف وأفكار وعلاقات متضاربة؛ ومنظمات متعددة المشارب والاختصاصات، تعتاش على «القضية». وهذا لم يكن حال معظم قضايا التحرر الوطني، التي عرفت جهات منظمّة ومعترفاً بها، من قبل شعبها على الأقل، تحدد معنى قضيتها، والمطالب التي تؤدّي إلى حلها.
عانى الفلسطينيون طويلاً من تدخّلات متعددة، من دول الجوار العربي خاصة، في تحديد شؤون قضيتهم؛ ودفعوا أثماناً باهظة، لضمان استقلال قرارهم الوطني، ومع أن هذا بات من الماضي لأسباب متعددة، فإن المعارك الدموية، التي خاضتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قبل عقود، ضد أطراف عربية وفلسطينية، في سبيل استقلال قرارها، وفرض مفهومها الخاص عن الحل، كانت دليلاً على مدى ضرر اعتبار «القضية» مركزية عربياً. لكن، هل يمكن إعادة بناء «القضية المركزية» بوصفها القضية الأعدل، بما يتجاوز كل هذه الإشكاليات؟
مركزة القضايا
يرتبط إنتاج «قضية مركزية» بالضرورة، بهوية الجماعة السياسية التي يجب أن تحملها، فقد ساهمت «القضية الفلسطينية» بصيغتها القومية والإسلامية الكلاسيكية، ببناء هوية العرب المعاصرين بأكملهم، وفي فهمهم لأنفسهم بوصفهم «عرباً» و«مسلمين» ورغم وجود محاولات أخرى لبناء «القضية» بوصفها قضية طبقية أو أممية، فإن الطرح القومي/الديني كان دائماً الأكثر تأثيراً.
لهذا فإن إعادة طرح القضية، بعد عملية «طوفان الأقصى» ساهم فعلاً بانبعاث «الأمة» لكن ما بُعث كان أمّة متعبة وممزقة وعاجزة عن الفعل إلى حد كبير، ويبدو أنها لن تستطيع الاستمرار، ليس فقط بسبب المأساة التي حلّت بغزة وأهلها، بل أيضا بسبب تخبّطها الكبير في التعامل مع المسألة الفلسطينية ومفاهيمها، ولأن التزامها بـ«القضية» لم يغط على الانقسام الطائفي داخلها، ولم ينجح في تقديم أفق للفئات الكثيرة في المنطقة، التي تعاني من الاستغلال والتمييز والإقصاء، شديد العنف، والذي يبدو أن تلك «الأمة» لا تقوم إلا عليه. قد يكون إعادة بناء القضية، بوصفها قضية تحررية وإنسانية، يستلزم رفض مركزتها، بالشكل الذي نعرفه، والاعتراف بتعددية المواقع السياسية والاجتماعية في كل بلد، وبالتالي تعددية القضايا ولا مركزيتها.
رفض الإبادة
إلا أن تعددية الفئات والقضايا، لا يمكن أن تستقيم في منطقة تشهد، منذ عقود، أصنافاً مختلفة من حروب الإبادة، سواء شنّتها دولة احتلال مثل إسرائيل؛ أو دول «وطنية» مثل إيران وسوريا؛ أو ميليشيات ترفع راية المقاومة في الدول المنهارة. والوعي بهذا قد يساهم في بناء فهم جديد لما يمكن أن يكون «قضية مركزية» تراعي التعدد في الوقت نفسه: التمسّك باستمرار حياة المجتمعات، والحفاظ على حقوقها الأساسية، وتقليدها المتحضّر. وهذا يعني رفض حروب الإبادة على أسس عرقية وطائفية، أياً كانت مبرراتها، و»القضايا» التي تدّعي حملها. رفض الإبادة والحفاظ على الحياة لا يعني فقط المطالبة بوقف الحروب في فلسطين واليمن والسودان وغيرها، بل أيضاً مواجهة أشكال الاضطهاد والكبت المروّع، الذي يعاني منه ملايين البشر، ومنهم الأقليات العرقية والدينية والنساء، والذي يعيق بالفعل استمرار الحياة. إنها دعوة للسلام في نهاية المطاف، ضمن مجموعة من الدول، التي لم تعمل، منذ نشأتها في العصر الاستعماري، إلا على شن حروب إبادة، سواء ضد جيرانها، أو ضد سكانها المتعددين.
يجعل كل هذا من قضية السلام قضيةً مركزيةً فعلاً بالنسبة للمنطقة وسكانها، سواء كانوا عرباً أو غير عرب؛ مسلمين، أو آخرين يأملون يوماً أن ينالوا حرية الضمير والمعتقد.
كاتب سوري
شكرا أستاذ محمد على المقال الجميل. من الصحيح ان النضال من اجل تحرير فلسطين يجب ان يكون مرتبط جذريا مع كل أشكال النضال من اجل التحرر. سواء على صعيد الشخص، الاسره أو المجتمع. غياب هذا النضال ليس ذنب الفلسطينيين أو القضيه الفلسطينية. على الضفه الأخرى تبين بالدليل القاطع ان السلام مع اسرائيل ليس منطلقا لأي نوع من أنواع التحرر بل هو أسلوب آخر لادامه الاستبداد. مصر هي المثال الفاقع لذلك.
مقال جميل التناول لكنه أحادي الرؤية.اقرب إلى
الرؤية اليسارية للقضية..وهناك رؤى أخرى لم
يقترب منها الكاتب..