في البداية نذهب إلى الحكايات مُعتقدين أننا سنكتبها، ولكننا في ما بعد نكتشف أن الحكايات هي التي تكتبنا.
الحكاية خارج الكتابة شيء وفي الكتابة شيء آخر، ونحن أيضًا.
الحكاية خارج الكتابة تجربة عشناها، أو تجربة من عاشوها، وفي الكتابة تصبح حكاية من عاشوها ومن كتبوها، ومن سيقرأونها.
الحكاية خارج الكتابة يتيمة، لكنها في الكتابة سيدة ونحن أطفالها، تُعلِّمنا وترشدنا وتجعلنا نعيد تأمل أنفسنا؛ ما عشناه، ما نعيشه، وما ينتظرنا على عتبات الغد.
الحكاية التي نوثّقها، أو نسمعها، هي التي تتحوّل إلى أمّ نلدها نحن، ذكوراً كنا أم إناثاً؛ ولكننا ما إن نلِدها حتى تصبح معلِّمتنا، مع أننا في الظاهر نحن الذين أنجبناها بوعينا وثقافتنا ولغتنا، وبأحاسيسنا؛ بآذاننا إن كنا نسمع جيداً، وبأعيننا إن كنا نرى جيداً أيضاً.
من لا يملك بصيرة لا يستطيع أن يكتب، وأول البصيرة، القدرة على اختيار الحكاية.
عشرون امرأة من مدينة نابلس، تتراوح أعمارهن بين العشرين والستين، اجتمعن في ورشة كتابية أشرف عليها الكاتب الفلسطيني زياد خدّاش، لكتابة قصص عن نساء من غزة جئن للعلاج من مرض السرطان، في مدينة نابلس، ولم يستطعن العودة إلى غزة بعد السابع من أكتوبر.
يستند المشروع الذي أشرفتْ عليه جمعية منتدى التنوير الثقافي، في المدينة، بدعم من مؤسسة بيسان للبحوث والإنماء في رام الله، إلى الاستماع لشهادات النساء الغزّيات، ومنهن من نجون من المرض، ومنهنّ من يقاومن، ومنهنّ من رحلن، ولكن الهدف هو تحويل الشهادة إلى أعمال قصصية فنية، ستصدر بعنوان «غزّيات في نابلس/ قصص الحنين.. قصص الأمل».
كلنا حكايات، وأعني الفلسطينيين، أينما كنا، وأستعير هنا ما قالته تلك المرأة التي رفضت أن تُصرِّح من أي مدينة هي في القطاع، قالت: «كلنا من غزة»، ونحن كلنا من فلسطين، أولئك الذين يقفون مع غزة اليوم، بغض النظر عن الجنسية والدِّين والقرب والبعد. حكاية واحدة من أقاصي الشمال تُدمينا في أقاصي الجنوب، أو حيثما كنا، حكاية واحدة نحن، حكاية اسمها غزة، تُدمي كل قلب حيّ في هذا العالم.
قلت: تُعلِّمنا الحكايات التي نكتبها، وتُعيد لنا الكثير من الوعي بها وبما هو خارجها وبأنفسنا. وما تقوم به المشاركات في هذا الكتاب أفق للكتابة مفتوح لا يمكن أن يعرفن أو نعرف الآن مداه.
ذات يوم في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، كنت شابًا صغيرًا حين فكَّرتُ بكتابة رواية تقول لي ما الذي حدث فعلاً في فلسطين قبل النكبة. لم أكن أعرف ما الذي يمكن أن أصل إليه، حضَّرتُ كثيرًا وطويلاً، لكنني لم أدرك المعنى العميق لتلك الرواية المأمولة إلّا حين بدأت بكتابتها في ما بعد، حينما أنجبت مشروعًا سيصبح اسمه «الملهاة الفلسطينية» لم يكن قد خطر ببالي في البداية.
عام 2004 كتبتُ رواية ضمن «الملهاة»، اسمها «أعراس آمنة»، تتأمّل أحوال غزة بين الانتفاضتين الأولى والثانية، وامتداداتهما. أثناء كتابتها ولِدتْ تلك الجملة: «أتعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها، إنها تصبح ملكًا لأعدائنا».
يومها توقّفت وتأمّلت ما كتبتُ، وأدركت السبب الحقيقي لكتابة «الملهاة». لم أدرك ذلك خارج الكتابة، بل داخلها. الكتابة كالقفز في البحر، لا يستطيع الإنسان أن يكتب إلّا وهو يكتب، كما لا يستطيع أن يكتشف البحر إلا إذا سبح، وكلما غاص في داخله اكتشف أكثر.
كنت أقول دائمًا: قوة الكتابة قائمة في قدرتها على أننا نصبح قادرين على أن نعرف أكثر مما كنا نعرف قبلها، ونتجرأ أكثر في الوصول إلى مناطق لم نكن ندرك أنها موجودة فينا، قبلها.
وأكاد أقول إن كل واحدة من المشاركات في هذا الكتاب كانت قبل الكتابة شخصًا، وخلال الاستماع للحكاية شخصًا، وبعد الكتابة شخصاً آخر، تمامًا كما حدث لكل حكاية وصاحبة حكاية من هذه الحكايات.
بعض الكتب تشبه من يجلس على الشاطئ ويتأمل البحر. بعض الكتب تكتفي بماء يداعب الأقدام، بعضها يقطع مترين داخل الماء، عشرة أمتار داخل البحر، وبعضها خمسمائة متر، وبعضها يستطيع الوصول إلى الشاطئ الآخر.
سيبقى هذا امتحان الكتابة دائمًا مهما كان الموضوع الذي تتناوله.
في هذه الحكايات اليوم كاتبات قادمات يستمعن لنساء من غزة، كاتبات لم يُبدّدنَ كثيرًا من الوقت ليبدأن. معضلتنا أن الأجيال السابقة من الكاتبات والكتّاب تأخروا قليلًا أو كثيرًا، ولأسباب لم تكن مقنعة دائمًا، ما أدى أن تكون هناك كثير من الحكايات مُلْكًا لأعدائنا، حين مات أصحابها وماتت في صدورهم.
كل كاتبة هنا تعاملت مع الحكاية التي اختارتها بأحاسيسها ولغتها تحت سماء خبرة تتشكل أدبيًّا، وتحت وعي رائع بأهمية أن نكتب حكايتنا.
وغزة هنا، ليست غزة المدينة والبحر والنخيل والبيوت، غزة كل هذا وأهلها، نساؤها وأطفالها ورجالها متجمّعين في مئات آلاف الحكايات التي تطوف في الهواء باحثة عن قلوب تحتضنها ووعي يدرك أعماقها، ولا يمكن أن يكتبها أحد إذا لم تكتبها كاتباتنا الواعدات في هذا الكتاب وكاتباتنا وكتابنا في كل مكان. هذه المجموعة من الحكايات، بقدر ما هي بذرة لكتابات تولَد الآن، فإنها تؤسس لكتابات قادمة، لمرحلة تصبح فيها كلّ كاتبة قادرة على كتابة الحكاية التي تسمعها، وكتابة الحكاية المضمرة في داخلها، الحكاية التي لم تقلها لنا ساردة القصة، بل أنجبتها القصة ذاتها، فالكتابة نفسها هي القدرة على إيجاد علاقات بين حكايات يبدو ألّا رابط بينها، وبين شخصيات لم تجتمع من قبل فتجمعها، ولم تتحدث من قبل فتؤسس بينها لحوارات لا تنتهي.
الكتابة لا يمكن أن تكون بالأذنين والعينين وحسب، بل لا يمكن أن تكون بالثقافة وحدها والموهبة، الكتابة هي البصيرة الإنسانية، والبصيرة اللغوية أيضاً وبصيرة الضمير في الجمال وللجمال و….
أهم ما حدث هنا أن الهدف الأول من هذا المشروع قد تحقّق، وأعني بناء قصص طليقة استنادًا إلى أرضية الحكاية الشفوية، بتوسيع الحكاية، لتكون حكاية كل من يقرأ هذا الكتاب.
من الرائع أن تكون هذه البداية الرائعة للمشاركات هنا قد أشرف عليها منذ البداية وواكبها كاتب فلسطيني تعيش كتاباته الحكاية في عمقها، وتؤسس منذ زمن طويل لكتابة تليق بروحها وما تحتاجه من مستوى عال وهي تعبر عنها.
وبعد: لم نعد نمرّ بجانب حكاياتنا اليوم خطفًا، إننا نقيم فيها، كما نقيم في الطريق إلى حريتنا منذ ستة وسبعين عامًا؛ حريتنا التي لا نقبل أن تظل مؤجلة.
اليوم، وكما كنا دائمًا، نحن نريد كل شيء، أجل كل شيء: حريتنا الكاملة.