الإنفاق العسكري يتوسع ويوسع احتمالات الحرب

الحديث عن الأوضاع الاقتصادية للبلدان لا بدّ أن يتطرق للأوضاع المعيشية لمواطنيها، ولا يمكن تفادي الإشارة لغلاء الأسعار وضغوط الحياة على الطبقات الفقيرة وتراجع مستويات المعيشة. ولكن الحديث عن الإنفاق العسكري يختلف كثيرا، فهو في تصاعد مستمر حتى في البلدان ذات الدخل المحدود. وهناك ظاهرتان ذكرهما القرآن الكريم تمثلان مصدر قلق للنفس البشرية: الجوع والخوف.
وهذه الإشارة ترتبط بمناقشة الأوضاع المعيشية وكذلك بسياسات الدول في مجال الدفاع والأمن. قال تعالى: «وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون». إن الخشية من الجوع والخوف تلخص الشعور الذي يخالج الكثيرين وتمثل جوهر السجال الدولي حول الأمن (بشقية الغذائي والأمني). أليس هذا ما يعاني منه أهل غزة هذه الأيام، وهم يتعرّضون لسياسة التجويع التي فرضتها حكومة نتنياهو بموازاة سياسة القتل التي تحصد أرواح أكثر من 100 شخص يوميا؟ إن فرض سياسة الجوع والخوف على غزة صنع بشري بدوافع شيطانية. يحدث ذلك في عالم تكلّست مشاعره وتلاشت إنسانيته فلم يعد يشاطر الفلسطينيين ألمهم المستمر وجرحهم النازف منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن. يتساوى في ذلك الأقربون والأباعد، فلا تذرف دمعة من أحد للطفل الذي يموت جوعا أو تمزق أشلاؤه برصاص المحتلين مستخدمين أكثر الأسلحة الامريكية تطورا.
يقول التقرير السنوي الذي أصدره معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سبري SIPRI) أن عائدات مبيعات الأسلحة والخدمات العسكرية التي تقدمها أكبر 100 شركة بلغ خلال العام الماضي 632 مليار دولار، بارتفاع نسبته 4.2 مقارنة بالعام الذي سبقه. هذا الارتفاع يعكس ارتفاع التوتر والصراعات في العالم.
وتتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول المصدّرة للسلاح، وكذلك أكثرها شراء. بينما تتجه الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها العسكري والتوجه لتقليص اعتمادها على الأنظمة الدفاعية الأمريكية. فقد ارتفعت تجارة السلاح في أوروبا بشكل ملحوظ بسبب الحرب الأوكرانية المستمرة. وقد بلغ الإنفاق العسكري العالمي العام الماضي 2400 مليار دولار مقارنة بـ 2240 في العام 2023، ما يمثل ارتفاعا نسبته أكثر من 7 بالمائة. وللعام التاسع على التوالي، ارتفع الإنفاق العسكري العالمي إلى مستوى غير مسبوق بلغ 2443 مليار دولار. ولأول مرة منذ عام 2009، ارتفع الإنفاق العسكري في جميع المناطق الجغرافية الخمس التي حددها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، مع تسجيل زيادات كبيرة بشكل خاص في أوروبا وآسيا وأوقيانوسيا (وهي منطقة جغرافية تشمل أستراليا وميلانيزيا وميكرونيسيا وبولنيزيا) والشرق الأوسط. وكان لافتا للنظر ارتفاع الإنفاق العسكري لدول شمال إفريقيا، التي سجلت نمواً بنسبة 38٪ في 2023 عن عام 2022.، حيث حدثت طفرة في الإنفاق العسكري في الجزائر والمغرب.
من يصنع الحروب؟ ولماذا؟ وهل هناك حرب نظيفة؟ أم هل هناك حرب عادلة؟ من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة خصوصا في ظل مبدأ «حق الدفاع عن النفس» الذي يؤدي أحيانا إلى الحرب. ولطالما سعى الإسلام لمنع نشوب النزاعات المسلّحة، خصوصا مع وجود قوم يسعون للفتنة والحرب دائما. وما أكثر التنظيرات للحرب العادلة. وفي القرن الرابع عشر الميلادي طرح القديس أوغستين ثلاثة شروط لما أسماه الحرب العادلة.
الأول: وجود سبب عادل، كالعدوان والعمل الضار. الثاني: أن يرتكز قرار الحرب على سلطة شرعية (سلطة علمانية) وفي هذه الحالة تكون الكنيسة قد انتزعت لنفسها حق إعلان الحرب المقدسة. الثالث: هو سلامة قصد المشارك في الحرب، بحيث تكون الحرب الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق هدف عادل، مشيراً إلى استبعاد السلام من بين الأسباب العادلة للحرب، باعتبار كل طرف يشن الحرب لسلام يتوافق مع مصالحه، وهو ما وافق هوى الكنيسة.

كثيرا ما ربط المحلّلون نشوب الحرب بخطط تلك الدول التي ترى فيها ضرورة لتشغيل مصانعها العسكرية. فلولا النزاعات المسلحة لما كانت هناك حاجة للسلاح

برغم هذه التعريفات، فقد اشتعلت الحروب طوال التاريخ لأسباب شتى. وقد تفنّن الإنسان في الاستعداد لخوض الحرب، وذلك بتوفير عدّتها، والسلاح على رأس تلك العدّة. الأمر المؤذي أن كثيرا من التطورات العلمية إنما حدثت بهدف تطوير أدوات الحرب ووسائلها. ومن ذلك اختراع جهاز الكومبيوتر الذي وضع أطره عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ. لخدمة جهود الحرب العالمية الثانية. هذا العالم وجدته خادمته ميتًا في سريره، وبجواره تفاحة مقضومة، وكان قد انتحر في اليوم السابق للعثور عليه. وقد أصبحت التفاحة المقضومة شعارا لأجهزة الكومبيوتر التي تنتجها شركة «أبل «. وما تزال وزارات الدفاع في البلدان الغربية تحتضن مشاريع الأبحاث العلمية لتحقيق تطورات تكنولوجية تخدم مشاريعها العسكرية. ونظرا لمستوى التطور الذي وصلته المنتجات العسكرية، أصبحت سوق السلاح من أهم مصادر الدخل للدول الغربية التي توسّعت في مجال الصناعات العسكرية. وتكشف الأرقام ازدهار صناعة السلاح وارتفاع عائداتها.
هكذا أصبحت الحرب مصدرا أساسيا للدخل لدى عدد من الدول الصناعية الغربية. وكثيرا ما ربط المحلّلون نشوب الحرب بخطط تلك الدول التي ترى فيها ضرورة لتشغيل مصانعها العسكرية. فلولا النزاعات المسلحة لما كانت هناك حاجة للسلاح. لهذا أصبحت صناعة الطائرات العسكرية بابا واسعا للدخل، ويكفي الإشارة إلى أن الطائرة المقاتلة الأمريكية من نوع اف-35 تكلف أكثر من 75 مليون دولار. ومن خلال التصنيع العسكري الباهظ الثمن تجد الدول الأخرى نفسها مضطرة لرفع موازناتها العسكرية لتستطيع مواكبة ذلك. وتمارس الولايات المتحدة سياسة الابتزاز لضمان حصولها على الاموال من الدول الأخرى بعناوين شتى في مقدمتها الصفقات العسكرية العملاقة. وإذا كان الزعماء الأمريكيون يسعون للتكتم على ما يحصدونه من أموال الدول الأخرى خصوصا النفطية منها، فقد خرج دونالد ترامب عن ذلك وأصبح يتحدث بوضوح عن عزمه الحصول على مئات المليارات من الدول النفطية، وقال مؤخرا أن بإمكانه الحصول على تريليون (ألف مليون) دولار بهذه الطريقة.
ما شكل العالم الذي أصبحت أرقام الإنفاق العسكري فيه تتجاوز موازنات التنمية ودعم الدول الفقيرة ومشاريع دعم السلع الأساسية للمواطنين؟
فأمريكا هي الدولة الأكثر تصديرا للسلاح في العالم، تليها فرنسا وروسيا. هذا التفوق في الانتاج والتصدير يوفر لها قدرة مالية عملاقة تستخدمها لامتلاك ترسانة عسكرية تتفوق على ما لدى الآخرين. فمثلا تبلغ الموازنة العسكرية للولايات المتحدة للعام الجاري 916 مليار دولار. وفي المقابل فإن ميزانية إيران العسكرية لا تتجاوز 10 مليارات دولار. هذه الأرقام تظهر المفارقة المدهشة في الموازنات العسكرية وتستبطن بعض أسباب الهيمنة الأمريكية وقدرة واشنطن على مواجهة غرمائها في العالم. هذه السياسة لا تستهدف ما يسمى دول العالم الثالث فحسب، بل أن الأوروبيين أنفسهم يشعرون بضغطها عليهم. وكان ترامب قد كرّر دعوة الأوروبيين لزيادة الإنفاق العسكري وأن عليهم عدم الاعتماد على أمريكا للدفاع عنهم. وتعتبر الحرب الروسية ـ الأوكرانية الحدث الأخطر في السنوات الأخيرة لفحص مدى قدرة التحالف الغربي على الدفاع عن نفسه أمام التحديات الإقليمية والدولية. والواضح أن روسيا أصبحت في نظر الغربيين المصدر الأكبر للتحدي العسكري، خصوصا بعد عجز الأوروبيين عن دعم أوكرانيا بالمستوى الذي كانت تتوقعه. فقد شعرت تلك الدول برهبة حقيقية من الوضع السياسي والعسكري في أوروبا خصوصا في ضوء رئاسة ترامب الذي يحتفظ بعلاقات صداقة مع فلاديمير بوتين. ولذلك ارتفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي بنسبة 16٪ ليصل إلى 588 مليار دولار، على اعتبار أن الحرب الروسية الأوكرانية قد غيرت التوقعات الأمنية بشكل جذري بالنسبة للقارة العجوز.
فقد زادت جاءت روسيا الإنفاق الدفاعي بنسبة 24٪، ليصل إلى 109 مليار دولار. ولكن معهد ستوكهولم الدولي حذر من أن هذا الرقم أقل من المبلغ الحقيقي، مع أنه زيادة بنسبة 57٪ منذ عام 2014، عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم. كما يمثل 16٪ من إجمالي الإنفاق الحكومي ويعادل 6٪ من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا. هذا الارتفاع أصبح مصدر قلق حقيقي لدى الغربيين الذين يخشون تكرر سيناريو أوكرانيا في مناطق أخرى، وبذلك يفقدون المبادرة بشكل كامل بعد فشلهم في الدفاع عن أوكرانيا.
لم يعد سرّا القول بوجود سباق تسلّح في العالم، كما ليس هناك شك في تصاعد احتمالات المواجهة العسكرية يوما بين أوروبا وروسيا. والسؤال هنا يتمحور حول الاستراتيجية الغربية لمواجهة احتمالات اندلاع الصراع العسكري مجددا، وما اذا كانت أمريكا ستلعب دورا داعما للحلفاء الأوروبيين. ولقد أصبح واضحا أن التحسس الأوروبي من سياسات دونالد ترامب مصدر تحوّل إلى قلق متواصل لدى القادة الأوروبيين الذين تراجعت ثقتهم في إدارة ترامب. الأمر المؤكد أن زيادة الإنفاق العسكري تؤكد عمق الشعور بالحاجة للاستعداد من أجل مواجهة التحديات العسكرية المقبلة خصوصا من الشرق. فبشكل تدريجي تلاشت الثقة في المشاريع الهادفة لإحداث توازن قوى فاعل في العالم، وجاءت الأزمة الأوكرانية لتضرب تلك الثقة في العمق، ولتدفع زعماء أوروبا لإعادة تقييم أوضاع القارّة في ظل التمدد الروسي من جهة والانكماش الأمريكي من جهة ثانية.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عصام:

    تزايد الإنفاق العسكري العالمي ليس بالضرورة نتيجة لمؤامرة خفية، بل هو نتاج دينامية جيوسياسية واقتصادية تجعل من الصعب على الدول تفادي هذا الاتجاه. في جوهره، يرتبط هذا التوسع بما يُعرف بسباق التسلح، حيث يؤدي تعزيز القدرات العسكرية لدولة ما إلى شعور الدول الأخرى بالتهديد، مما يدفعها إلى زيادة إنفاقها الدفاعي بدورها، فينشأ تصعيد متبادل يغذي نفسه باستمرار. هذه الدينامية تتعزز أكثر مع التحولات في النظام الدولي، سواء من خلال صعود قوى جديدة أو تراجع أخرى، أو إعادة تشكيل التحالفات، مما يجعل الدول في حاجة دائمة إلى إعادة تقييم قدراتها الدفاعية. من جهة أخرى، يلعب التقدم التكنولوجي دورًا مهمًا، إذ تدفع الابتكارات العسكرية الدول إلى الاستثمار في أحدث أنظمة الدفاع للحفاظ على تفوقها أو لتجنب التخلف عن منافسيها، مما يخلق ضغطًا مستمرًا للإنفاق…

  2. يقول عصام:

    …كما أن الصناعة العسكرية نفسها تُعد قطاعًا اقتصاديًا حيويًا، حيث تساهم في النمو الاقتصادي وتوفير الوظائف، مما يجعل بعض الحكومات تبرر هذا الإنفاق على أنه جزء من سياسات دعم الصناعات الوطنية. في ظل هذه العوامل المتشابكة، يصبح من الصعب الخروج من دائرة التصعيد، حيث تجد الدول نفسها مدفوعة نحو المزيد من التسلح حتى وإن لم يكن ذلك الخيار الأمثل أو المطلوب، بل هو نتيجة منطقية لديناميات القوة والتنافس المستمر.

  3. يقول مهتم:

    ٦٠٠مليار ؟٢٤٠٠؟أي الرقمين صحيحا؟

اشترك في قائمتنا البريدية