الإيهام بالفهم في المدارس

حين تشتغل بالتدريس وتكون خبيرا بأحوال الفصل، فإنّك ستصبح بالضرورة عارفا بكثير من شؤون التعليم والتربية، حتى تلك المسائل الدقيقة التي لم تذكرها الكتب، ولا انشغل بها الدارسون. أغلب المدرّسين في جميع المستويات يكوّنون عبر السنوات التي يقضونها بين الفصول، معرفة قليلة أو كثيرة بأسباب صناعة التعليم، وقليل منهم يمتلكون العلم بالمبادئ النظرية لتلك الصناعة. المهمّ أنّ شغل المدرّس الشاغل في كلّ درس أن يَفهم الطلبة والتلاميذ الدّرس، وأن ينوّع الطرق التي بها يفهمهم إيّاه، لذلك عادة ما يستعمل بعض الروائز أو الوسائل الاختبارية السريعة، التي تمكنه من أن يعرف إن كان المتعلمون قد فهوا أم أنّ هناك تعطيلا ما للفهم.
ومن الروائز ما يكون أسئلة صريحة من نوع (أفهمتم؟) (من لم يفهم؟) أو ضمنية في شكل أسئلة منها الذكيّ الفطن، ومنها المزعج (من نوع من لم يفهم؟). غالبا ما يجيب المتعلمون بالإشارة أنْ قد فهمنا أو بالصوت من نوع ـ هذا مفهوم فينتقل المدرّس إلى أسئلة أخرى مطمئنا أو شاكّا في حدوث الفهم. أغلب من يجيب من المتعلّمين بالإيجاب على سؤال الفهم يفرّون من حرج السؤال، أو الفكرة السلبيّة التي يمكن أن تتكوّن عنهم: إنّهم من الفئة التي لا تفهم.
أن يتعلم التلميذ على يد مدرّس فذلك يتطلب جهدا إدراكيّا وقبولا عاطفيّا لمن يعلّم. القبول العاطفيّ مهمّ أهمّية الجهد الإدراكي؛ إذ تختلف نسبة الاستفادة من المتعلم باختلاف درجة قبوله، فكثير من المدرّسين يبذلون جهدا للقبول، لكنّهم لا يفلحون ونسبة كبيرة من اللامبالين بالعاطفة المتقاسمة مع المتعلمّين ينجحون في أن يبنوا جدرانا من الإسمنت المسلّح بينهم ومن يعلمونهم.
هناك جانب لا يذكر في قبول المتعلم في مرحلة ما قبل المدرسة أو في المراحل الأولى من المدرسة وهو الجمال. لا نعني بالجمال هنا أن يكون المعلّم وسيما فهذا من شأن الخالق لا المخلوق، على الرغم من أنّ أكبر المدارس في العالم تراعي في معلميها المنتخبين مقياس الجمال، حتى إن لم يكن مقياسا صريحا. نحن نعني بالجمال هنا ما يطبع من روح خلاقة تفاعليّة بين المعلّم والمتعلّم فيستجيب المتعلم دون عناء أو عقد من معلمه.
يمكن لهذا الجمال والكياسة أن يدفعا إلى التواصل اليومي وييسرانه إنّه، جمال مكتسب مصطنع ويمكن نحته بكثير من العناصر البسيطة. فحين يختار المعلّم لباسه بذوق رفيع ويحسب لحركاته وسكوته ولابتسامته ولطفه الحساب الصحيح فهذا من شأنه أن يجعل المتعلّم في مشهد حيّ لا يزعج هو بؤرة المعلّم النشيط.
قد تعرض في بعض مواقع التواصل الاجتماعي صورٌ مقارنة بين معلمي الستينيات ومعلمي الألفية الثالثة، عرضا القصد منه بيان ما حدث من تقهقر في الهيئة التي كان عليها الجيل السابق وبات عليه الجيل اللاحق: لقد كان لبهاء المظهر قيمة وكان جزءا من بهاء الركح الدراسي. كانت ربطة العنق حاضرة حضورا أكيدا وكان الحذاء ملمّعا وكانت السيدات أنيقات أكثر وكانت الوقفة أو الجلسة بفنّ وباتزان وبهيبة مدروسة.
تبرز دراسة أجريت في جامعة سوسيفا Suceava الرومانية على 173 تلميذا تتراوح أعمارهم بين 9 و 14 سنة تفاعلوا بشكل مختلف مع صورتين وصوتين مختلفين لما قيل لهم إنّهما أستاذتان مختلفتان؛ فكان التركيز على صاحبة اللباس الأفضل والصوت الأكثر هدوءا، وكان التلاميذ مستعدّين لأن يكونوا أكثر انضباطا وإقبالا على إنجاز واجباتهم المدرسيّة مع المعلّم الأكثر أناقة وقبولا وهدوءا، وفي كلمة فإنّ الاستنتاج الذي تصل إليه الدراسة أنّ للجمال سطوة على المتعلمين وعلى متابعتهم وفهمهم وإقبالهم على التعلّم.

في المدارس توجد خلف الدروس عقائدُ لا يمكن محوها بسهولة من بينها مثلا في درس النحو أنّ الماضي في الفعل (أكل) هو ماض لأنّه مرتبط بالزمن الفلكي الماضي؛ وليس مرتبطا بزمان لغويّ مخصوص.

في الحياة اليوميّة يتلقّى المرء الجميل أكثر ابتسامات من غيره، وفي الأماكن العامّة يمكن أن تتشارك الكرسي مع شخص جميل على أن تشارك غيره؛ ويوجد اعتقاد دائم أنّ الأجمل هو الأكثر ذكاء. لكنّ هذا ليس إلاّ حدسا؛ والمهمّ أنّ الجمال يمكن في التعليم أن يكون صناعة فمن المفيد أن نعلم أنّ التلميذ يكتشف باطنك بأسرع ممّا تعتقد ويحبّ الطيبة فيك ويراك جميلا اعتمادا على داخلك. وحين يراك كذلك فإنّه يتعامل معك بأكثر صدق وبأكثر مسؤولية، وحين لا يفهم فسيكون صادقا معك، سيصارحك وحين يفهم سيشعر بالإشباع النفسيّ.
في التعليم الجامعي يسقط كثير من هذه الاعتبارات ويسود جوّ من الرهبة أو الحريّة التي تتماشى مع سنّ المتعلّمين لن يكون للرهبة من قيمة ولن يؤثّر الجمال أو القبح كثيرا في المتلقّين، متعلّمو الجامعة أكثر براغماتية من متعلمي الابتدائي أو الإعدادي.
في درس من دروس النحو العربيّ وهو من أصعب الدروس في التعليم، وحين تتحدّث عن المفعول المطلق وكيف يتعدّى إليه الفعل اللازم سيكون كلامك غريبا وقد لا يفهمك نصيب وافر من الطلبة، لأنّهم مؤمنون بأنّ الفعل اللازم لا يتعدّى وإن تعدّى فإنّما يتعدّى بحرف جرّ. أمّا أن تعتبر قام في قولك (قام الرجل قياما) متعدّيا فتلك من مشكلات الفهم العويصة: إذ كيف يتعدّى هو اللازم من غير حرف جر؟ وكيف يسمّى المفعول المطلق مفعولا تعدّى إليه فعل لازم؟
حين تشرح بعد طول عناء أنّ المفعول المطلق تتعدّى إليه جميع الأفعال وأنّ التعدية واللزوم عادة ما تقتصر على المفعول به دون غيره وأنّ هناك أفعالا تتعدّى إليه بنفسها وهناك أخرى تلزم مرتبة الفاعل، إن أريد لها أن تتعداه قوّت تعديته بالجرّ.. سيتظاهر الطلبة بأنّهم فهموا، لكنّهم ومن فرط وقوعهم تحت عادة أو وهم علميّ فإنّهم لن يفهموا إلاّ بعد طول تدريب. الطالب الذي يصل إلى الجامعة يصل بمعطيات مسبقة من الصعب حذفها. إنّ المعرفة القديمة أو السائدة من شأنها أن تعطّل معرفة نحوية لاحقة أو معرفة صحيحة؛ فالإيهام بالفهم يمثّل أحيانا حلا للإحراج الذي يشعر به المتعلمون ولا يريدون أن يعمّموه حتى لا يتهموا بأنّهم متشبّثون بمعرفة بائدة أو بأنّهم متشبثون في المعرفة بالوجه الشائع منها والقديم والذي أشاعته المدرسة نفسها.
في المدارس توجد خلف الدروس عقائدُ لا يمكن محوها بسهولة من بينها مثلا في درس النحو أنّ الماضي في الفعل (أكل) هو ماض لأنّه مرتبط بالزمن الفلكي الماضي؛ وليس مرتبطا بزمان لغويّ مخصوص. والتلميذ لم يدرّب على الفصل بين الزمن النحويّ الذي يرتبط باللغة والخطاب والزمن الفلكيّ الذي يرتبط بحركات الفلك والذي يقال عنه أمس والبارحة والساعة السابقة واليوم السابق وهذا الزمان ليس هو الزمن الذي في الفعل الماضي. إنّ الفعل الماضي شأنه شأن الزمان المستقبل أو زمن الحال هو زمان للأحداث، يتحدّد بتجدّد زمان التلفظ به أي بالزمان الذي تنطق فيه بالكلام وهو الحاضر أو الآن. فالفعل في قولك (أكلت خبزا) هو في صيغة الماضي لا لأنّه حدث في الماضي القريب أو البعيد، بل لأنّ زمن حدث الأكل سابق لزمان النطق به أو الحديث عنه الآن. فأنت نطقت بالفعل (أكل) الآن وحدث الأكل تحدّد بالنسبة إليه أي حدث قبل زمان الحديث عنه. ولو قلت سآكل خبزا لكان نطقك سابقا لزمن حدث الأكل، ولهذا يكون الفعل معبّرا عن زمن المستقبل. حين تشرح هذه المعطيات للطلبة في الجامعة ويكونون قد تعوّدوا منذ دهور على أن يعتبروا الماضي في الفعل مساوقا لحركة الفعل في الماضي الطبيعي فإنّهم سيتظاهرون بالفهم حتّى لا يشكل الأمر معهم ومعك ومع عادتك.
خلاصة الأمر في هذا أنّ كثيرا من المتعلمين قد يوهمون بأنّهم يفهمون هذه المعطيات الجديدة لكنهم سرعان ما ينسون ويستسلمون لعاداتهم التعليمية القديمة الخاطئة.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    وأضيف، أنا رفضت الهجرة والإستثمار في الغرب، بسبب أن قالب النجاح فيه غير (حلال) أو لا يتوافق مع لغة القرآن وإسلام الشهادتين مصدر الحكمة الإنسانية بشكل عام بالنسبة لي،

    واخترت الشرق أو (تايوان) بالذات، لعدم وجود قالب واحد ومُحدّد لمفهوم النجاح، فالأساس هنا حرية تسويق الإيمان/الثقة، عكس الدول الأخرى حرية تسويق الشك/الإلحاد بشكل عام،

    ولذلك يجب مقاطعة مفاتيح الإقتصاد هذه المرة (تنجح)، بمشاركة كل واحد منّا، لو أراد دعم (الحلال) في نصر أهل (فلسطين) ممثلي ثنائية (الظلم/الفقر)،

    لأن من وجهة نظري أجمل ما في كل نموذج من نماذج حكم دول مجلس التعاون في الخليج، هو (إنتاج) منتجات هذا الموقع، الذي أرسلته يا حبيبنا أبا طلال ( الشيخ صالح السريع)

    https://theclimatetribe.com/

    الحمدلله، نجاح كل نموذج من نماذج دول مجلس التعاون، فرض تحديات حقيقية على مفاهيم الحكم الرشيد، في تحويل مفاهيم الإدارة والحوكمة لأي دولة،

    من عقلية جباية (عمولة العالة (ثقافة الأنا) لا يهم إن كانت لآل البيت أو كانت لشعب الرّب المُختار) فالنتيجة واحدة هي ثنائية (الظلم/الفقر) كما يعيشها أهل (فلسطين) في دولة الكيان الصهيوني (واحة الديمقراطية/الفوضى الخلاقة)، كما أوضح ذلك اليهودي في الرابط التالي

    https://youtu.be/ZWGGjLZNuyg?si=w5Z8N3Ij0TUfSSBp

  2. يقول S.S.Abdullah:

    منذ قيام مشروع مارشال لإعادة (الإعمار) في الشرق والغرب بقيادة أو لخدمة إقتصاد أمريكا بشكل عام، بعد الحرب العالمية الثانية،

    تراكم الحكمة/الخبرة الإنسانية، أوصلتنا إلى مفاهيم بورصة سوق أسهم العولمة/الإنترنت/الشّابِكة أو التعامل (عن بُعد) من خلال الآلة التي في يد أي إنسان (ة)، في تحقيق:

    – الشفافية.
    – اللامركزية.
    – حاضنة التقنية (الأتمتة).
    – الحوكمة الرشيدة.
    – حق تعليم لغات الأقليات نفس حق تعليم اللغة الأم، لرفع التمييز/الطبقية/العنصرية من داخل أي مجتمع أو دولة، للوصول إلى دولة السعادة والرفاهية.

    وعلى ضوء ذلك، كان منهاج دورة مشروع صالح (التايواني)، من أجل تغيير/غسل مخ الموظف/المسؤول، وتحويله من عقلية الجباية الربوية إلى عقلية تقديم خدمة أفضل/تنافس دول الجوار على الأقل من خلال:

    – الحاجة أم الاختراع.
    – لوحة المفاتيح.
    – الحرف.
    – الكلمة.
    – الجملة، لإيجاد لغة مشتركة بلا أي سوء فهم، للوصول إلى عقد/إتفاق لتكوين ثقافة النحن، من تكامل ثقافة الأنا مع ثقافة الآخر، كأسرة إنسانية، على أرض الواقع.

  3. يقول S.S.Abdullah:

    أي كلا النظامين أساسه نظام البنك المركزي (الربوي)، أي دولة (العالة)، التي تعتمد على (الجباية)، بلا أي خدمة مقابل ذلك من ثقافة الأنا لآل البيت أو شعب الرّب المُختار، أي لا تحتاج إلى مقارنة، وتقييم، بخدمات دولة أخرى،

    الإشكالية، بدأت عند قيام مجلس التعاون الخليجي عام 1980، بعد فشل السيطرة على إدارة وحوكمة (مكة المكرمة) في 1/1/1400 هجري، والذي تصادف نفس توقيت وصول (الخميني) إلى طهران على طائرة فرنسية ويقودها طيّار فرنسي، نزل متوكأ على يده، لقيادة إيران بدل الشاه، بمساعدة أموال معمر القذافي،

    الذي وقف مع البدو بعد حرب 1973، في إعلان المقاطعة ضد كل من ساعد الكيان الصهيوني في الحرب،

    وتأسيس إقتصاد البترودولار بدل إقتصاد ذهب دولار، الذي فك الارتباط به الثنائي (نيكسون-كيسنجر)، لتمويل حرب فيتنام، بلا تغيير قيمة عملة الدولة في أمريكا، أليس كذلك، أم لا؟!

  4. يقول S.S.Abdullah:

    الآن كل عملة في أي نظام اقتصادي أساسه النظام الربوي، يعاني من هزات ذبذبة العملة كالزلزال الطبيعي الذي حصل في مملكة المغرب أو إعصار ليبيا في عام 2023، من وجهة نظري على الأقل، هل هناك من يريد حل، أم لا، نحن (أنا وأنت) بدأنا العمل في توفير الحل عام 1999/2000، في شركة مع أولاد الشيخ محمد محمود الصواف، على أسس لغة القرآن وإسلام الشهادتين، أليس كذلك، أم لا؟!

    أي بمعنى آخر يا م سمير الخزرجي:

    هل صيغة تدوين سؤال في عنوان مقال الكاتبة/الأكاديمية/المرأة العراقية د نادية هناوي بالذات، صحيح (المثقف والسياسي: ندان أم سيان؟) https://www.alquds.co.uk/?p=3252995

    في جريدة القدس العربي، البريطانية، في سياق ما يحدث في فلسطين، بعد طوفان الأقصى يوم 7/10/2023، بالذات، أم لا؟!

    بمعنى آخر، أولاً أين الحركات، على كل حرف، لمعرفة أي معنى مقصود، من جمع كلمات السؤال، في سؤال، أي لمنع أي سوء من الفهم/التأويل/التفسير، من البداية،

    أو بمعنى آخر، مسؤولية من، سوء (التدوين اللغوي) الحالي، في وسائل الإعلام، إذا لم يكن هذا عملية مقصودة من (الغش/الفساد) أو سوء التكوين في مناهج تعليم أي (لغة) أو ترجمة بين اللغات الإنسانية، في دولة الحداثة/الآلة/البيروقراطية بشكل عام، أم لا؟!

  5. يقول S.S.Abdullah:

    لتوضيح ما أقصد

    https://youtu.be/E5uUooD7_w0?si=3DThZfEYxpl2xG5v

    وكذلك

    https://youtu.be/8d1xRMAbPbU?si=UAsiHFX_QAOP62fR

    لأن نحن في حاجة داخل أجواء بورصة سوق العولمة/الإنترنت/الشّابِكة، حيث (التعامل عن بُعد) هو الأساس، إلى تطوير مفهوم التدوين اللغوي، حتى نرفع أي سوء فهم/تأويل/تفسير، بين أي مثقف أو سياسي أو رجل أو مرأة داخل أي أسرة أو مجتمع أو دولة، إذا أردنا تحسين/تصحيح/رفع أي سوء فهم/تأويل/تفسير في الوصول إلى دولة الأسرة الإنسانية السعيدة،

    ومن هنا أهمية شركة دولة سوق صالح الحلال، حيث لا غش في بضاعة ولا تعدي على حقوق أي طرف من أطراف أي عقد شراكة/أسرة لتكوين أي مجتمع أو دولة في أجواء بورصة سوق العولمة/الإنترنت/الشّابِكة على أرض الواقع، على الأقل من وجهة نظري ( أنا: صهيب صالح عبدالله).😉🤨
    🤑🙉🙊🙈🧠🤖

اشترك في قائمتنا البريدية