الإسلاميون والربيع العربي: زرعٌ بلا حصاد

ليس بمقدور أي قارئ سوسيولوجي حصيف أن يُنكر الدور الذي لعبه الخطاب الديني في تثوير الإنسان العربي ودفعه للمطالبة بحقوقه في التوزيع العادل للثروة وفي ممارسة سلطانه في الحكم على امتداد تاريخنا القديم والحديث.. ولعل أكبر شاهد على ذلك الربيع العربي الأخير، فقد لاحظنا كيف كانت فاعلية الرموز الثقافية ذات الامتداد الديني، حاسمة في حشد الجماهير نحو الميادين من خلال حراك شعبي حقيقي متفاعل مع المكون العقدي الذي وفر له وقوداً رمزياً لم ينضب على امتداد سنوات هذا الربيع، على شاكلة ما كنا قد رأيناه من قبل في معارك التحرير، وفي الثورة الإيرانية، وفي جنوب لبنان وفلسطين.

نتائج مخيبة

لكن رغم هذه الطاقة الوقادة التي وفّرها الخطاب الديني المتبنى من قبل حركات الإسلام السياسي للشارع العربي، فإن النتائج كانت مخيبة تماماً، فسقفُ الشعوب كان دوما أعلى بكثير من كل النتائج المحصل عليها. بل إن هذا الخطاب قد تحول في محطات تاريخية حاسمة إلى حجر عثرة أعاقت حركية الشعوب نحو التحرر الفعلي كما يحصل الآن في السودان، وكما حصل في المغرب قبل سنوات حينما أحبط إسلاميوه النقاش السياسي حول «الملكية البرلمانية»، منغمسين في تجربة حكم ليبرالية قاسية، مررت أسوأ الملفات، اجتماعيا، في تاريخ المغرب المعاصر.
من الرائج، داخل الكتابات المتعاطفة مع هذا التيار، تسويغ الفشل بالعوامل الخارجية: الثورات المضادة، القوى العلمانية المعيقة،التي اختارت في أكثر من تجربة،كما في مصر أو الجزائر في مطلع التسعينيات، الاصطفاف إلى جانب المستبد خوفا،أيديولوجيا، من امتداد «الرجعية الدينية» داخل مجتمعاتنا الحديثة!… عوامل معاكسة فاعلة بلا شك، لكنها منتظرة من باب التدافع، والوعي، وقراءة التاريخ. فيما السؤال يبقى، من جانب آخر، ملحاً حول مدى نضج «الحركة الإسلامية»: فهل كانت، فعلاً، مستعدة بما فيه الكفاية لقيادة المرحلة؟ وهل كان بمستطاعها حقاً أن تطرح بديلاً مغايراً «للتدبير الفاسد المتداول» على مستوى نظرية الحكم والاقتصاد والتعليم والاجتماع.. أمام فقر أدبياتها داخل هذا الباب؟ فقرٌ بدت معه هذه الحركات، لدى تسلمها الحكم في بعض الأقطار العربية، مجرد آليات تنفيذية تشتغل بالمُتاح، وتمتح برامجها التشريعية من مرجعيات ليبرالية بعيداً عن مدار الانتماء. بل إن فقرَ التصور يبرز بوضوح أكبر في طبيعة الشعار المرفوع الذي كانت تؤطر به هذه الحركة ميادين الاحتجاج من مثل: « الإسلام هو الحل»،» الإسلام دين ودولة»،» محاربة الفساد».. شعارات عامة لا تحيل على أي مدونات تعاقدية جاهزة قابلة لتنزيل الشعار على أرض الواقع، بما يساهم في ابتكار حلول حضارية مفيدة للأوطان تُخرجها من التخلف والتبعية والاستبداد. فأقصى ما يُتمثَّلُ عن المجتمع « الإسلامي» البديل في ذهن الكثير من «أنصار الشريعة» الرافعين لمثل هذا الشعار العام، أن يتولى المتدينون الملتحون التقاة – على مقاس التجربة الراشدة المثال – مناصب الحكم والتسيير، وليس إنتاج مشروع حضاري مفرقي في التاريخ يهيئ السياق لاستنبات مثل هذا النموذج المأمول في العدل الإنساني.

نحو دولة الإنسان

المتتبع ليوميات الحراك السلمي في طبعته الثانية داخل السودان والجزائر، أو من خلال الحركات الاحتجاجية الجارية بين الفينة والأخرى داخل المغرب كنموذج، يلاحظ انفلاتها عن التأطير « الإسلامي»، فالمبادرة هي للتنظيمات اليسارية (السودان)، أو للاحتجاجات الشعبية العفوية (الجزائر)، أو للتنسيقيات والجمعيات الأهلية خارج سلطة الأحزاب الرسمية والنقابات التقليدية (المغرب). ما يمكن أن يلاحظ على هذه الموجة الجديدة من الربيع العربي، المرشحة للامتداد لاحقاً شرقاً وغرباً، هو طبيعة الشعار المرفوع الذي لم يتورط لحد الآن في النقاش الأيديولوجي، وإن كان المستبد حريصاً على جره إلى هذه الدائرة جرّاً (كما حصل في مظاهرة أنصار الشريعة بالسودان) لتشتيت التركيز على جوهر المعركة باعتبارها معركة إنسان داخل أوطان متخمة بالاستبداد والفساد وهدر الثروات.
ثاني هذه الملاحظات هو أن بلدين من العواصم الثلاث، محسوبان على «الحركة الإسلامية الإصلاحية»: حزب المؤتمر الوطني في النسخة السودانية، وحزب العدالة والتنمية بالمغرب. وكما يعلم المطلع فإن هذا النموذج الإصلاحي كان قد أصّل له «إخوان» ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بريادة حسن الترابي، الأب الروحي لفكرة المشاركة السياسية والتغيير من الداخل. وهو المشروع الذي أفضى في النهاية، بغياب البرنامج الإصلاحي المسبق، إلى نتائج عكسية: إلى التغطية على الاستبداد ( تجربة إخوان السودان)، أو إلى تضييع وهج ثورة (مصر)، أو إلى مهادنة النقيض (تونس والمغرب). للحد الذي دفع مفكراً وازناً بحجم عبد الله النفيسي إلى دعوة « الإخوان» إلى حل تنظيماتهم السياسية والرجوع إلى مهامهم الأخلاقية في الوعظ والإرشاد. فهم، بالنظر إلى طبيعة تكوينهم المنهجي – حسب وصفه – ( لا يصلحون للحكم ولا الحكم يصلح لهم). وهذا الاستنتاج،على ما يبدو، هو الذي عجّل القرار عند «إخوان» تونس بالفصل بين الدعوي والسياسي.

معاناة من الأمية

لقد أصبح من اللازم على الحركة الإسلامية إذا أرادت الاستمرار في مواكبة الخط التصاعدي لمطالب الشارع العربي أن تنتقل من سياسة الحشد الكمي إلى برنامج الكيف، من معيار الحجم (العاطفي في مجمله)، إلى النوع. إلى حركة تغيير حقيقية تقود المجتمع،عبر برامجها المفصلة، إلى آفاق المنافسة في معترك الحياة العالمية بما تتبناه من حلول إنسانية بدمغة حضارية. وإلا كان مصيرها مصير بقية الأحزاب التي تشكلت في بلادنا عقب خروج الاستعمار: نوادٍ للصداقة، و «مقاولات» تستثمر في رأسمال الخطاب السياسي لاقتسام المناصب المؤثرة، والمنافع والجبايات. فيما سيؤول الوضع بمناضليها الشرفاء، مع الأيام، إلى الخمود واليأس والاستسلام.
من المؤلم حقا ألا تستطيع الشعوب العربية، منذ القرن التاسع عشر إلى الآن، أن تحقق شيئا يذكر من نهضتها المأمولة رغم توالي المحاولات التي جعلت من أوطانها حقل تجارب مستباحاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. ما زالت البلاد العربية، عبر هذه المسافة الطويلة المستنفدة خارج الفعل المؤثر في حركة التاريخ البشري، تستورد كل شيء من « البيبسي»، إلى أصغر قطعة رقمية في أصغر جهاز إلكتروني إلى « العربسات». ما زال ما يقارب 60 في المئة من ساكنة العالم العربي يعاني الأمية، وما زالت مساهمة العرب في البحوث العلمية الرائدة لا تتجاوز حاجز الصفر(تحديدا 0،03 في المئة! ) ناهيك عن الاستبداد، والريع وهدر الثروات. من المؤسف أن يكون هذا هو حال العالم العربي في القرن 21، ومن المؤسف أكثر أن يتذرع السياسيون بالزمن الضيق المتاح لتجاربهم في الحكم، فقد استطاعت دول صغيرة و بدون أي رصيد حضاري يذكر، وبلا أي إمكانيات موازية لما يتوافر لعالمنا العربي، أن تنطلق سريعا إلى وضع النهضة في بضع سنين، فنهضة كوريا وماليزيا وإيرلندا مثلا لم تتطلب أكثر من عشر سنوات.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الإسلاميون هم الأفضل لقيادة الأمة لو أُتيحت لهم الفرصة بعدالة !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول عبد الكريم البيضاوي.:

    ‎لن يحصل تقدم إلا بعد عملية غسيل ذماغ كاملة للتخلص من رواسب زرعت فيه على مر عقود ‫,‬ من قبول بفساد خفيف لايضر أحدا ‫(‬ رشوة ‫)‬ إلى أنانية شخصية عوض التفكير بمصلحة الجميع ومعها يصلح الوطن ككل فيتقدم كما تقدمت أوطان ذكر اسمها‫.‬
    ‎مالم يحصل هذا فالصورة ستبقى قاتمة للأسف الشديد‫,‬ كل يفكر في مصلحة شخصية وصفقة مربحة ‫,‬ أما الوطن فهو يحاول السير من تلقاء نفسه‫.‬ لذا لن يحصل تقدم يذكر ربما لقرون قادمة‫.‬

  3. يقول سعيد:

    [28/06 à 01:00] Said: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
    توصيف جيد للسياق العام و التحليل السوسيوسياسي الظرف الراهن لكن لدي بعض الملاحظات
    [28/06 à 01:04] Said: القول بحركات الإسلام السياسي يمكن استبداله بالأحزاب أو الحركات ذات المرجعية الإسلامية فالإسلام السياسي يوحي كمصطلح أن هناك إسلام آخر بعيد عن مطبات السياسة
    [28/06 à 01:09] Said: ثانيا تم و يتم تسويق العدالة والتنمية على إنها ذات مرجعية دينية لجعلها شماعة تعلق عليها كل الشرور و من جهة اخرى لتمثل النموذج العلماني للاسلام السياسي من خلال ما يقدم من تنازلات في محاولة لخلق نوع من التعايش السلمي بين الإسلام كمرجعية و الليبرالية
    الراسمالية المتوحشة و الوصول الى الحل الوسط في الوقت الراهن و هو تسويق النموذج التركي في الفصل بين الدين والسياسة
    [28/06 à 01:14] Said: ما يغيب عن كثير من الباحثين هو أن المرجعية الإسلامية المعتمدة لدى ح ع ت هي وليدة ظرفية معينة اقتضتها مصلحة العلبة السوداء لدى المخزن اما القول الخطابي للواقع فهو إنها امتداد للحركة الشعبية للخطيب. و يستحسن العودة إلى مرحلة التأسيس لفهم تداعياتها الراهنة والمتمثلة في التنفيذ الجيد فوق العادة لأجندة العلبة السوداء في النظام السياسي

  4. يقول عبد الصمد:

    تحية للأستاذ مصطفى .. منذ اكثر من عشر سنوات وانا أتابع مقالاتك المتقطعة على القدس العربي..حقيقة كل واحدة منها تنسينا بأختها ! وعي لافت وقدرة كبيرة على الإقناع..تستحق عمودا في الجريدة …حفظكم الله

اشترك في قائمتنا البريدية